حديث بالماضي حول لبنان كانه حصل الان، مقال يوضح الكثير من الخفايا التاريخية

بقلم ناجي أمهز

هناك أمل ضئيل للغاية أن تلتقي صدفة مع شخصيات، قد لا يجود الزمن بمثلها، مع أنهم بشر مثلنا بشكلهم الخارجي، لكن عقولهم عبارة عن ذاكرة من الخوارزميات المعقدة.

عندما تجلس مع هؤلاء الناس وتصغي إلى شرحهم وتشريحهم لفكرة ما، أو حديثهم عن حقبة تاريخية معينة، ونظرتهم للمستقبل والتاريخ وصراع أو حوار الحضارات والغاية منه، أو حتى طرح فلسفتهم ببعض زوايا الحياة، وفهمهم لبعض المفاهيم البشرية وتقييمهم وتوصيفهم للأشخاص، وحتى نقاشهم في الأديان والأساطير، ستجد نفسك كطفل يقف أمام أحجية كبيرة، بل إنها طلاسم ومفاتيح لن يدرك أسرارها إلا من تعلم قواعدها الأساسية.

لماذا أكتب هذا المقال وهذه المقدمة، لأخبركم وأبين لكم كيف تحكم هذه الفئة على الأمور.

في بداية التسعينيات، سالت أحدهم عن لبنان واستقلاله، فقال لي: الاستقلال اللبناني هو من أغرب الاستقلاليات التي عرفتها البشرية، بما أنه لم يحصل أي تصادم أو اقتتال ولا حتى مقاومة بين الموارنة والفرنسيين، بل الموارنة هم الذين شجعوا الفرنسي على القدوم إلى لبنان لإنقاذه (عام1912) من الاحتلال العثماني فإن استقلال لبنان يعتبر هدية الأم الحنون فرنسا للموارنة، حيث قالت لهم هذه الأرض ستكون من هذه الحدود إلى هذه الحدود هي دولتكم، ولكم فيها كل الصلاحيات من تعيين البواب حتى تعيين مجلس النواب، ونحن الفرنسيون نتكفل بكل المتطلبات من دعم التعليم حتى الدعم السياسي في المحافل الدولية.

يعني استقلال لبنان، يبقى قائما طالما الماروني هو الذي يحكم، وبحال تغير حكم الماروني هل يبقى الاستقلال، بحال نظرت الى لبنان كحجم جغرافي وما عاشه من حروب اهلية ومتناقضات طائفية ووطنية تدرك ان لبنان اساسا لا يملك مقومات الاستقلال، وهو دائما بحاجة لمن يدعمه ويرعاه كما حال الأردن تماما، وكي تحافظ على بلد كلبنان اقله من الانهيار التام، تحتاج أن يكون لديك مرونة كبيرة لتجمع بين الطوائف، وعلاقات دولية عميقة وضاربة الجذور، والماروني بحكم علاقته المتينة بالغرب منذ مئات السنين، نجح بالحفاظ على دعم الغرب لفترة طويلة، إنما تعاطيه الداخلي مع بقية الطوائف لم يكن بالمستوى المطلوب سياسيا وانمائيا (حتى يومنا هذا تعاني مدن وقرى من غياب التنمية)، كي يحافظ على لبنان الماروني، مما أوصلنا إلى الحرب الأهلية التي تطورت إلى اقتتال ماروني ماروني، لذلك الموارنة هم السبب الحقيقي في تغير لبنان.

وقد مارس الموارنة ضغوطا كبيرة على الإدارة الأمريكية كي تدعم التدخل السوري في لبنان (1976)، وهذا الأمر كاف لإعلان أن لبنان لم يستطع أن يحافظ على استقلاله، والأمريكي وافق على التدخل السوري بناء لطلب الموارنة من البوابة الشمالية، لانه يعرف عاجلا او اجلا سيتدخل الاسرائيلي من البوابة الجنوبية، تحت حجة التوازن والردع (اجتياح العدو الاسرائيلي1982)، وهذا ما حصل، وإقرار الغرب باتفاق الطائف هو إعلان نهاية حكم الموارنة للبنان. (أذكركم هذا الحديث كان 1994)

أحيانا كثيرة كنت أتساءل كيف تجاوز الفرنسيين (عام 1860) كل الصعاب وأرسلوا آلاف الجنود لمقاتلة المسلمين والعثماني معا، دفاعا عن المسيحيين الموارنة بينما اليوم الغرب كله يتفرج، وكأنه موافق على إضعاف الموارنة.

وأنا أتفهم (الحديث لأحدهم وبالمناسبة هو ماروني) أن يصبح طموح الماروني اليوم هو فيدرالية تمتد لبضعة كيلو مترات، كون الذين يقودون اليوم الموارنة هذا حجمهم، أما بالأمس كان الماروني حجمه أكبر من حجم لبنان، لذلك كانت تسمية لبنان الكبير.

على كل حال منذ 1977 لم نشاهد يوم الاستقلال إلا بصورة رمزية ( إبان الحرب الأهلية) جميل أن تعود تباشير الاستقلال، لكن هل الاستقلال يدوم، لا أتصور فإن الهجرة الكبيرة للموارنة (منذ عام 1990 حتى  حصلت هجرة كبيرة استمرت 1998) تشير أن لبنان سيكون خاليا من هذا التواجد المسيحي اقله للنخبة الثقافية والاقتصادية، فالمسيحي الذي لديه علاقات كبيرة مع صناع القرار بالغرب يعرف أن لبنان الذي نعرفه تغير للابد، ويجب التعايش مع لبنان الجديد.

لكن يبقى السؤال، ما هو البديل للماروني، فالدروز وان كانوا يتمتعون بعلاقات دولية فاعلة أسسها جنبلاط، إلا أنهم أقلية للغاية وهم خارج الجغرافية اللبنانية لن يكون لهم وجود مؤثر نسبة لعددهم الضئيل، والشيعة رغم كثافة عددهم في الداخل اللبناني إلا أنهم يفتقدون إلى العلاقات الدولية.

(ويكمل المتحدث) إذا الذي يبقى من لبنان كنموذج هو الامتداد السني، لذلك وافق الغرب على اتفاق الطائف وأن تنتقل كافة الصلاحيات من الماروني إلى السني، فالمكون السني اللبناني حتما ليس له علاقات دولية كبيرة الحجم كالماروني، إنما يكفيه عمقه العربي، وبما أن غالبية العرب هم مع المشروع الغربي إذا سيكون من الطبيعي أن يحكم المسلمين لبنان دستوريا، لكن هل يقبل الماروني بهذا المتغير بعد ان يجد صلاحياته اصبحت شكلية ونفوذه تحجم، خاصة ان ما اتفق عليه بين رئيس الجمهورية الماروني، بشارة الخوري، ورئيس مجلس الوزراء السنّي رياض الصلح على ميثاق ظلّ شفهياً لم يعد يصلح في هذا الزمن.

“وأكمل”، في هذه الحياة لا يوجد ثوابت ولا حتى الأوطان، فأنت أفكارك اليوم ليست مثل التي كنت تحملها بالأمس، كل شيء تشاهده في هذه الدنيا هو نسبي، واستقلال الدول لا يكون إلا بالدم، والذي يقدم الدم هو الذي يجب أن يحكم ليبني وطنا يعيش مائة عام وأكثر كما حصل مع الثوار الأمريكيين على الإنجليز، والمقاومة الفرنسية ضد النازيين.

(حينها لم يكن حصل التحرير في الجنوب، لكنه يشير ان الذي يحفظ الاستقلال هو الذي يحرر بالمقاومة.)

“ويكمل” اما الدول التي أخذت استقلالها بالاتفاقيات واخضعت نفسها لدساتير غريبة عن عاداتها وتقاليدها كما انها دساتير مستوردة لا تحاكي هواجس وتطور شعوبها، فهي حتما لن تكون قادرة على الاستمرار، وقريبا كل هذه الاستقلاليات سوف تنهار وتتغير الجغرافيا يا صديقي.

انتهى النص.

وفعلا، لو طالعنا الدستور العراقي الذي وضعه الاحتلال الأمريكي عام 2005 كنموذج، وتأملنا حال العراق اليوم لوجدنا أن العراق يعيش أكبر أزمة وجودية كيانية، إذا كل ما فعله الأمريكي، أنه طالب من الشعب العراقي بموجب الدستور أن تصبح كل عرقية فيه دولة، ويجب على هذه العرقيات ان تتناحر وتتقاتل حتى دمار العراق نهائيا، والمفارقة أن الجميع يدافعون عن دستور وضعه المحتل.

شاهد أيضاً

ضاهر: “نطالب وزير الصناعة بالاعتذار علنا عن الإساءة لجدعون وتشويه سمعته”

قال النائب ميشال ضاهر في بيان صدر عنه: “بعد حوالى 11 شهرًا على إحالة المدير …