نعي فقيد الشباب والإغتراب الأستاذ زاهد محسن كامل مهدي . المتوفَّى في المهجر تاريخ ٧ آب ٢٠٢٢

من الغربةِ إلى التّربة

بقلم: علي رفعت مهدي

مَهَاجِر الأحبَّة

 

 

وعاد ابن العم زاهد محسن مهدي “ابو عليّ ”
مسجًّى في تابوتٍ خشبيٍّ … خشبهُ من شجرِ المهجر والغربةِ …
عاد ” من الغربةِ إلى التُّربة “…
وما اقساها من عودةٍ !!!
أخذتْهُ السَّماءُ ذات قرارٍ بالرحيل والهجرة …
منذ خمسةٍ وثلاثين عامًا … حين قذفهُ وطنُه خارجَ آفاقِ الحياة فيه … وحين طعنتْهُ أسِنَّةُ حرابِ زمرةِ الفساد في صميمِ قلبه ، ودفعتهُ إلى الهجرةِ والإغتراب … خلف حدود الشَّمس ، حيثُ لا تصلُ عينٌ ولا يُــدركُ خبر ..
” عاد ذات يوم مع ” السَّماء ….
أخذته السماءُ “منا في الفتوَّة العنيفة، وفي العنفوان الأشدّ في الخطوة الواثقة ” …
وأعادتْهُ السماء ذات يوم الينا على غير ما أخذته منَّا ” …
في طائرةِ الموتِ والدَّمعِ والحزنِ والإنكسار والفجيعةِ والمصيبةِ والآلام…
وكنَّا في الإنتظار ….
لم يشأ أن يضمَّه تراب المهجر والهجرة والغربة والإغتراب واللوعة … وأوصى _ حين اجتاحه المرض العضال _ أن يعودَ ليُدفنَ في ترابِ لبنان وتراب مقبرة علي النهري المحتضِن لوالده المعلِّم الحاج محسن كامل مهدي المربِّي لأجيالِ العلم والمعرفة والتربية ثلاثينيات القرن الماضي ولجدَّيه الحاج كامل مهدي وزلفى المذبوح وعمَّيه رفعت وعلي مهدي ولنبض قلبه فقيد الشباب أخيه حسين ، ولروحه التي فارقها قسرًا الى بلاد الغربة والهجرة وآب ليكون جارها وأنيسها تحت التراب الوالدة الحنون الحاجة ام ماجد بدر العريبي ، ولقرة عينه ملاك الطفولة مجد بيار العريبي نجل أختِه رجاء الحبيبة …
عادَ أبو علي زاهــد ، الزاهـــدُ في كلِّ ما في الدُّنيا إلى الوطن الفقير المنهك المُتعب المسلوب والمصلوب على خشبِ طغاةِ الفسادِ والنَّهب والسرقة والدَّفع بالنَّاس إلى تلمُّس كل الطرق والوسائل والمنافذ للهجرةِ وراء حدود الكون وخلف أساطير ” الغنى ” في الغربةِ، آبَ مهيض الجناح مكسور الخاطر، ساكن الأطراف مطبق العينين، وحين وقعت عيناي على تابوتِه الخشبيّ في مطارِ الدمع والمعاناة والهجرة والرحيل ومناديل الوداع طافت بخاطري كلمات الأديب فؤاد سليمان الذي ما أجاد أديبٌ قبلهُ وبعدَه في توصيف مأساة الأحبَّة الذين هجروا الوطن والأحبة المنتظرين من الأمهات والأخوات في سفرِهِ الرائع ” درب القمر ” وفي مقالتِه “مغاور الزُّمرّد والياقوت” التي ذكر فيها مأساة المهاجرين الذين اغتربوا وهاجروا خلف البحار والكنوز المرصودة، فلم يجدوا سوى القهر والعذابات وآلام امتدَّت من لحظةِ رحيلهم حتى إيابهم في توابيت خشبيَّة :
” البنيات الصبايا مكسورات على الشبابيك عيونهن في البحر وراء الحكاية!
متى يعود حبيبي؟ متى يعود أخي…. متى… متى !!
ما غصَّت في الأرض أمٌّ مثلما غصت أمهات شباب بلادي ترمي بهم على كفّ العفاريت على الموج،خلف الشّمس على البحار السّبعة، حيث لا تصل عين .
رباه! رباه! من علّم الناس في هذه الأرض حروف تلك الحكاية، فإذا بها في ساعة الزمن مأساة مصبغة بالدم والدموع،مأساة طويلة من الآلام لا أول لها ولا آخر….لا تنتهي….بلى أولها هنا في هذه الشطوط وآخرها هناك في”مغاور الزّمرد والياقوت” (1)
وإنِّي على يقين الرؤية والمعرفة أدركُ يا ابن العم أنَّ الوالدة الراحلة (أم ماجد بدرالعريبي )عاشت كلّ غصص اللوعات والأحزان والفقد والبكاء والنَّحيب منذ فـقـد سندها ورفيق درب جهادها وتضحياتها العم ابو ماجد محسن كامل مهدي في شهر آب من العام 1971، وهو في ريعان شبابه وقمَّةِ عطائِه حين توقَّف نبض قلبه عن الخفقان فخلفَّكم أيتامًا بين يديّ أنبلِ بدرٍ في عالم التَّضحيات، هذا البدر الذي سرعان ما ودَّع الأحبَّة ماجد وحاتم إلى بلاد الاغتراب منذ أكثر من اربعين عامًا، ثمَّ عاد وودَّعك وعائلتَكَ … وكرَّت سبحة وداع الأولاد والأحفاد غربةً وموتًا كما في فقدها لعريس الشباب الاستاذ حسين محسن مهدي عام 2003 ولمجد بيار ورجاء . وفي كلِّ هذه المأساة كنتُ أنظرُ للسماء التي حملتكم الى المهاجر وأتمنى لو أنَّ درب السماء لم يكن علينا … ولم يظلِّلنا … ولم يختطف أو يسلبَ منَّا كل الأحبة … أحبَّة المهاجر … واختناق دمع المحاجر …
” ليت الخشبة اللبنانية الأولى التي خشّت في البحر، تكسرت في عب البحر في الريح والموج،ولم تسمع أمواجه خشيش ضلوعها !!
ليت دربك يا بحر،لم تكن علينا، فقد عمرنا على دروبك قصورًا مذهّبة القباب، فابتلعت امواجك قصورنا وأكواخنا…ولم يبق لنا الا هذه الآفاق البعيدة، ننظر اليها، لعل فيها زورقاً يعود لنا بحبيب، من مغاور الزّمرّد واليواقيت ….!! (2)
وها أنا يا ابن العم العائد في تابوتٍ خشبيٍّ اردِّد ليت درب السماء لم يكن علينا بطائرات هجرته …وأناشد السماء أن تردَّكم سالمين غانمين من بلادٍ احتضنتكم إلى وطن وبلدٍ لفظكم خلف آفاق الكون وتراني أردِّد مع فؤاد سليمان :
ردّهم يا بحر، ردّهم من هذه الغربة الطّويلة المريرة ! ردّهم من مجاهل الغابات، فقد يبست جلودهم من وهج الحر ووخز البرد. وتفسخت ارجلهم من المشي في الليل والنهار،وانسلخت أكتافهم، وانحفرت سلخات عميقة في اللحم.
ردّهم من مناجم الفحم،من أنفاق الأرض،من السّراديب،فقد اسودّت ضمائرهم وقلوبهم ووجوههم،وجعدت الآلام جباههم.
ردّهم يا بحر، ردّهم الى نور الشمس في بلادهم….الى حقول الزّهر في قراهم…الى الينابيع الصافية يعبّون فيها الصّحة والعافية….
الى الكروم التي هجروها فهجرتها الخيرات والبركات….الى البيوت التي عمّروها على التلال والسّفوح وراحوا….
الى أرضهم يا بحر ردّهم،فأرضهم فيها الكنوز المرصودة.أرضهم فيها الزّمرد والياقوت والعقيق والمرجان وحبّات الذّهب…وبركات السّماء كلها في أرضهم …
….أمس….ودّعت أنا أحبَّاء من ضيعتي، راحوا وراء الحكاية الرّائعة، إلى جبال ” الزّمرد والياقوت “.
فليتَ دربَك يا بحر لم تكن علينا ” (3)….
ويبقى لي ولكلِّ الأحبَّة ( يا ابن العم ) أن نتساءَل في زمنِ الجوع والفقدِ والموت والمرض والأوبئة والخوف والضعف والهوان والذل والإحتكار والمهانة والإذلال والنِّفاق والجشع والطمع والنَّهب والسرقة للأحلام والأمال والسلب لكل المقدرات والطاقات والتشريد لكلِ الطامحين الى غدٍ أفضلٍ ومستقبلٍ واعدٍ بالحياة كما كنتم تأملون :

” تسألني: وماذا عندكم في ضيعتِكُم بعدُ؟
عندنا ضوء القمر والنّجوم….وعندنا من الخير هذه المقبرة التي يرقد فيها اولئِك المباركون الأتقياء…” (4)
بلى ايها الحبيب … عندنا هذه المقبرة التي وقفتُ الى جانبك ذات يومٍ ناظرين قبور الغوالي ، حين همست في أذني ” يا ابن عمِّي انا مهما شرَّقت وغرَّبت … إذا متُّ في غربتي … وصيتي أن تدفنني هنا ” …. ومن عظيم الصدف أنكَ حيث اشرتَ لي ايها الحبيب الغالي الراحل الجميل …. حفرنا قبرك … ودفناك !

علي رفعت مهدي – علي النهري – 22 ايلول 2022 .
___ (1-2-3-4) راجع كتاب درب القمر – فؤاد سليمان .

شاهد أيضاً

إعلام الاحتلال عن مسؤول سعودي: أي هجوم في رفح سيُبعد التطبيع بين الرياض و”تل أبيب”

مصدر في العائلة المالكة السعودية يكشف للإعلام الإسرائيلي أنّ الرياض حذّرت “تل أبيب” من أنّ …