فشل امريكا واوروبا في مواجهة بوتين

د. أحمد الزين

من أمثال العرب: الحرب سجال، وان ايام الدنيا هي دول بين الناس.. وهذا ما يؤكده القرآن الكريم، حيث يقول: {.. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ..} (آل عمران، 140)، وهي حقيقة وبيان لسنّة من سنن الله الجارية في كونه بين البشر، بغض النظر عن الإيمان والكفر، اي ان اوقات الظفر والغلبة واوقات الشدة والمحنة ندوالها بين الناس ليبتلي الله عباده بالامتحان والابتلاء – المؤمنون والكافرون على حد سواء.
ومن الشواهد والوقائع الدالة على هذا المعنى وهذا المفهوم هو ما شهدناه خلال عقد من الزمن: أي قبل عشرة اعوام تكالبت امريكا واوروبا على الدول العربية والاسلامية وشعوبها.. مصدرة إليها ارهابها وعقوباتها وحروبها مع نشر الفتن الطائفية والتفرقة القومية والجرائم المتنقلة.. عبر مسميات شتى منها ما وصف وقتها بثورات “الربيع العربي”.. ومنها ما نودي أثناءها بشعارات زائفة وادعاءات كاذبة لدعم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان.. كانت تخفي وراءها أهداف مخفية لإضعاف وتمزيق وتقسيم الوطن العربي اكثر مما كان ضعيفا وممزقاً ومنقسما.. وظنّوا أنه من خلال امتلاكهم الاسلحة الفتّاكة وتعاظم قوتهم وبأسهم لن يقدر عليهم أحد.. ويستطيعون أن يفرضوا الذلّ والهوان والاحتلال ويستخدمون الإرهاب لإخضاع تلك الدول العربية الضعيفة لإرادتهم.. ولكن العناية الإلهيّة تتدخل، ويلطف الله تعالى بعباده المظلومين والمستضعفين.. ويدفع عنهم كيد المستكبرين وظلم المتجبرين.. وينتقم من المجرمين والطاغين الذين طغوا في البلاد وقهروا فيها العباد، فأكثروا فيها الفساد.. والله يقول: { .. ۚإِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (السجدة، 22)، فأتاهم الله تعالى من حيث لم يخطر لهم ببال او بحسبان.. فأبتلاهم بحاكم جبار أشدُ منهم قوة وبطشا { .. كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ..} (غافر، 21)، أخرج الله تعالى لهم “بوتين” من عالم غيبه، الذي وقف شامخا وصامدا وتحداهم بقواته العسكرية وثرواته النفطية والغازية وقدراته النووية.. وظنّوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله لن يُغلبوا، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.. لله دَرُّك يا بوتين، لقد أرعبت الغرب وصدمت الشرق، وحيرت العقول، وأذللت الامريكيين وأخضعت الاوربيين وهزمت الاوكرانيين شرّ هزيمة، واقتلعت النازيين الجدد واليمينيين العنصريين، وغيّرت حدودهم وحدود اوروبا.. فأخذهم الله جميعا بعقوبته وعدله.. بما كسبت أيديهم من الفساد والقتل، ويقول: {..فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر، 42).
فانظر كيف تكتوي امريكا بنار بوتين وتتمزق بازمة الطاقة وارتفاع اسعار النفط والسلع.. وكيف ساهم مع الدول المنتجة للنفط في منظمة “أوبك+” بتخفيض انتاج النفط بمليوني برميل يوميا.. رغم ممارسة الضغوط الامريكية على “السعودية”، ومحاولات الرئيس بايدن لوقف هذه الخطوة.. مما رفعت اسعار النفط العالمية التي أرهقت الامريكيين وسببت خسائر للشركات الاميركية بمليارات الدولارات، وزادت من معدل التضخم الامريكي، وارتفعت تكاليف المعيشة، مما أثّرت على انخفاض شعبية بايدن وخسارة رصيده السياسي.. التي من تبعاتها تقليل فرص نجاح حزبه الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الشهر المقبل، وقد ينتهي به المطاف مثل نهاية المجرم ترامب معزولا مهزوما ذليلا..
وانظر كيف تحترق اوروبا بنار بوتين وتنقسم دولها وتتمزق مجتمعاتها جراء ازمة الطاقة والغاز والشتاء الاوروبي القارس والركود الاقتصادي وزيادة التضخم وهبوط العملات الاوروبية وانخفاض النمو الاقتصادي، وغلاء الاسعار والمعيشة… وتصاعد الغضب والمظاهرات والاضطرابات والتخبط والفوضى وغياب الاستقرار السياسي والسياسات الناجحة والرؤى الاصلاحية الاقتصادية.. كل ذلك بسبب افتقار القارة العجوز للزعامات الكفوءة والقيادات التاريحية العظيمة.. مما أدى الى تتابع الاستقالات للوزراء ورؤساء الحكومات وتغييرها.. وفقدان السيطرة والقيادة والعجز في معالجة الازمات.. جعل أوروبا تعاني من الضعف والانهاك والارتباك وتصدّع انظمتها السياسية والادارية والمالية والاقتصادية واتجاههم نحو التدهور والسقوط والانهيار والتفكك.. {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر، 14).
لقد فشلت امريكا وأورويا في مواجهة الرئيس بوتين، وها هم اليوم {.. يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ..} (الحشر،2)، كما وصفهم القرآن الكريم، بسبب كيدهم وعنجهيتهم وتعصبهم الاعمى وسياساتهم الفاشلة وإتخاذهم قرارات خاطئة بفرض العقوبات على روسيا التي أتت بنتائج عكسية، وارتدت عليهم سلبا وضررا وخسائر.. ومما زاد الطين بلة، هو دعمهم السياسي والعسكري والمالي المتواصل لاوكرانيا المهزومة على حساب شعوبهم المُنهكة ونقص خزائنهم النقدية واحتياطاتهم الاستراتيجية وازماتهم الاقتصادية المتتابعة ودولهم المتضعضعة.. ووضع العالم وأسواق المال والطاقة والاقتصاد على شفير الهاوية.
هذا عدل الله تعالى الذي الذي وعدنا به، وعد غير مكذوب، حيث يقول: {.. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال، 30)، اي ان الظالمين والقوى العالمية الاستكبارية يمكرون باطلا ويخططون شرّا وخبثا وظلما ويؤذون ويقتلون الناس غيلة.. ولكن الله تعالى يردَّ مكرهم وظلمهم وجرائمهم عليهم ويعذبهم بأيديهم. لان الله تعالى هو خير الماكرين بحق أي هو أفضل المخططين والمدبرين بلطفه وعنايته وأعدل الحاكمين برحمته وعدله.
يشهد العالم اليوم تغييرات كثيرة وأزمات كبرى، حيث تتبلور بوادر مخاض ولادة مرحلة جديدة من تاريح البشرية مع صعود قوى عالمية متعددة جديدة كالصين وروسيا وإيران والهند وغيرها.. وولادة نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب والقوى والايدلوجيات.. قد يؤدي الى تغيير هيكلية مجلس الأمن الدولي حتى يعكس التنوع في العالم (كما قال بوتين في خطابه أمس في موسكو أمام منتدى فالداي السنوي)، على سبيل المثال: إلغاء نظام حق النقض الظالم (الفيتو) للقوى الخمس الكبرى، وتقويض سطوة الدولار الاحتكاري وإستبداله بعملات متعددة، يكون بداية نهاية زمن الهيمنة الغربية واستعمار واحتلال الاوطان ونهب الثروات وقيادة الاحادية القطبية الامريكية للعالم.. وقتها ينفي الحاجة والضرورة الى خوض حروب باردة وناعمة وصلبة جديدة.. ويبشرُ بعالم أكثر عدالة وإنصافا وحرية وديمقراطية.. ويسنّ قوانين دولية ومواثيق أممية جديدة اكثر مصداقية وإلتزاما بالقيم الإنسانية وبثوابت التسامح والانفتاح.. ويؤمن بتنوع الثقافات وتعدد الامم وتعايش الأديان.. ويحملُ بشائرا وحلولا مستدامة لتحقيق الرفاهية للشعوب والامن والاستقرار والسلام للبشرية جمعاء.

شاهد أيضاً

التطبيع العربي: بين هزيمة الكيان الصهيوني وانتصاره

أ.د.فرح موسى*  عُقدت قبل أشهر القمة الإسلامية بوحي النصرة لفلسطين،واستمع العرب والمسلمون إلى خطاب الوحدة …