انتصار الدم على السيف

كلمة الخوري الدكتور مخائيل قنبر في ذكرى عاشوراء

عنقون – تاريخ 6 أيلول 2019

ألقي عليكم تحيّة مسيحيّة إسلاميّة، طالما ردّدها المسيحيّون العرب قبل الإسلام، وحفروها على عتبات بيوتهم في الجزيرة العربيّة، وهي الآن من الأمور العديدة المشتركة التي تجمع المسيحيّة والإسلام، “باسم الله الرحمن الرحيم“.

أمّا بعد

أشكر الحاج حسين السارجي الذي تكرّم فطلب منّي هذه المشاركة في محفلكم الكريم. ومشاركتي اليوم عزيزة عليّ. كيف لا تكون وأحبّاء ابنِ بنتِ الرسولِ  هم أهلي وخلّاني؟ كيف لا تكون وأنا أرغب منذ صباي أن أكون في عِداد ذاك الرَكبِ الساري بين الحِجاز والعراق، رائدُهُ ابنُ عليِّ والزهراء، في طَلَب الحقّ حتى الفداء؟ كيف لا تكون وأمنيتي، منذ سمِعتُ خَبر الحُسين وهو علَى قَائِمِ سيفهِ متّكئٌ، يناشد أهل العراق، مسائلًا بِمَ يستحلّون دمَه! أن أكون من الذين طُعنوا بسيفٍ أو أصيبوا برمحٍ في واقعة كربلاء. كيف لا تكون وأنا كاهنٌ مسيحيّ احتَضَنَ أسلافي القُسُس رأس الحسين وقبّلوه وكرّموه؟

أيّها السادة

قلّةٌ بين الأيّام، تُجسّد التاريخ! أحَدُهَا عاشوراء.

ليس تاريخَ الشيعة، ما تُجسّده عاشوراء، بل تاريخُ المحبّة التي تبذل نفسها من أجل الآخرين، وتاريخ الشهادة حتّى الدّم من أجل نُصرة الحقّ. لنستلهم في هذا الإطار الإنجيل والقرآن: ألم يقل السيّد المسيح يومًا في تعليمه: “لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذُلَ الإنسان نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه (يوحنا 15: 13). فَكُنْهُ المَسيحيّة محبّة لله ومحبّة القريب، وبذل الذات من أجل الآخرين. فكيف يُفهم كُنْهُ الإسلام في القرآن الكريم؟ إنّ آيات القرآن الكريم تؤكّد هي الأخرى على المحبّة والتحابّ، ومن صِيغ التعبير عن هذه الحقيقة الآيةُ الكريمة الواردة في سورة المائدة: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54]. نعم أيها الأحبّاء إنّ قَومَ الله يحبّونه، وهو لذلك يحبّهم. فدِينُ العليّ، جلّ جلاله هو المحبّة، ولا يقبل بقومٍ يرتدّون عن هذا الدين، أو يتقاعسون في تنفيذ خُلقيّاته. وشهادة الحسين في هذا السياق تأتي كتتويج لتعليم الإنجيل والقرآن حول المحبّة وبذل الذات من أجل الآخرين. واستشهاد الحُسين عن طريق التضحية والفداء، رَفَع من مقام شهادته إلى حدّ القدسيّة، لأنّها كانت عملية إرادة واعية، ولأنّه تقدّم للموت بهدف الدفاع عن أهداف وعقيدة راسخة في أعماقه.

عن قُدسيّة استشهاد “سيّد الشهداء” سأقرأ عليكم محطّات من السيرة الحسينيّة الشريفة على ضوء أحداثٍ من الإنجيل الطاهر. وسأضيء على تاريخ هذا الفداء والبذل والحبّ المتجرّد انطلاقًا من مقارنات مع بعض الشخصيّات التي واكبت بشارة وصلب السيّد المسيح، وأختم بتأمّلاتٍ خاصّة بالحدث المهيب.  

  1. انتصار المظلوم على الظالم

صافح الإمام الحسين السّيف، وعانق الرّماح، فارتدّ ظلم الظالم عليه وارتقى المظلوم إلى مصاف الأولياء الأبطال القدسيّين، فأضحت دماء استشهاده قربان فداء. لم تحظ ملحمة إنسانيّة في التاريخ بمثل ما حظيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء من إعجاب ودرس وتعاطف. فهي الرائدة والخالدة، لأنّها مدرسة في الوفاء والبذل والفداء. ومَن يدرك غايتها لا بد له من أن يزداد تعلّقًا ببطلها وإكبارًا لفكره وروحانيّته. كيف لا وقد حدّد هدفها كطلبٍ للإصلاح في اُمّة جدّه الذي بُعث للنّاس جميعًا. وأعلن أصولها الإصلاحيّة كأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وكلّ ذلك من أجل انسجام الإنسان مع الحقّ. أما حِبر هذه الملحمة فكان دم الشهادة المحرّرة المنقذة.

نعم لقد حرّر الحسين بوثبته الفدائيّة هواء الحريّة، فجعله بمتناول النفوس الحرّة الشريفة تتنفّسه من غير حرج لأنّه أكّد عذوبة الموت، طلبًا للإصلاح الإنسانيّ، وهذا تماما ما صُلب من أجله المسيح على الصليب.

  • أورشليم والكوفة قاتِلَتَيّ الأنبياء والمُرسلين

بعد أن وُلد في بيت لحم وتربّى في الناصرة، بشّر السيّد المسيح في أورشليم وشفى فيها المرضى وأقام الموتى، (فآمنت بهِ بِقلْبِهَا، أمّا فكرُها فبقي مع الساسة أهلِ المصالح والمنافع). وعندما حاول أن يُصلح أمرها صدّته فقال فيها كلامه الشهير: “أُورَشَليم، أُورَشَليم، يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاء، ورَاجِمَةَ المُرْسَلِيْنَ إِلَيْهَا! كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلادَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، ولَمْ تُريدُوا!” (لو 13: 34). وعندما دخلها قبل الفصح في يوم الشعانين، استقبلته استقبال الملوك بالرقص والهوشعنا، إلّا أنّها ما لبثت أن انقلبت عليه بعد أيام معدودة، فصاح أبناؤها يوم الجمعة العظيمة اصلبه! اصلبه!

ألم تفعل الكوفة بالحسين ما فعلته أورشليم بالمسيح؟ ألم ترسل له آلاف الكتب تستعجله المجيء إليها؟ ألم يتعاهد أكثر من ثمانيةَ عشرَ ألفًا من أبنائها مع مسلم بن عقيل على الوفاء لحفيد الرسول؟ ألم يزِدْ كلام أهلها المعسول مسلم بن عقيل وثوقًا بالدعوة للإمام الحسين، فاستعجله إليها قبل استشهاده ببضعٍ وعشرين ليلة، وقد قال له: “قد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجِّل حين يأتيك كتابي، فإنَّ الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى…”، إلّا أنّ هَوى أهل الكوفة قد هوَى مع سماعهم رنين دنانير الرشاوى التي أغدقها عليهم ابن زياد. وعندما التقى الحسين بالفرزدق القادم من العراق سأله: “بيّن لنا نبأ الناس خلفك؟” أجابه الأخير ذاك الجواب الشهير: “إنّ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة”.

نعم! كما خذلت أورشليم المسيح، خانت الكوفة عهدها مع الحسين، فتساوت المدينتان بالغدر والخيانة وبقتل المُرسلين إليهما.

  • رقصٌ على حافّة طبقٍ ورُمح

اشتهى هيرودس زوجة أخيه، فطلّق امرأته ليتزوّج بها، وكانت تُدعى هيروديّا. فقام النبيّ يوحنّا المعمدان يؤنّبه على خطيئته. فثارت ثائرة العشيقة وقرّرت التخلّص من نصير الحق، “أعظم مواليد النساء”. وكان هيرودس يُقيم احتفالًا ضخمًا بمناسبة عيد ميلاده، فدَفَعت هيروديّا بابنتها سالومي لترقص في عيد الوالي وتطلب منه التخلّص من خصمها، ابن زكريّا وأليصابات. وأمام الإغراء والإغواء انتشى هيرودس ووعد الراقصة بنصف مملكته، لو هي طلبت. عندها اختلت سالومي بأمّها فأسرّت إليها هذه الأخيرة أن تطلب رأس المعمدان على طبق من ذهب. فكان لها ما أرادت.

من أجل أن يُشبع هيرودس شهواته، ومن أجل رقصة إغواء، قدّم رأس يوحنا المعمدان على طبق من ذهب. وَيزِيد بن معاوية المُتيّم بالخلافة، من دون وجه حقّ، استسلم لمنطق التمسّك بالسلطة المُغتَصَبة، وانتشى برقصة الدولة التي طالبت بقطع رأس الحسين. هناك قُدّم الرأس على طبقٍ من ذهب، وهنا رُفع على رمحٍ ليطوف الأرجاء. وفي الحالتين اعتقد هيرودس ويزيد أنّهما ربِحَا بمنطق القوّة. إلّا أنّ خسارتهما كانت أكبر بكثير ممّا قدّرا. فبتقديم رأس يوحنا على طبق، ترسّخ في ضمير البشريّة منطق “قول الحق بجرأة، ولو كلّف ذلك قطع الرأس“. وبرفعِ رأس الحسين على رُمحٍ تكرّس منطق انتصار الدمّ على السيف.

  • بين بستان الزيتون وخواء كربلاء

في بستان الزيتون صلّى المسيح من أجل كلّ البشر. وقد قال لوقا البشير في الإنجيل: “وَخَرَجَ وَمَضَى كَالْعَادَةِ إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ وَتَبِعَهُ أَيْضًا تَلاَمِيذُهُ. .. وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى قَائِلًا: “يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ.” وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.” (لو 22: 39 – 44) كانت قطرات الدم المتصبّب من جسد المسيح في بستان الزيتون استباقًا لنهر الدم الذي سيجري من جنبه على الصليب من أجل فداء العالم. هكذا اتخذت صلاة المسيح في بستان الزيتون بعدًا قدسيًّا.

وفي عصر يوم التاسع من محرم سنة 61هـجريّة أمر الإمام الحسين أخاه العباس أن يطلب من الجيش الأموي تأخير المعركة من ليلة عاشوراء إلى يومها وذلك بهدف التفرغ للعبادة والصلاة والدعاء والاستغفار: «ارجِع إلَيهِم، فَإِنِ استَطَعتَ أن تُؤَخِّرَهُم إلى‏ غُدوَةٍ وتَدفَعَهُم عِندَ العَشِيَّةِ؛ لَعَلَّنا نُصَلّي لِرَبِّنَا اللَّيلَةَ، ونَدعوهُ ونَستَغفِرُهُ، فَهُوَ يَعلَمُ أنّي قَد كُنتُ احِبُّ الصَّلاةَ لَهُ، وتِلاوَةَ كِتابِهِ، وكَثرَةَ الدُّعاءِ وَالاستِغفارِ!»

وكأنّي بحفيدِ الرسول قد توضأ بالدم في تلك العشيّة، وكانت قِبلتُه مكان مصرعه، وكانت تسبحته إخلاصه العظيم لوجه الله، فتحوّلت كربلاء محرابًا وسجادة صلاة. يومها أبكى الحُسين بصلاته ملائكة السماء والقديسين والأولياء… وكأنّي به يقول: ” كلُّ نَفَسٍ يخرجُ منيِّ يهتف بإسمك أيّها الرحمن، وجسدي سيشعر بنشوة حين سيتعرّض للسهام والرماح في سبيل الحقّ وسبيلك… امتحنّي حين ستهطل عليّ السهام والحجارة والرماح وتُغرقني بالدماء، وتأكّد أنّني مخلصٌ لك… وعندما سأصبح من دون رأس ومن دون كفن، وترى أوصالي مُقطّعة في سبيلك، وحين سأرى أهل بيتي وأولادي وأصحابي مقتولين، تأكّد أنّ حبي وإخلاصي سيزداد لك أكثر.. وسأكون مستعدّا اللحاق بجدّي وأبي وأخي…”

  • استغفار وتوبة

على الجلجلة، صلبوا مع السيّد المسيح لصيّن واحدًا عن اليمين وآخر عن الشمال. أمّا الأخير فأخذ يعيّره ويطلب منه أن يخلّص نفسه ويخلّصهم ساخرًا منه ومن تبشيره وعجائبه. أمّا لص اليمين فتوجّه إليه بخشوع النادم وتوبة المستغفر طالبًا منه أن يذكره في الفردوس.  وفي أثناء الصلب تألّم قائد المئة المكلّف بعمليّة الإعدام لمنظر البريء المظلوم المعلّق على خشبة، فتاب مستغفرًا وندِم فترك الجنديّة والتحق بتلاميذ المسيح.

وفي كربلاء أَمَرَ ابن زيادٍ، الحُرّ بنَ يزيد، ألّا يُنزل قوم الحسين إلّا بالعراء، في غير حصنٍ، وعلى غير ماء. ثمّ أمره تشديد الحصار على الحُسين وصحبه، حتى جفّت اللَّهى عطشًا، وخرج الحسين يُريد الفراتَ، فاعترضته خيلُ ابن سعدٍ، ولم يمكّنوه من الماء… وبعد التحام العراك بين الفريقين، عاد الحُرّ بن يزيد إلى صوابه وارتمى بين يدي الحسين نادمًا وقال: عفْوَك عنّي يا ابن بنت الرسول، فعَفَا عنه. وقاتل الحرّ مع الحسين قتالًا شديدًا، فعُقر فرسه، فقاتل راجلًا. ولمّا أثْخَنتهُ الجراح حُمِلَ إلى الحسين فجَعل يمسَح التراب عن وجهه ويقول: “أنت “الحرّ” كما سمّتك أمّك حرٌّ في الدنيا والآخرة.”

ما هذه الشهامة يا ابن عليّ والزهراء! وكيف لا تكون شهمًا وأنت ابنَ بِنْتِ الرسول وابنَ عليٍّ أميرِ الحدّين، حدّ الكلمة وحدّ الحسام، وصاحبِ المعجزتين، نهج البلاغة وذو الفقار.

  • مريمات الصليب وزينبات الرماح

وكان يتبعه نساء يندبنه وينُحن عليه، فالتفت يسوع إليهن وقال: “يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ بل ابكين على أنفسكنّ وعلى بناتكنّ”. نعم! يا مريمات الصليب لا يجوز البكاء على من سيقوم من بين الأموات ويُحيي المائتين. فالصليب ممرٌّ  إلزاميٌّ للفداء والموت عبور حقٌّ للحياة. وإذا كان اليهود قد سكروا بالدم الذي جرى من جراحات المسيح على صليب الجلجلة، فبعد انتهاءِ السكرة أدركوا أنّ جراحاته أنبتت حياةً أبديّة.

كما عزّى المسيح بنات أورشليم، عزّى الحسين زينب وأمّ كلثوم وسُكينة وفاطمة ورباب، إذ قال:  “استعدّوا للبلاءِ، واعلَموا أنّ الله حافِظكم وحاميكم، وسينجّيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمرِكُم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البَليّة بأنواع النِعَم والكرامة، فلا تشْكُوا ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنْقِصُ قَدْرَكم.” وفي مكان آخر توجّه لأخته زينب “ملاك الرحمة” لولده عليّ الأوسط وقال لها: “يا أختاه! اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شئ هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلائق بقدرته، ويبعَث الخلق ويعودون… يا أُخيَّة إني أقسمتُ فَأَبِرِّي قَسَمِي، لا تَشُقّي عليّ جِيَبًا، ولا تَخْمُشي عليّ وجْها، ولا تَدْعِي عَليّ بالويْلِ والثبور إذا أنا هلكت.”

تجلّى عظيم إيمان الإمام الحسين وكِبَرِه في نَهْيِ الزَينبات عن الإغراق في الحزن والنحيب، وطلبهِ منهنّ التجلّد والصبر عندما سيشاهدن انغراس الرماح في جسده. لأن تلك الساعة الرهيبة التي ستحلّ قريبًا، ليست إلّا عبورًا به وبصحبه نحو الجنّة والخلود. أضف إلى ذلك أنّ تجلّد الزينبات وصبرهنّ على المحنة وعدم إظهارهنّ الضعف والإنكسار والإنهيار أمام الأعداء الألدّاء، سيكون المِدمَاك الأول في خلود ثورة الحسين واستمرارها على مرّ العصور.

  • ظمأ الفادي وعطش الحسين

قبل الساعة الثالثة بعد الظهر بقليل من تلك الجمعة العظيمة صرخ المسيح من أعلى الصليب: “أنا عطشان”… وعطشه كان  للوفاء والحبّ، عطشان… عطشان… إلّا أنّ الغدر والخيانة لا يعرفان معنى الوفاء والحب، فَكَلّلَ الجُندُ قضيبًا من الزوفى باسفنجة بلّلوها خلّا وأدنوها من فيهِ، فلمّا ذاق الخلّ لفظ الروح.

وفي يوم عاشوراء كانت معالم العطش بارزة في كل شيء، في القِرَبِ الخالية، في الشفاه الذابلة، في الأكباد الحرّى، في الجوّ المُلتهب، في طريق الفرات المسدود…  وعندما سمِع العباس صراخ الأطفال العطاش ركب جواده، وأخذ القِرْبَة، وتوجّه إلى الفرات، فحاصره الجند، فاشتبك معهم، وقُطعت يداه، وقُتل. وقبل خروجه من الفرات أراد أن يشرب الماء، لكنه تذكر عطش الحسين، فلم يشرب، وتَرك هذه الفانية وهو عطشان. وبرز علي الأكبر في يوم الطفّ إلى القتال عدّة مرات، لكنه عاد للوداع للمرة الأخيرة وهو ظمآن، وقال لأبيه: “يا أبي العطش قد قتلني، وثِقلُ الحديد أجهدني“، فشجّعه على الاستمرار بالقتال واعدًا إياه بإرواء عطشه في حضن جدّه في الجنّة. وقد طلب الحسين أيضًا الماء لطفله الرضيع من جيش العدو، لكنّ سهم حرملة ذبحه من الوريد إلى الوريد. ولما حاول الحسين التوجّه إلى الفرات منعه الشِمْر قائلًا: “والله لا تذوقه أو تموت عطشًا.”

  • تحسّر الفرات على العِطاش

ويحك يا فُرات! كيف لك أن تخذُل أبناء أهل البيت وتردّهم على أعقابهم عطاشًا؟ ويحك يا فرات! كيف يمكنك أن تبقى في مجراك بعد أن شهدت مأساة الحسين وصحبه…

وإذا بماء الفرات يُضحي دمعًا ودمًا، وحقول القصب على ضفّتيه تغدو ناياتٍ تصعِّدُ الآهات ندبًا على الإمام وأهلِ البيت. في ذاك العاشر من محرّم ارتدّ الفُراتُ إلى الوراء وأبَى أن تبقى مياهه سلسبيلًا، فتسربَلَ بأرجوان الدماء… يومها ارتوت أرض جارته كربلاء بدماء الأبرياء فصَار التُراب فُراتًا قاني الوَجَنات، ومن هول وفظاعة الوَاقعة فضّل التُرابُ الظمأ على الإرتواء. يَومها تحسّر الفرات لأنّه لم يستطع إرواء الحُسين والعبّاس وعليّ الأكبر والأوسط والأصغر، يومها خجِل النهرُ من ذاته لأنّه لم يستطع إرواء ظمأ باقة الورود المُشتملة على زينبٍ وسائر الزهرات من رياض قُريش.  

كيف للفرات ألّا يتحسّر ويخجل وماؤه مشاعٌ لعابري السبيل والوحش والحشرات، وهو يسكُبُ الخصب في الجمادِ، ويُفيض الجنى في الفلوات، ويذوب حنينًا عندما تُقبّله شفاه العطاش! أمّا الحُسين وأهل بيته فقد صُدّوا عنه. آهٍ ما أقساها من أيامٍ عشرٍ مرّت على الفرات فاسودّ لون مياهه حزنًا وأنّ القصبُ على جنباتهِ أنين الثكالى.

  • كرّ البَلاءِ في كربلاء

عندما سأل الحسين عن اسمكِ في اليوم الثاني من محرّم، فأجابوه كربلاء قال حقًّا إنّها “موضع كربٍ وبلاء“. كيف لا تكونين كذلك وقد نَعَى ابن عليٍّ والزهراء، وهو في طريقه إليك، نفسه ومَن مَعه، إذ قال: “لقد رأيت هاتفًا يقول: أنتم تُسرعون والمنايا تُسرِعُ بكم إلى الجنّة. فعَلِمتُ أنّها أنفسنا نُعِيت إلينا”. وفي بعض الطريق إلى العراق قال: “الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها، وهي كربلاء”. وعندما وصلك قال: “انزلوا ها هنا محطّ ركابنا، وسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا، بهذا أنبأني جدّي رسول الله.”

وأصلُ البلاء في أغلب الحوادث الكربلائيّة ذاك الذي قال عنه الشاعر بولس سلامة، فأبدع:

أبرصًا كان ثَعْلبيّ السمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات                    أصفر الوجه أحمر الشعرات

ناتئ الصدغ، أعقف الأنف، مسوَدْ                        دَ الثنايا، مشوّهَ القسمـــــــــــــــــات

صيغَ من جبهة القرود، وألــــــــــــــــــــــــــــــــوا                 نِ الحرابي، وأعين الحيّـــــــــات

منتنَ الريح، لو تنفّس في الإسـْـــــــــــــــــــ                       ـحارِ، عاد الصباحُ للظلمات

وأضاف:

لم يحرّك يدًا لإتيان خيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ           فإذا همَّ همَّ بالسيئــــــــــــــــــــــــــــــــات

نعم! هي السيّئات والموبقات اقترفها أهلُ الغدر في أسمى المخلوقات. ولعلّ ما قاله الشاعر جوزف حرب في ديوانه مملكة الخبز والورد خيرُ ما قيل في بدء مأساة كربلاء:

عانقت (سيدة القصر) شفتي يزيدٍ في دمشق، فأنجبت عطش الحسين بكربلاء” (جوزف حرب، مملكة الخبز والورد: 62)

ومع كتابة ألفباء البلاء في كربلاء لا بدّ من وضع الأمور في سياقها لتبقى الذكرى للأجيال عبرةً لألآء. لأهل الغدر في كلّ الأرجاء أقول: “اسمعوا وعوا! فمن دعا الحسين لينصره ثمّ غدر به وقتله، لم ينفعه التكبّر والإستعلاء، فدم الشهداء يَحطُّ من قدرِ النذلاء ويُعلي مقام النبلاء. لمن مدّ يده إلى الجسم الطاهر الحامل في ثناياه عبق سيّد المرسلين وخَتْم قُبْلتِه على ثغرِ من قال عنه “أنا من حسين وحسين منّي” أقول: ماذا نفعكم الظلم واستلاء الأنفس الطاهرة؟ ألم تَذكُركم كتب التاريخ منذ تلك الواقعة بالدخلاء، الثقلاء، الجهلاء؟

ولكلّ العقلاء الفضلاء أقول: عظّم الله أجركم بإمامٍ أضحى تُربَةً طيّبة زُرعت فيها أكثر من مئة نِبْلةٍ من النبلات، ما زلنا حتّى اليوم نحصد من جناها نصر الدمّ على السيف من ضفاف الفرات.

عظّم الله أجركم بإمامٍ طُعن أكثر من أربعين طعنة حتى جرت دماؤه أنهارًا، وما زلنا حتى الساعة نرتوي من كوثر انتصار الجرح على الطعنة.

عظّم الله أجركم بأمير الشهداء وقد رُمِي بسهمٍ في جبهته، وضُرِبَ بحجر فيها، وطُعن على قلبه بسهم ذي ثلاثة شِعَب، وضُرب على عاتقه، وسُلبَت سراويله اليمانيّة، وقُطع إصبعه من أجل خاتم، وقطعت كتفه اليسرى، واحتزّ ذاك الأبرص المشؤوم رأسه الشريف بالسيف، وأوطأ العاهرون الجياد عظام صدره…

عظّم الله أجركم بسيّد الشهداء الذي حُمل رأسه على سِنِّ رمحٍ إلى دمشق، حيث وضِع بمهانة أمام ذاك الفاسق لينكت ثناياه بالقضيب…

خاتمة

قال أحد الكهنة المسيحيّين في خطبة عاشورائيّة: “لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كلّ بلد بيرقًا، ولنصبنا له في كلّ قرية منبرًا، ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم الحسين.” مثل هذا الكلام لا يصدر على عواهنه، بل يُقصد به أنّ الفداء والاستشهاد اللذَين يشكّلان ركن الدين المسيحي الأساسي قد جسّدهما الحسين في استشهاده، هذا الاستشهاد الذي لا يقدم عليه إلاّ الأولياء، أو المتصدّون لانحراف الدين عن مسراه السماوي، وكان الحسين واحدًا منهم. ومسك الختام كلامٌ أسوقه لكم من بكائيّة رأس الحسين للشاعر الجنوبيّ الكبير جوزف حرب، رحمه الله.

“ذرذري فتيتَ الرياحين، وانسجي من حَبير البجع، وكِنَار الحمام، مكاسِرَ الكفنِ الأبيض. واحفري الجفن، عميقًا عميقًا، حتى مغارق الدمع، فلقد أقبل الليل، وحنَّ جسدُ الحسين إلى النوم، جُملةً سماويّة، بين هلالين من جناحي ملاك”. والسلام.

شاهد أيضاً

طريقة عمل الفراخ البانية

المقادير 1/2 كيلو فراخ صدور فيليه 2 بيضة 3/4 كوب دقيق 1 كوب زبادي 1كوب …