السواء والاختلاف وزمن الكورونا ” كتاب يلخص تجربة حية للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى (4)

السواء والاختلاف وزمن الكورونا” كتاب للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى، التي سألت في مقدمة كتابها:

أو ليس ما أكتبه جدير بالقراءة؟؟؟”

بلى يا دكتورة بهاء، ما كتبته جدير وجدير جداً بالقراءة..

لماذا؟

لأنك أستمديتي حبرك من نبض القلب،  وكانت حروفك دعاء صلاة. ولأنك ببوحك أخترقتي الروح ورفرفتي في فضاءات إنسانيتنا بإتزان الصبر وحولتي مشكلتك إلى إنتصار لم يكن لك شرف نيله لولا مجيء أميرتك “زينب” لتجعل ما تعلمتيه وتخصصتي به وما تدرسينه لطلابك فعل مقدس زاد من قدرتك وقدراتك، فأنتصرتي في الميدان ونلت الوسام الأعلى، مما جعلك في رتبة رفيعة ورفيعة جداً على الأقل أمام نفسك، رغم كل العذابات والآلام التي صهرتك، فكشفت عن نفاسة جوهرك، وكنت كل البهاء، كنت بهاء الأم الأمثولة الجديرة بالإحترام..

لن أكتب عن كتابك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا” لأنني بصراحة عاجزة أن ألملم مشاعري المبعثرة، وبالتالي أترك للقارئء أن يكتشف عطمة قدرات الإنسان عندما يكون إنساناً بالمعنى الرسالة الذي جاء إلى الجياة من أجل تحقيقها، فإما الفشل وإما النجاح الذي أنعم الله به عليك، فكانت تجربتك وكان كتابك الذي كلما قرأته أجد فيه مساحة جديدة من البلاغة والعفوية والمعرفة والثقافة والإنسانية المكللة بالعلم والصبر. التي سيلمسها القارئ جلية في تحفتك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا“…

فاطمة فقيه

الحلقة الرابعة:

 

الطفل – الداون: أنا هنا

 

ها أنا الطفل-الداون أصبحت بينكم، هي حقيقة راسخة تفترض مسارا جديدا وطرقا مختلفة في التعاطي عن الطفل الآخر السوي، مولد هذا الطفل يستدعي ردات فعل مختلفة لدى الأبوين والعائلة الكبرى، في احد لقاءات «الجمعية اللبنانية للداون سيندروم» وفي حلقة من الكلام المفتوح للتعبير عن المكبوتات، نماذج متعددة من الأهالي عادوا بالذاكرة إلى الوراء، أفصحوا عن مشاعرهم وعن معاشهم مع هذا الواقع الجديد، منهم من كان على دراية بالأمر واستعدّ اثناء فترة الحمل لاستقبال لحظة الولادة هذه، ووضع أفراد العائلة بخصائص هذا المولود الجديد القادم، ومنهم من فوجئ بالأمر وكان وقع الصدمة كبيرا لدرجة اخفاء الأمر احيانا وخلال الأشهر الاولى من حياة المولود، حتى استيعاب الموضوع وتقبّله من قبل الأهل بداية كي يصار إلى مصارحة العائلة لاحقا… ومنهم من استقبل هبة الله بكل ايمان وقبول، وتم التعامل مع هذا المولود الجديد كأيّ طفل عادي، دون طرح الكثير من التساؤلات والغوص في التفسيرات التي لا تغير من واقع هذا الطفل-الرسالة من الخالق، والذي يجب ان يربى أسوة بالأطفال الأسوياء العاديين…
أنا كنت من فئة الذين صدموا بالواقع الجديد، دون اي معرفة مسبقة، أو استعداد للمواجهة.. أنا التي رفضت اجراء «الفحص الأميوني» مخافة الاجهاض أو خسارة ابنتي، التي كنت موعودة بها على الرغم من أنني أجريت هذا الفحص في حملي الأول بابني!!! هذه الولادة اذن كانت قدرية، كان لا بدّ لها أن تحصل، كان لا بدّ لهذه الطفلة ان ترى النور، ان تقدم على هذه الحياة وهي مختلفة، ولكن كيف لي أن أقبل هذا الاختلاف؟ أنا التي كنت أعد نفسي بطفلة مرسومة في خيالاتي، أتماهى انا بها، تشبهني، أرى نفسي من خلالها كما سائر الأمهات، تصبح صديقتي يوما ما وأبوح لها بأسراري، اجعلها أميرتي على الدوام.. في لحظة كل هذا يتهاوى، انها الولادة- الموت لكل ما هو متخيل ومنتظر، موت الأحلام والتوقعات، موت الرؤيا والمسار، ولكن لا بدّ من اعادة الاحياء!!!.. احياء المختلف الحاضر هنا، وموت السوّي الذي أصبح هناك، في عالم آخر علينا ان نبتعد عنه قليلا، لنأخذ بيد هذا القادم الجديد الذي لا يدري شيئا سوى انه بحاجة للاحاطة والحب والحنان، حتى لو انه «خريط» كل المنظومة الأسرية… نعم فما بعد هذه الولادة ليس كما قبلها، كل شيئ تغيّر، لحظة هذه الولادة سادها الصمت والوجوم بدل الفرح والورود، فالصدمة اقوى من الجميع، والأنفاس محبوسة، والتساؤلات تكمّ الأفواه لماذا، كيف، ماذا وماذا بعد؟؟ موقف جديد وتجربة جديدة تضع الجميع امام التحدي وفهم وقبول الاختلاف، اما أنا وفي مكاني – طريحة فراش المستشفى- تمرّ أمام ناظري لحظات سيناريو الحياة- الموت، كيف كنت وكيف أصبحت، كيف مرت تسعة أشهر الحمل بوتيرتها واستعداداتها وهواجسها، وكيف أنا الآن في سريري أرقب الجميع والأشياء من حولي، خوف، حذر، صمت، ارتياب، ابتسامات باردة والقليل القليل من الكلام.. كنت أهرب من كل هذا إلى آلامي، نعم، ألم الولادة القيصرية صار ملاذا ومحمولا ولا تبرّم منه أمام ألم المجهول الذي ينتظرني…
لم يكن مجهولا تماما، بل كنت أعلم الكثير عن عالم الاختلاف من خلال دراستي النظرية له في اختصاص علم النفس، الآن، يفتح الباب واسعاً أمامي وأسمع صوتا يقول: انتهى النظري وبدأ العملي، وما كنت تهربين منه قد وقعت فيه!!!… ولا مفرّ من المواجهة… مواجهة الخوف والشعور بالعجز والفشل ومواجهة الذات بالأساس… افكار متداخلة تراودني وشريط صور يعبر في ذاكرتي، يجمع الماضي بالحاضر ويبقي طرف المستقبل متدلّ بانكسار… وأستفيق من خضمّ كل هذا على تدخل رقيق من الممرضة لجعل الدواء يجري بانسياب في المصل، للتخفيف من حدّة الوجع ومحاولة النوم قليلا… وما أرحمك أيّها الوجع الجسدي أمام الألم النفسي؟!؟ فالوجع الجسدي تداوى آلامه بأيام، بأشهر، بسنين اما ذاك النفسي فقد يدوم ويدوم ويدوم… ما لم تتضافر الجهود ومن جهات عدة لتضميده والحدّ من نزفه الدائم… وما يزيد من حدّته وقع الصدمة، فصدمة المولود المختلف لم تكن في الحسبان، بالرغم من كل هواجسي أثناء الحمل، فوعيي حتما كان يرفض فكرة الاعاقة والاختلاف، لم أكن مهيّأة لذلك أبدا والصفعة كانت قوية، صفعة اختلّ لها كياني وأدخلتني في دوامة التساؤلات والتشكيك بالذات ورسم علامات الاستفهام حول الغد والمستقبل… كيف ستكبر هذه الطفلة؟ما هي العقبات التي ستعترض تربيتها؟ كيف سيتقبلها الآخرون؟ كيف سيؤثر وجودها على دينامية حياتنا الأسرية؟ وكيف سأرى نفسي من خلالها؟ هذه الطفلة التي كنت أنتظرها لسير الدرب سويا بصحة وفرح وجمال، أنزع من أمامها أشواك الحياة، أراها تحقق احلامها وبعض احلامي ربما، نتبادل أسرارنا وأشياءنا، أرقب خفاياها العاطفية وأنتظر اليوم الموعود، فهي ستكون عروس حياتي!!! كل هذا تبخّر مع لحظة الولادة – الصدمة وأصبح نسجا من خيال!!!
عليّ الآن ان أتخلى عن أحلامي، ان أكون اكثر واقعية، ان تكون قدماي راسختين في الأرض، وأن أتمسك بسلاح الصبر والعزيمة لمقارعة كل الصعاب، وان أكون أنا من ذوي الارادة الصلبة كي أستطيع رعاية طفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة…وهذا أمر ليس بالسهل بل هو فعل علم ومعرفة واستفسار ومثابرة، وفعل حبّ وايمان ايضا… ايمان بأنّ لهذه الطفلة حقا بأن تحظى بفرصة عيش كما غيرها طالما قُدِّر لها ان تبصر النور، لتترك بصمة في هذه الحياة، وفعل حب الذي هو الأساس لأي قبول أو لأي تعامل انساني. فكم بالحري اذا كان هذا التعامل بين أم وطفلتها، هذا الحب الغريزي الذي شقّ طريقه تسعة اشهر حتى يصل إلى هذه اللحظة الكاشفة للحقيقة، حقيقة خالفت التوقعات وشرّعت الباب لرحلة جديدة، أسافر فيها مع ابنتي إلى عوالم اخرى ما كانت قبلا في الحسبان…

يتبع

شاهد أيضاً

هل من جديد عند غزة وجبهات الاسناد؟

ميخائيل عوض بينما المنطقي في الاجواء والمناخات الإعلامية  ان تستعجل غزة والمفاوض الفلسطيني المفوض من …