الحج قديماً (١)

لما كانت “المحامل” تقل الحجيج
بواسطة الجمال للأراضي المقدسة

زياد سامي عيتاني*

المصاعب والمخاطر التي كان يواجهها الحجاج منذ العصور الإسلامية المبكرة، دفعت المسلمون للمجيئ إلى الحج في جماعات منظمة، مدعومة بفرق عسكرية لتأمين الحجيج. وقد هذه الجماعات عرفت بالقوافل وبالركائب…
من هنا نجد المسلمين منذ بدء تاريخهم يتبارون في إرسال القوافل والمحامل، التي تحمل البضائع إلى الحرمين وما حولهما وتسهيل طرق الوصول إليها.

****
•معنى المحمل:
كلمة المحمل تعني الهودج المحمول على البعير (الجمل)، وغالبا ما يُخصص لركوب النساء على الراحلة، ويكون مغطّى بقماش يحيط به من جميع الجهات.
أما الغاية من المحمل فهي تأكيد سيادة الأمراء الذين يرسلونه وإضفاء صفة حماية الأراضي المقدسة عليهم، الأمر الذي يثبت مراكزهم ويضفي عليهم شرفاً عظيماً.
****
•المحمل فكرة مملوكية:
وتعود فكرة المحامل إلى المماليك وبالأخص الظاهر بيبرس الذي أرسل المحمل لأول مرة عام 1266 ميلادية كبادرة ورمزية لسياسته حيال الأماكن المقدسة الإسلامية، ومن بعده إهتم السلطان الغوري آخر سلاطين مصر من المماليك بتسيير المحمل كل عام ولا يزال محمله معروضاً في متحف إسطنبول حتى اليوم.
وكانت دولة المماليك أقوى الدول الإسلامية آنذاك وصاحبة الحماية على مكة المكرمة والمدينة.
وقد برز في العصر المملوكي الإهتمام بشكل خاص بقافلة المحمل المصري، خصوصاً وأنها تحمل كسوة الكعبة المشرفة؛ رمز الزعامة والسيادة.
وكان المحمل أول الأمر عبارة عن حمولة جمل تتضمن هدايا وكسوة الكعبة. ثم نما المحمل نمواً عظيماً، حتى بلغ ثقله قناطير مقنطرة إستعمل لنقلها عشرون جملاً، وصار إنتقال المحمل مع قافلة الحاج إلى مكة من مصر عبارة عن إنتقال مجتمع بأكمله، معه السبيل المسبل للفقراء والضعفاء والمنقطعين بالماء والزاد والأشربة والأدوية والعقاقير والأطباء والكحالين والمجبرين والأدلاء والأئمة والمؤذنين والأمراء والجند والقاضي والشهود والدواوين، والأمناء، ومغسل الموتى، في أكمل زي وأتم أبهة.
وكان المماليك يحتفلون به ثلاث مرات في رجب ورمضان وشوال ويطوفون به ومن معه مصر والقاهرة، للخروج للحج صحبة المحمل في شوال بعدما يشق القاهرة ومصر، حتى يراه الناس ويتبركون به وأمامه الأفيال والطبول والزمور.
ثم يخرج بعدها المحمل من تحت القلعة إلى باب النصر، ومنه للريدانية صحبة القافلة.
****
•العثمانيون يبقون على المحامل:
وخلافاً لما جرت عليه عادة العثمانيين من تغيير كل شعارات المماليك وعاداتهم، أبقوا المحمل وجهز السلطان سليم محملين كبيرين من دمشق والقاهرة عند إحتلاله لهما وأتبعهما بثالث هو”خليفتي”، أي باسم الخليفة ليؤكد سيطرة العثمانيين وحمايتهم للأراضي المقدسة وإنتزاع الأمر من المماليك.
كذلك، أطلق العثمانيون مواكب المحمل النبوي الشريف، أو “مواكب الصرة”. وهو محمل كان يرسله السلطان إلى الحجاز كل عام في موسم الحج في موكب عظيم تحمله مئات الجمال، وتحيط به كتائب كثيرة من الفرسان المدججين بالسلاح مع أستار الكعبة، وهدايا ذات قيمة عالية، وصرة سلطانية كبيرة تحتوي على قطع ذهبية كثيرة ومجوهرات كريمة توزَّع على أهل تلك البلاد، وتصرف على إصلاح طرق الحج، وإعمار مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومرافق الحرم الشريف.
فلقد درج السلاطين العثمانيون على إرسال الصرة منذ بداية تأسيس السلطنة العثمانية.
ودرج العثمانيون على إرسال الصرة من قصر “طوب قابي” بإسطنبول حتى سنة 1255هـ / 1839م عند إعلان التنظيمات الخيرية. إذ بدأ الموكب ينطلق من قصر “دولمة باغجة”، ثم من قصر “يلدز”. وكان يتم إرسال المحمل النبوي الشريف والصرة السلطانية إلى الحجاز عبر البر، تحمله مئات الجمال حتى عام 1281هـ / 1864م حيث أصبح يرسل بالمراكب البحرية
****
•أمير القافلة:
فقد كانت قوافل الحجيج تسير إلى المشاعر براً من كافة أصقاع الأرض، التي يقودها “أمير القافلة”،أي القائد العام، حيث كانت مهمته إختيار زمن التحرك وسلوك أوضح الطرق وترتيب الموكب في المسير والنزول والحراسة، وسط أجواءٍ من عناء ووعثاء السفر ومشقته في عصور كانت تفتقر لمقومات الأمان والتنقل والراحة والإقامة في السفر، حيث كان يسيطر عليهم من الغدر والسطو والعدوان وربما المتاهة في الصحراء والموت عطشًا.
ورغم كل هذه المعاناة للأجداد الذين واجهوا شظف العيش إلا أنه يحدوهم الإيمان وتأدية الفريضة، وقد أقيمت في السابق على طرق الحج منشآت بدائية بسيطة مثل المنازل الوقفية للاستراحة بها مما قد يعانوه من مشاق أو مرض أو غير ذلك.
****
•الركائب الأربعة:
وأشهر القوافل أو الركائب التي كانت تقل الحجيج في الغالب أربعة هي:
-“ركب الحاج المغربي” الذي يضم حجاج المغرب وغرب أفريقيا ويسيرون متحدين أو متفرقين في البر في شمال أفريقيا حتى الوصول إلى القاهرة أو بحرا من المغرب إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة عبر النيل.
-الركب الثاني وهو الأهم والأكبر على مدار العصور الإسلامية هو “ركب الحاج المصري” الذي كان أكثر تنظيما وأهمية لأنه في الغالب كان منوطا به حمل كسوة الكعبة المشرفة من مصر إلى مكة المشرفة عبر طريق عُرف على مر التاريخ باسم “درب الحاج المصري”. ومع هذا الركب كان ينضم ركب المغاربة وأهل أفريقيا الغربية.
-الركب الثالث وهو “ركب الحاج الشامي، الذي ينطلق من دمشق إلى الحجاز وكان ينضم إلى هؤلاء حجاج تركيا والقوقاز والروس والتتار وغيره.
-الركب الرابع هو “ركب الحاج البغدادي والخراساني” القادمون من وسط آسيا وإيران والعراق، وثمة ركب للحجاج الهنود الذي كان يأتي بحرا من الهند وجنوب شرق آسيا ويصل إلى ميناء جدة وكان الغالب عليهم تجارة البهارات والمنسوجات وغيرها.
وإستمر المحمل الشامي مع بعض الانقطاع حتى قيام الحرب العالمية الأولى في حين بقي المحمل المصري حتى منع سنة 1345 هـ 1926 م.
****
•الجمال وسيلة النقل:
وكانت عملية نقل الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، عرفات، مزدلفة ومنى، تتم بواسطة الجمال. وكان للجمّالة هيئة المخرجين تتولى مسؤولية تأمين الجمال والجمّالة وتتبعهم جماعة أخرى تعرف “بالمقومين”، وهم من يتولون تقدير حمولة الجمل من عفش الحجاج وركوبهم وأجرة الجمل، التي كانت تقدر في كل عام، مع بداية موسم الحج. فالجمل الذي يحمل الحاج له أجر والجمل الذي لا يحمل إلا عفش الحاج فقط له أجر.
****
•مواقيت إستقبال القوافل:
وقوافل الركب التي تصل إلى جدة بعد صلاة المغرب لم يكن يسمح لها بدخولها، وإنما يبيت ركابها خارج أبواب السور.
وكان من أنظمة المدينة الصارمة أن أبواب المدينة تفتح بعد صلاة الفجر حتى أذان المغرب ثم تغلق. وعلى جميع الوافدين بعد إغلاق الأبواب المبيت خارج البلدة حتى الصباح، لذا إنتشرت المقاهي بكثرة خارج السور حتى يتمكنوا من استضافة الواصلين لقاء أجور زهيدة فيقدموا لهم المأكل والمشرب وكراسي المصنوعة من صعف النخيل.
****
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

شاهد أيضاً

اليمن ” والمرحلة الرابعة من التصعيد”

بقلم : راسم عبيدات اليمن دائماً يقرن القول بالفعل بالوقوف الى جانب شعبنا وقضيتنا ومظلوميتنا …