لحسن خلقه حرّموا الاحتفال بذكرى مولده الشريف

*جميل ظاهري*

كانت البشرية جمعاء تعيش فترة عصيبة من تاريخها، وقد ضلَّتْ طريق الْهدى والرشاد، وانحرفَت عنِ الفطرة الالهية والمنهجِ الربانِي؛ فجاء مولد الصادق الأمين الشريف ليكون الرحمةَ الاليهة المهداةَ والسراج المنير للبشرية قاطبة، ليجعل الله سبحانه وتعالى علَى يديه سعادة وخروج البشرية من الظلمات الَى النورِ، ومن الضلالة الى الهدى، ونشر الخير والفضيلة والعلم والمعرفة والاخلاق الحسنة والتعامل الرفيع بين الناس؛ فكان مولده محمد صلوات الله سلامه عليه وعلى آله وصحبه الأخيار إيذاناً باندحار الباطلِ والشر، والضلالة والاظلام، والقبلية والصنمية، والجهالة والعدوان، واعلاناً بظهور الحق والخيرِ والحب والسماحة والطيب والتعايش السلمي.
ليست أم القرى فحسب بل العالم بأسره كان على موعد مع حدث عظيم له تأثيره في مسيرة البشرية جمعاء وحياتها، وسيظل نوره يشرق على الكون، ويرشد بهداه الحائرين، حتى قيام الساعة.. حيث مهد الله سبحانه وتعالى وأعد الأسباب والعلامات والمعجزات الباهرات لميلاد حبيه وخليله محمد بن عبد الله (ص) النور المشرق تسهيلاً لمهمته الجليلة ورسالته العظيمة التي تحمل الحب والولاء، منذ اللحظة الأولى في حياته، بل إنها كانت قبل تجلي ذلك بعقود، من أسمه المبارك وحتى مسيرة نموه وتربيته وحياته ورعايته ومن قبل كل ذلك الدلائل والبراهين الواضحة لمولده الميمون .
ففي 17 من ربيع الأول من عام الفيل (571) تشرف الكون بميلاد سيد الخلق وخاتم المرسلين الحبيب محمد الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين، ذلك العام الذي كتبه التاريخ بلون ذهبي مشرق بعدما اندحر “أبرهة” وجيشه الجرار الذي جاء به لمكة بغية هدم الكعبة وكانت تلك أول علامة وخصيصة خصها البارئ المتعال لميلاد الصادق الأمين (ص)؛ ثم ارتجاس أيوان كسرى وسقوط أربعة عشرة شرفة منه، وخمدت “نار فارس” بعد عمر أكثر من ألف عام، كما وغاضت بحيرة “ساوة” – جاء في كتاب “هواتف الجان” حيث قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي‏‏:‏ حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران – من آل جرير بن عبد الله البجلي – حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 328‏)‏.
الحدث العظيم هذا غير مَجْرَى التاريخ رغم عودة أصحاب السطوة والفرعنة وهواة الضلالة والشرك والوثنية وعباد الدرهم والدينار وأئمة التحريف والتزييف والتزوير ما أن فارقت روحه الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه هذه الدنيا الفانية وبدأت مصائب أهل بيته الأطهار عليهم السلام وشيعته وأنصاره وأعوانه تدب منذ “رزية الخميس” وحتى يومنا هذا.. ومن هنا تنطلق مكاتب التزييف والانحراف بفتواها الضالة المضلة التي لا صلة لهم بالإسلام لا من قريب ولا من بعيد، مدعومة بأنظمة قبلية جاهلية ديكتاتورية قمعية؛ للإفتاء ومنذ عهد ليس ببعيد بحرمة الاحتفاء والاحتفال بذكرى مولد خير البشرية وسيدها وأفضلها خلقاً وخلقاً، وأكثرها محبة ومودة وانصاراً والتفافاً لدعوته السمحاء المليئة بالمودة والإخاء والتعاون والتعاضد والسلام وحرية التعبير عن الرأي؛ كون أن كل ذلك يغيظها ويغضبها ويزيدها نقمة وسخطاً على خاتم المرسلين الحبيب المصطفى محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين.
“وأنك لعلى خلق عظيم”- القلم:4، لن تقف عند المسلمين وحدهم بل اتسعت واجتاحت جميع الأديان الاخرى لانها قول الباري تعالى ممتدحاً حبيبه وخاتم رسله للبشرية، فكانت انطلاقة لتفجير غضب الطلقاء ومتحديهم اليهود في الجزيرة العربية لتتجذر نسلاً بعد نسل حتى عصرنا الحاضر حقداً وحسداً على الرسول المصطفى وأهل بيته الاطهار، فخرجوا ببدعة حرمة الاحتفال بذكرى مولده الشريف بغضاً وكراهية وانتقاماً لما سلبتهم اخلاقه من محبة وشيعة بين البشرية بعد أن وقف الجميع على إجرامهم وديكتاتوريتهم وسطوتهم وتمييزهم القبلي والعنصري والمناطقي والمذهبي فولد منهم الإرهاب التكفيري طيلة القرون الماضية.
ولعل أن ما كتبه فلاسفة ومفكري العصر بخصوص أخلاق وسياسة بني الرحمة والرأفة والمودة زاد من حقد وكراهية أتباع الخط الأموي، فباتوا يصرون بإصدار فتاوى التكفير لتفريق وحدة صف المسلمين وشرخ تعاضدهم.. دوا أن يعدوا أن المسلمين الأحرارا جعلوا من مولد رسول المحبة والمودة والأخلاق السامية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، الدليل والمنهج والأسوة لحياتهم المعاصرة، ذلك المولد المبارك الذي كان ثورة على الظلام والجهالة والظلم والرق والقبلية الصنمية واستقواء القوي على الضعيف.. ليكتمل ببعثته مبعث خير ونجاة وتغيير لركام العقائد الفاسدة والمناهج الكاسدة؛ وبنبوته مفتتح حياة من الجهاد والعمل والتحرر من الاستبداد والاستعباد؛ و تعد هجرته الشريفة نقلة حضارية لبناء دولة المساواة والإخاء والتعاون وإرساء دستور المدينة الفاضلة الحقيقية، تلك الدولة التي قامت على بسالة شباب خيرة صحابته وبطولاتهم وإيمانهم ووفائهم وصمودهم فحريٌّ بنا أن نتخذ من سيرته العطرة منارة لمستقبل تعمه العدالة وإحترام الحقوق والحريات الإنسانية ويسوده الرخاء والتماسك والتعاون والسلام والاطمينان والاستقرار ورفض كل أنواع العنف.
المفكر الفيلسوف الفرنسي “ألفونس دو لامارتين” هكذا يصف الحبيب: “النبي محمد (ص) هو النبي الفيلسوف المحارب الخطيب المشرع قاهر الأهواء وبالنظر الى كل مقاييس العظمة البشرية أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد (ص)؟؟”؛ كما يرى الأديب البريطاني الشهير “هربرت جورج ويلز” أن “النبي محمد (ص) أعظم من أقام دولة للعدل والتسامح”.. لكن لضيق المقال لا يسعنا التطرق لكل ما قيل في هذه الشخصية العبقرية الكبيرة ولكن نتساءل هنا ماذا فعل الصحابة مع الرسول الأعظم (ص) في حياته وبعد مماته وكيف أنهم نكثوا كل ما قال وأوصى به وماذا فعلوا بريحانته الوحيدة سلام الله عليها وذريته عليهم السلام ووصيه الأوحد بلا فصل الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام من بعده.
كان صلوات الله وسلامه عليه وعلى اهل بيته واصحابه الاخيار، يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية.. ولم يبسط رجليه بين أصحابه قط.. كان عندما يصافحه الرجل لم يترك يده من يده حتى يكون ذلك الرجل التارك.. كان رؤوفاً ورحيما في تعامله حتى بمن عادوه وسلوا السيف بوجهه وحاربوه وقتلوا وتسببوا بأفعالهم الاجرامية من فقدانه خيرة أهل بيته (زوجته خديجة وعمه حمزه وعمه أبو طالب و..) في يوم فتح مكة ونادى المنادي “اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشاً.. ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، و…” بعد كل المصائب التي تحملها منهم.. هذا ما أغضبهم أكثر وزاد من حقدهم وكراهيتهم له بدلاً من محبته والتفاف حوله حيث القوم قوم كره وعداء وقتل وغارة وخديعة نفاق وخيانة.
عشرات بل مئات المؤرخين والمفكرين كتبوا في خلق الحبيب محمد ورأفته ورحمته وهو القائل “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، ولضيق المقال لا يسعنا التطرق لكل ما قيل في هذه الشخصية العبقرية الكبيرة.. حتى قال المؤرخ الأميركي الشهير “مايكل هارت” في كتابه “أعظم مائة شخص في التاريخ”.. “ان اختياري لمحمد،  ليكون الأول بين أهم وأعظم رجال التأريخ ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التأريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين : الديني والدنيوي . ولأنه أقام الى جانب دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كلَ أسس حياتها، ورسم أمور دنياها ، ووضعها في موضع الانطلاق الى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية ، وأتمهما”.. لكن دعونا نتساءل هنا ماذا فعل الصحابة مع الرسول الأعظم (ص) في حياته وبعد مماته وكيف أنهم نكثوا كل ما قال وأوصى به وماذا فعلوا بريحانته الوحيدة سلام الله عليها وذريته عليهم السلام ووصيه الأوحد بلا فصل الامام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام من بعده.
عادت الجاهلية والظلمة والقبلية والوثنية لتتسلط من جديد على الأمة العربية كما كانت قبل بزوغ شمس الهداية الربانية لترفع من مستواها الفكري والاجتماعي والحضاري بعد أن كان الجهل والأمية والخرافة تسيطر عليها وتعبث في عقولها ومعتقداتها، وهو ما جاء في وصف الله سبحانه وتعالى رسالة نبيه الاكرم (ص) بقوله:” قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” سورة المائدة الاية 15و16؛ إلا قليلاً منهم الذين كانوا على دين إبراهيم وموسى والمسيح عليهم وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام حيث كما صفهم القرآن الكريم ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ” – سورة آل عمران الآية 110.
لكل هذا أختلق أعداء الصادق الأمين محمد صلوات الله وسلامه عليه على اهل بيته اصحابه الكرام مختلف روايات الزيف والتحريف والتزييف عن واقع الاسلام المحمدي الأصيل حتى أنهم تمادوا باعلانهم حرمة الاحتفال بذكرى مولد سيد البشرية وخاتم المرسلين الحبيب محمد المصطفى (ص) نبي الرحمة والمودة والرأفة الألهية والسراج المنير، في وقت تؤكد الحقيقة الدينية أنه ليس “بدعة محرفة دخلت الاسلام”، كما يدعي احفاد الطلقاء وذوات الرايات خوفاً من وقوف الأمة على الحقائق الملوثة بزيف فتاواهم لينقلب السحر على الساحر وتشرق شمس الحرية في ربوع بلداننا؛ بل إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو تذكير بقيم الخير والفضيلة وتعظيم وإظهار الحب والود لخاتم الرسل (ص)، ومن أبرز مصاديق “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”؛ وتذكير بقيم الخير والفضيلة وسنة حسنة كما قالها الشهيد السعيد الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ثم كبيرهم أبن تيمية في كتابه (إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ) وقوله: “فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم”.
کما يصادف يوم 17 ربيع الأول ذکرى ولادة الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام المبارك السادس من أئمة أنوار الهدى والتقى في المدينة المنورة من سنة 83 من الهجرة، حيث شكل مع آبائه الطاهرين الميامين حلقات متواصلة مترابطة متفاعلة تتصل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشکلون مدرسة وتجربة حية تجسد الاسلام الاصيل وتطبق فيها احکامه وتحفظ مبادؤه.. الائمة من أهل البيت عليهم السلام ورثوا العلم إبناً عن أب عن جد حتى ينتهوا الى أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي قال رسول الله (ص) فيه: “أنا مدينة العلم وعلي بابها”، وهو بذلك ينتهي الى النبي الأكرم وهو الوارث لعلومه ومعارفه وحكومته.
*[email protected]*

شاهد أيضاً

إيران: نؤكد وجود مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة في مسقط

ممثلية إيران لدى الأمم المتحدة تؤكد الأخبار المتداولة بشأن مفاوضاتٍ غير مباشرة بين طهران وواشنطن …