بيت الأحزان.. وآهات من يغضب الله لغضبها


جميل ظاهري

روى اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حديث طويل ما يدور على أصحاب الكساء نقلاً مما سمعه من رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، إذ قال كان رسول الله صلوات الله عليه ذَاتَ يَوْمٍ جَالِساً إِذْ أَقْبَلَ عليه الحن والحسين وفاطمة وعلي، وكلما رآى احداً منهم ضمه الى صدره وبكى واستعرض ما سيجري عليه من محن ومصاب من بعده.. حتى وصل الى ابنته فاطمة روحه التي بين جنبيه فضمها النبي وبكى شديداً وقال: “… وَأَنِّي لَمَّا رَأَيْتُهَا تَذَكَّرْتُ مَا يُصْنَعُ بِهَا بَعْدِي وَ كَأَنِّي بِهَا وَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهَا اَلذُّلُّ فِي بَيْتِهَا وَ اُنْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا وَغُصِبَتْهَا حَقَّهَا وَمُنِعَتْ إِرْثَهَا وَ كُسِرَ جَنْبُهَا وَسَقَطَ جَنَيْنُهَا وَهِيَ تُنَادِي وَا مُحَمَّدَاهْ فَلاَ تُجَابُ وَتَسْتَغِيثُ فَلاَ تُغَاثُ فَلاَ تَزَالُ بَعْدِي مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً فَتَذْكُرُ اِنْقِطَاعَ اَلْوَحْيِ عَنْ بَيْتِهَا مَرَّةً وَتَذْكُرُ فِرَاقِي أُخْرَى وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا جَنَّهَا اَللَّيْلُ لِفَقْدِي وَفَقْدِ صَوْتِي اَلَّذِي كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَيْهِ إِذَا تَهَجَّدْتُ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ تُرَى ذَلِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عَزِيزَةً… فَتَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ اَلْحَيَاةَ وَتَبَرَّمْتُ بِأَهْلِ اَلدُّنْيَا فَأَلْحِقْنِي بِأَبِي فَيُلْحِقُهَا اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فَتَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَتَقْدَمُ عَلَيَّ مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً مَغْمُومَةً مَغْصُوبَةً مَقْتُولَةً فَأَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ اَللَّهُمَّ اِلْعَنْ ظَالِمَهَا وَعَاقِبْ مَنْ غَصَبَهَا حَقَّهَا وَأَذِلَّ مَنْ أَذَلَّهَا وَخَلِّدْ فِي اَلنَّارِ مَنْ ضَرَبَهَا عَلَى جَنْبِهَا حَتَّى أَلْقَتْ وَلَدَهَا فَتَقُولُ اَلْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ آمِينَ…” – جاء في الفضائل لإبن شاذان- ج1 ص8، والجويني في فرائد السمطين، ج2 ص34 و 35 ح 371، والذهبي: ميزان الاعتدال، ج1ص139 ترجمة رقم: 552، والصفدي: كتاب الوافي بالوفيات، ج6 ص17 ترجمة رقم: 2444، وابن حجر: لسان الميزان، ج1ص268، ترجمة رقم: 824 ، وعوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآیات و الأخبار والأقوال , جلد 11 , صفحه 573، وفي الهداية الکبرى , جلد 1 , صفحه 178، الباب الثالث باب سيّدة النساء عليها السلام، والمعارف لابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب ج3 ص352 – النسخة الصخرية القديمة، وفي كتاب المعارف ص211 لابن قتيبة، وبحار الأنوار/ ج 28 ص 38 نقلاً عن أمالي الصدوق 99،راجع ما يذكره فيه في سير أعلام النبلاء ج15 ص676 للذهبي، والشهرستاني في الملل والنحل ج1 ص59 والصفدي في الوافي بالوفيات ج6 ص17 ، والجويني (ت 730 هـ) وآخرين لا يسع المقال لذكرهم جمبعا.
أيام معدودة لم تتجاوز الأشهر الثلاث من رحيل سيد المرسلين رحمة للعالمين الحبيب المصطفى واذا باهل المدينة ينهالون حقداً وضغينة وعنفاً وجوراً وظلماً على أهل بيته وذريته الأطهار عليهم السلام رغم أنه أوصاهم قائلا “أني تاركم فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا”.. ليجري ما جرى على البضعة الطاهرة سيدة نساء العالمين الصديقة فاطمة التي نعيش هذه الايام ذكرى استشهادها الأليم ما دفعها بالشكوى لوالدها عندما اقتاد كبارهم الوصي علي لأخذ البيعة عنوة منه، فنادت ” يا أبت يا رسول الله!.. ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب، وابن أبي قحافة!!” – عبد الفتاح عبد المقصود في كتابه (الإمام عليّ بن أبي طالب) ص225.. وذلك بعد الهجوم على دارها الذي كان النبي يستأذن الدخول له ، روى الحادثة العقد الفريد ج2 ص250، وتاريخ أبي الفداء ج1 ص156، وأعلام النساء ج3 ص1207 ، وتاريخ الطبري ج3 ص198، والإمامة والسياسية ج1 ص13، وشرح ابن أبي الحديد ج1 ص134، وذكره ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ص19.
أي ظلم لحق بأهل البيت عليهم السلام خاصة حبيبة النبي الكريم بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى بفترة وجيزة جدا ً فقد آذوها وأغضبوها وضربوها وصوت نبي المودة والمحبة لايزال يدوي في ازقة وبيوت المدينة وهو ينادي في المسلمين “فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى الله” – شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١٦ – الصفحة ٢٧٣؛ لا لشيء سوى مخالفة لأمر الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى اهل بيته واصحابه الاخيار وما اوصى به في واقعة غدير خم وما سبقها في المباهلة وغيرهما، وإبعاد من أوصى به أن يكون خليفة من بعده دون فصل عن حقه الشرعي والالهي طمعا باللسلطة والقوة والقيادة ولاغتصاب الخلافة منه، فهجم القوم على بيت فاطمة واحرقوا بيتها وكسروا بابها ودخلوا جبرا ولطموا خدها وكسروا ضلعها وقد نبت المسمار في صدرها واسقطوا جنينها ولبوها فدكها…نعم حدث كل ذلك الذي قاله والدها خير البشر لأبنته سيدة نساء العالمين وعلى يد كبار الصحابة بعد رحيله دون مبالاة أو خوف من الله سبحانه وتعال وعقابه.
سجّل بعض الصحابة أرقاماً فاقت حدّ التصور في الإحداث والانقلاب بعد الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الأخيار، فكانوا مصاديق لقوله لى الله عليه وآله وسلم:” ليردنّ عليّ الحوض رجالٌ ممّن صحبني ورآني، حتى إذا رفعوا الي ورأيتهم اختلجوا دوني، فلاَقولنّ: ربّ أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، انهم ارتدوا على أعقابهم القهقري “، وفي لفظ آخر:” فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم”؛ ليؤكد انقلابهم على أعقابهم ما أخرجه الواقدي ومالك من حديثه (ص)حين صلّى على شهداء أُحد فقال:” أنا على هؤلاء شهيد”. فقال أبو بكر: ألسنا يا رسول الله بإخوانهم، أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا؟ فقال صلوات الله عليه:”بلى، ولكن لا أدري ما تُحدِثون بعدي”.
لم يكتف القوم بكل تلك المصائب التي كالوها على أم أبيها وبضهته وروحه التي بين جنبيه، بل تعدوا في القساوة وبالغوا في ظلمها وأذيتها، فإذا باولئك الذين كانت تقف فاطمة الزهراء (ع) تبكيهم وتستغفر لهم في صلاة ليلها وتنادي ربي “جاري ثم داري” يأتون أمير المؤمنين عليا (ع) وتحت ضغوط الجهات المعادية ليشكوا بكائها على والدها خير البشرية من الآولين والآخرين.. الأمر الذي دفع بالمظلومة الزهراء سلام اله عليها اللوذ باريكة شجرة خارج المدينة وبمعية ولديها الحسن والحسين لتبكي خارج حشود من يسمون أنفسهم بمسلمين فقدان والدها رسول الله (ص)، ولكن الأمر لم يروق لمن ناصب العداء لآل بيت رسول الله (ص) وجلاوزتهم آنذاك وقطعوا تلك الشجرة بكل ظلم وطغيان.. والامام علي أمير المؤمنين عليه السلام يقول: بينما أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله إذ التفت إلينا فبكى! فقلت: ما يبكيك يا رسول الله فقال: “أبكي مما يصنع بكم بعدي.. فقلت: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خّدها، وطعن الحسن في الفخذ، والسم الذي يسقى…وقتل الحسين”- آمال الصدوق، والبحار:28- الدمعة الساكبة .
واصل أولئك الذين انتحلوا حلة الاسلام متصدين للقيادة زييفاً ونفاقاً وتزويراً، وجلاوزتهم المجرمين من بني أمية وغيرهم ممن انطووا تحت يافطة الاسلام بقوة سيف علي، ليدفعوا بالسذج من الملمين ليشدوا بالشكوى لأمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام، وضع حد لاستمرار فاطمة بكاء أبيها خيرالبرية مما دفع بأبي تراب للقيام ببناء بيت لخير نساء الدنيا والآخرة من خصف النخل بعيداً عن أنظار أهل المدينة وآذاهم ويحميها من حرارة الشمس وبرد الصحراء لتركن له بنت الحبيب المصطفى وتنحب والدها سيد القوم ومنجيهم خاتم الرسل والمبعوثين محمد صل الله عليه وآله وسلم وهو القائل: “إنَّ فاطمة شجنة منِّي، يؤذيني ما آذاها، ويَسُرُّني ما سرَّها، وإنَّ الله تبارك وتعالى يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها” – المناقب : ج3 ، ص 333 .
وبيت الأحزان وحده يعرف ويعلم ويشهد ما جرى على فلذة المصطفى وأم الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وزوجة حامل لواء الرسول ووصيه بالحق دون فاصل ومنازع الامام علي عليهم السلام اجمعين، وهو الذي خاطب أهل المدينة في خطبة وقوع الفتن: “ألاَ إنّ أخوف ما أخافا عليكم خلّتان: اتّباع الهوى، وطول الاَمل.أمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأمّا طول الاَمل فينسي الآخرة. ألاَ إنّ الدنيا قد ترحّلت مدبرة، وأنّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة، ولكلِّ واحدةٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وأنّ غداً حساب ولا عمل.. وإنّما بَدْءُ وقوع الفتن من أهواء تُتَّبع، وأحكام تُبتدع يُخالَفُ فيها حكم الله، يتولى فيها رجالٌ رجالاً. ألاَ أنّ الحقّ لو خَلَصَ لم يكن اختلاف، ولو أنّ الباطل خَلَصَ لم يُخف على ذي حجى؛ لكنه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث، فيمزجان فيجللان معاً، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى…”- من الخطبة 50 في نهج البلاغة
قبل إلتحاقها ببارئها الى جوار أبيها لسبب ما عانته من مصائب وآلام كثيرة نتيجة عصرها بين الباب والحائط في يوم الهجوم على دارها، والذي تسبب بدخول المسمار في ضلعها وإسقاطها لجنينها، وسلبها فدكها، ومنعها من البكاء على رحيل والدها، وشكوتهم بيت الأحزان وحتى شجرة الآراك التي أمر الثاني بقطعها، قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا الى فاطمة فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلّماه فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها الى الحائط، فسلَّما عليها فلم تردّ عليهما السلام، وقالت: “أرايتكُما إنْ حدّثتكُما حَديثاً عن رسولِ اللَّهِ صلوات الله عليه تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نَشَدتُكما اللَّهَ ألم تسمعا رسولَ اللَّه يقول: رضا فاطمة من رضاي وسَخَطُ فاطمةَ من سَخطي، فمن أحبّ ابنتي فاطمة أحبّني، ومن أسخطَ فاطمة أسخطني، قالا: نعم، سمعناه من رسول الله.. فقالت: فإنّي أُشهد اللَّهَ وملائكتَه أنّكما أسخطتُماني وما أرضيتماني، ولَئِن لقيتُ النبي لأشكونكُما إليه، فقال أبو بكر: وأنا عائذ بالله من سخطِه يا فاطمة، وهي تقول: والله لأدعونّ عليكَ في كلّ صلاةٍ أُصلِّيها”- رواه آبن قتيبة في “الإمامة والسياسة” نقلاً عن السيدة عائشة، وكذا جاء في “الاحتجاج”، و”معاني الأخبار”، و”شرح النهج” لإبن أبي الحديد، وأمالي الشيخ، وفي “كشف الغمة” عن صاحب كتاب “السقيفة”.
[email protected]

شاهد أيضاً

قمم عربية ليس لها اي قرارات…

بقلم/حميد الطاهري عقدت قمم عربية في الماضي والحاضر وليس لها اي قرارات صارمه ضد عدوة …