“السواء والاختلاف وزمن الكورونا ” كتاب يلخص تجربة حية للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى (2)

السواء والاختلاف وزمن الكورونا” كتاب للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى، التي سألت في مقدمة كتابها:

أو ليس ما أكتبه جدير بالقراءة؟؟؟”

بلى يا دكتورة بهاء، ما كتبته جدير وجدير جداً بالقراءة..

لماذا؟

لأنك أستمديتي حبرك من نبض القلب،  وكانت حروفك دعاء صلاة. ولأنك ببوحك أخترقتي الروح ورفرفتي في فضاءات إنسانيتنا بإتزان الصبر وحولتي مشكلتك إلى إنتصار لم يكن لك شرف نيله لولا مجيء أميرتك “زينب” لتجعل ما تعلمتيه وتخصصتي به وما تدرسينه لطلابك فعل مقدس زاد من قدرتك وقدراتك، فأنتصرتي في الميدان ونلت الوسام الأعلى، مما جعلك في رتبة رفيعة ورفيعة جداً على الأقل أمام نفسك، رغم كل العذابات والآلام التي صهرتك، فكشفت عن نفاسة جوهرك، وكنت كل البهاء، كنت بهاء الأم الأمثولة الجديرة بالإحترام..

لن أكتب عن كتابك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا” لأنني بصراحة عاجزة أن ألملم مشاعري المبعثرة، وبالتالي أترك للقارئء أن يكتشف عطمة قدرات الإنسان عندما يكون إنساناً بالمعنى الرسالة الذي جاء إلى الجياة من أجل تحقيقها، فإما الفشل وإما النجاح الذي أنعم الله به عليك، فكانت تجربتك وكان كتابك الذي كلما قرأته أجد فيه مساحة جديدة من البلاغة والعفوية والمعرفة والثقافة والإنسانية المكللة بالعلم والصبر. التي سيلمسها القارئ جلية في تحفتك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا“…

فاطمة فقيه

الحلقة الثانية:

 

 

الاختلاف ومشوار الحياة

أليوم وبعد كل هذه السنوات، كأنني به بالأمس، ذكرى الولادة لا تزال ماثلة أمامي: ألصدمة، ألخوف، ألبكاء، ألتساؤلات، ألانتظار والاقتناع… لا أزال أذكر عند خروجي من المستشفى وفي السيارة التي كانت تقلّني صدحت أغنية لعمرو دياب، كم كانت جميلة هذه الأغنية وكم كنت غير قادرة أن أستمتع بها، لأنّ الشعور بالراحة كان غريباً ومستهجناً عليّ حينها، كان الطقس خريفياً والهواء يلاعب أوراق الشجر في الخارج، ولكنني كنت أشعر بغليان داخلي وحرارة تذيب الألم ذوبانا، كنت أراقب المارة وأحسدهم لأنهم لا يعانون ما أعانيه، هذه المسافة القصيرة اختزلت لي واقعي الجديد، فعالمي أصبح مغايراً، خاصاً ومختلفاً عن العوالم الأخرى، عالم لم أكن على استعداد له ولا يشبه بشيئ بساطة الأشياء في الخارج…

أمّي التي هربت اليها، إلى الحضن الذي يحمي، إلى الأصول، أمي التي لم تعي تماماً اختلاف ابنتي، أضحى عليها رعايتي أنا وليس ابنتي- المولودة الجديدة التي لازمت المستشفى، أنا التي أصبحت لا حول لها ولا قوة، كمولود جديد يتلمّس الحياة من خلال جسد، نظرة وبسمة الأم…أنا الأم المجروحة كيف أنظر إلى أمي؟ أنت يا أمي أنجبت اطفالاً أصحّاء وأسوياء أما أنا فماذا أنجبت؟ أنا لست مثلك ولن أكون صورة عنك ولن أتماهى بك… ترى هل ألعب دور الممانعة معك وهل انجاب هذه الابنة هي علامة استفهام على مدى صحة علاقتي بك عبر كل المراحل؟ أنا-أنت هذه العلاقة الساكنة سوف يسكنها الضجيج بعد الآن ولكن ما همّ!!!

تمرّ الأيام وأمي تمسك بزمام أموري وأمور ابنتي لاحقاً عند خروجها من المستشفى، ابنتي تحظى باهتمام الجميع إلاّ أنا المنكفئة المتخلّية عن مسؤؤلياتها، وكأن هذه الولادة لا تعنيني وغير قادرة على مسك زمام الأمور… إنها الولادة – الموت، موت أحلامي وتطلعاتي مع هذه الأبنة المولودة حديثاً والتي قضت على كل توقعاتي لدرجة التقوقع ولوم الذات وانسداد الأفق…

وتمضي الأيام برتابة وفي محاولة للتأقلم مع الواقع الجديد، تداعيات الصدمة لا تهدأ ارتداداتها بالرغم من محاولات الجميع المساعدة على احتواء «الأزمة» والتعامل بواقعية، فهذه أمي يفرض عليها إيمانهاً القبول بنعمة الخالق وشكره على كل شيئ، وتحثّني على رعاية ابنتي والاهتمام بها…وهذا أبي الذي كان يستعجل زواجي وانجابي يعد تردّد وتأجيل، ربما كان على صواب في مسألة العمر والانجاب، فهذه المولودة القادمة على أعتاب الأربعين من عمري تحمل في طيّات إصابتها أحد العوامل المسببة لمتلازمة داون وهو التأخر في سن الانجاب… أبي المنفتح على العلوم والمعارف لا أزال أذكر كيف أوصاني بالاهتمام بابنتي كما أهتم بايني، مؤكداً أنّ التقدم في المجال الطبي سيعينني حتماً في تربية ابنتي وانّ الجميع جاهز لمساعدتي ويقصد بذلك أخوتي-الأناث والذكور- فتعاطفهم كان سيّد الموقف… الجميع لا دراية له بشؤون الاعاقة، ولم يفهموا لم حصل ذلك… ولكن الواقع ها هنا اليوم، يفرض نفسه بمولودة جديدة بحاجة للرعاية والاهتمام شأنها شأن جميع الأطفال، أما المستقبل فترتيب أموره يأتي لاحقا. ففي اللحظة الآنية، هنا والآن، يجب دعم الأم – أنا كي تستطيع دعم ابنتها. حاولوا إدارة الأمر بواقعية والتخفيف من غلواء الحدث، كلّ حسب طريقته وشخصيته، وما كان يؤسفني حقاً إنّ هذه الولادة بدل من ان تكون مناسبة سعيدة لجمع الأهل والأحبة، كان الدمع سيد الموقف لأنني كنت عاجزة عن التعبير بطريقة مغايرة…

دون شك مساندة الأسرة كانت ضرورية وحاسمة في تلك الأوقات، لمساعدتي على الخروج من الشرنقة التي كانت تكبّلني… أمّا الزوج المصدوم والمجروح بنرجسيته فقد اختار الصمت عنواناً له.. صمت يختزل الألم الدفين إذ لا جدوى للكلام… أيّ كلام لن يجدي نفعاً ولن يعيد اللحظة إلى الوراء، إلى ما قبل الولادة، حيث كان كلّ شيئ يأخذ مساره الطبيعي، فاللاسواء أو الاختلاف فكرة ما كانت عالبال، فكيف يمكنه الآن المواجهة؟ صمت، حزن، انعزال ثم الغرق في أتون العمل، ليعود لأبنته، طفلته التي يحبها حتماً ويخاف على مصيرها ولكن لها عالمها الخاص الذي سوف يلزمه الوقت الكثير ليتآلف معه ويقبل به بصمت أيضا…

ابني، سرّ بقائي، كان في عين العاصفة، حزن أمه كان صعباً عليه فهمه، فابن الثلاث سنوات لا يعي تغيّر مجريات الأمور من حوله، أين الفرح الموعود به بولادة أخت له؟لم أمه بعيدة عنه والآخرون يهتمون به؟ لِمَ أمه لا تودّعه وتستقبله في أوائل أيامه المدرسية؟ كنت أتجنب النظر اليه كي لا يرى الدمع في عينيّ ويسأل ما بي..كنت أضمّه إلى صدري وأوشوش في اذنيه بأنني آسفة لعدم قدرتي على الاهتمام به، آسفة لما ستحمله له الأيام اللاحقة من كدر، آسفة للمسؤولية التي قد يتحملها، آسفة للتعديلات التي قد تطرأ على مسار حياته وآسفة لأن مفهوم الأخوّة قد يختبره بشكل مغاير، وآسفة لكل هذا التخبّط الذي أعيشه، ولكنني أيضاً كنت أوشوش له، بأنه من أجله سأبقى وأتحمّل وأقاوم، ومعاً سنصنع غداً أفضل وسنجعل من هذا الاختلاف مشعلاً يضيئ لنا جوانب أخرى من حياتنا سويا… مجد كان صغيراً على كل هذه الوشوشات، ولكنه كان داعماً لي، ولربما سنوات طفولته الهانئة كانت عوناً لي أو هكذا هو اختار وبطريقة لا واعية مساعدتي، بخصائص شخصية كان يمتلكها سهّلت عبوره من مرحلة لأخرى، متيحة لي التفرغ اكثر لشؤون أخته المتعثرة من حين لآخر…

ولن أنسى عاملة المنزل، ألشاهدة بامتياز على مجريات عقد وأكثر من السنين، كانت ساعدي الأيمن ليس في تدبير شؤون المنزل فقط، بل في تدبير شؤوني مع ابنتي التي شهدت على ولادتها المختلفة، وكانت خير ممرضة لجروحات طفلتي اثر ثلاث عمليات أجرتها ابنتي في السنة الأولى من حياتها، كانت تغدق عليها العطف والحنان والاهتمام وتراعي آلامها وآلامي، وتحرص على زينتها وجمالها وتخاف عليها من أيّ أذى يمكن ان يصيبها… كانت أما لابنتي عندما لم أكن… عندما كنت لا أزال أجرجر ذيول «الصدمة»، كنت أستحي من اهتمامها ومن عجزي، وكانت في الوقت عينه تهوّن عليّ وتمنحني الوقت لأسترجع ذاتي وأستلم مهامي، وكان ذلك يطامن قلقي ويخفف من شعوري بالذنب، بأن لطفلتي أماً اخرى تحنو عليها بانتظار أن تأخذ بيدها أمها الحقيقية…

عاملة المنزل هذه، الممرضة والمربية، اصبحت ترافقني إلى كل مكان تحتاجه ابنتي، من طبيب الأطفال إلى اختصاصي النطق والعلاج النفس-حركي والتربية المختصة، كانت تحضر معي الجلسات لتتعلم ما هو المطلوب لاعادته مع ابنتي في المنزل، فتكرار الحركات والأصوات والألعاب كان مفيداً جداً لابنتي لادماجها في البيئة الأسرية أولا، وتوعية الحواس لديها لتعزيز تفاعلها مع الآخرين لاحقاً…

شاهد أيضاً

صحف عالمية: إسرائيل تحبس أنفاسها في انتظار رد السنوار

سلّطت صحف ومواقع عالمية الضوء على الضغوط التي تمارس على المسؤولين الإسرائيليين لإنهاء الحرب على …