على مَنْ تقرأ مزاميرك يا…،

 

الدكتور محمد عبيد 

على مَنْ تقرأ مزاميرك يا…، هي العبارة التي يواجهني بها قِلةٌ من الأصدقاء في معرض تعليقهم على مقابلاتي التلفزيونية أو مقالاتي الصحافية، وهي تعبير عن يأسهم وليس يأسي وإحباطهم وليس إحباطي من إمكانية تأثير هذه المقابلات والمقالات على أداء القوى السياسية المعنية التي أتوجه إليها، أو على مناصري هذه القوى الذين أغوتهم لعبة تعطيل عقولهم وإراداتهم فامتهنوا التبعية العمياء، وأقنعوا أنفسهم بمبررات طائفية وحزبية ووجودية تقيهم لوم أنفسهم عند كل خيبة أمل.

من المؤكد لست من المقتنعين بعدم جدوى تلاوة وقراءة هذه «المزامير» الوطنية والسياسية على الرأي العام اللبناني، ذلك أن إخراج المواطن اللبناني من أزمته مع نفسه كي يتمكن من حل أزماته بنفسه، يحتاج الى العمل على مراكمة الوعي لديه وعلى تبيان الحقائق والوقائع التي تزيل من أمام عينيه الحاجب، الذي يمنعه من الإقتناع بأن تبعيته لمعظم المنظومة التي حكمته خلال العقود الثلاثة الماضية قادته الى الجهل والبؤس والإستسلام.

المهم أن مرحلة ما بعد الانتخابات لن تكون أفضل مما قبلها، وبالتالي ستصبح المسؤولية الملقاة على عاتق الذين عاهدوا أنفسهم على المضي في كشف زيف وفساد وفشل هذه المنظومة أكبر وأجدى نفعاً، خصوصاً وأن وطأة الأزمات ستشتد على اللبناني أكثر وأكثر، وأن زوال مفعول المسكنات المصطنعة سيفرض على اللبناني الإحساس المباشر بالأوجاع المعيشية والحياتية والمالية والنقدية والتعليمية والإستشفائية وغيرها…

لذلك تبدو معركة إسقاط منظومة الفساد والفشل التي ستعيد إنتاج نفسها بأساليب وطرق تقليدية ممجوجة بعد الإنتخابات أكثر إلحاحاً، كذلك فإنها حاجة ضرورية لتحميل الذين إقترعوا لها مسؤولية ظلمهم لأنفسهم وللبنانيين الآخرين ولمستقبل أولادهم وأحفادهم والوطن، كما أنها تمثل تحدياً يتوجب على المؤمنين بضرورة التغيير التصدي للقيام به من منطلقات وطنية بحتة وليس بناءً على إعتبارات إنتخابية.

وبالرغم من زحمة العناوين السياسية – الإنتخابية التي أطلقها قادة القوى الحزبية خلال اليومين الأخيرين، إلا أنها لم تكن سوى تكرار لعناوين سمعها اللبنانيون في مناسبات إنتخابية وغير إنتخابية خلال السنوات الأربع الماضية. مما يشكل دليلاً قاطعاً على أن هذه القوى مُفلِسة سياسياً ومعنوياً، إضافة الى خلو سلة وعودها من أي جديد يمكن أن يتم البناء عليه للأمل بغدٍ أفضل يُخرِج لبنان واللبنانيين من هذا الإنهيار الكارثي المستمر.

وفي إطلالة مقتضبة على بعض هذه العناوين، يتبين التالي:

العنوان الأول، ترسيم الحدود البحرية مع كيان العدو الإسرائيلي:

إن اللبنانيين جميعاً باتوا يعرفون أن السلطة السياسية بأركانها كافة تتهرب من إتخاذ موقف واضح وصريح يحفظ حقوق لبنان السيادية في ثروته النفطية والغازية الكامنة في المنطقة التي تصل الى حدود الخط 29، هذا الخط المبني على أسس قانونية وعلمية وتقنية دقيقة ومتقدمة. وبالتالي فإن التهديدات التي أطلقها «حزب الله» خلال حملاته الإنتخابية مؤخراً ضد كيان العدو لن تجدي نفعاً طالما أن السلطة التي يدعم الحزب أركانها والتي سيعيد إنتاج أبرز قواها في الانتخابات المقبلة قد تنازلت علناً من خلال تصريحاتهم التبريرية وسراً في إجتماعاتهم مع الوسيط الأميركي الذي وصفه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله بأنه غير نزيه ومنحاز الى العدو، تنازلت عن الخط المذكور بل حتى عن اعتباره خطاً إفتراضياً للتفاوض بدءاً منه.

مما يعني أن تهديدات الحزب للعدو لن يكون له أي جدوى في ظل اعتبار السلطة اللبنانية أن المناطق التي يتحرك فيها هذا العدو ومن ضمنها حقل «كاريش» ليس متنازعاً عليها!

وبالتالي كان الأجدى أن تكون التهديدات موجهة لهذه السلطة السياسية كي لا تستمر في مراوغتها لتمرير الوقت الذي يخدم العدو الإسرائيلي، بحيث يسمح له بالتنقيب وإستخراج النفط والغاز من حقل «كاريش» وغيره مستقبلاً، إستناداً الى تكريسه واقعاً يؤخذ به في المحافل الدولية مبني على عدم إعتراض لبنان رسمياً على الإجراءات الإسرائيلية!

ربما أطلب ما لا قدرة للحزب على القيام به، ولكن أليس غريباً أن يكون الوسيط الأميركي غير النزيه والمنحاز آموس هوكشتاين شريكاً في الكتل النيابية التي ستنبثق من تحالف الثلاثي: «حزب الله» والرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل!

في معرض بحثه في موضوع «فقه المقاومة» تحدث الإمام المُجَدِّد الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين يوماً عن معادلة «ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب»، وكان الهدف الأبرز من صياغة هذه المعادلة عدم إلزام المقاومة باعبتارها خياراً شعبياً بضرورات النظام السياسي أو بمعنى أوضح «الدولة» في أي بلد، في حال أن موازين القوى الإقليمية والدولية فرضت على هذه الدولة نوعاً من المناورات السياسية، كالتفاوض غير المباشر مع العدو الإسرائيلي في موضوع الترسيم برعاية أممية ووساطة أميركية. وهي معادلة تنسحب على نمط العلاقة المفترض أن يكون بين المقاومة والدولة، وفي ذلك حفظ للمقاومة من تبعات تورط الدولة وأركانها بمسائل خارجية مُحرجة أو داخلية موبقة. وهي أيضاً معادلة تحتاج الى رسم خط رفيع ودقيق بين طرفيها.

بعد هذه التجربة التي عاشها الحزب الأبرز المعني بالمقاومة، ألا يستحق الأمر مراجعة تعيد رسم هذا الخط، بحيث لا تتحمل المقاومة وزر خطايا وطنية ترتكبها قوى السلطة السياسية بما يرتد سلباً على صورة المقاومة وعلاقاتها السياسية؟!

العنوان الثاني، حقوق المودعين:

أنجبت كتلة «الوفاء للمقاومة» النيابية مؤخراً وفي الوقت التشريعي المعدوم إقتراح قانون يتعلق بحفظ ودائع اللبنانيين.

مع العلم أن هذه الودائع قد تم الإنقضاض عليها والتصرف بها من قبل منظومة الفاسدين منذ سنوات عدة، ومع التنويه بأن انتفاضة «17 تشرين» كانت قد أزاحت الستار عن محاولات هذه المنظومة وشركائها في حاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف إخفاء معالم هذه الجريمة غير المسبوقة بحق اللبنانيين.

على أي حال، فقد قامت الكتلة المذكورة بخطوة متقدمة وإن كانت متأخرة جداً يمكن أن تحفظ ولو دفترياً حق اللبنانيين في استرداد ودائعهم. لكن كلنا يعرف إستحالة أن يقوم المجلس النيابي الحالي بعقد جلسة مخصصة لإقرار هذا الإقتراح، مما يعني أن البحث فيه تمهيداً لإقراره يجب أن يكون على رأس جدول أعمال المجلس المقبل، خصوصاً وأن السيد نصرالله شدد في أحد خطاباته الأخيرة على وجوب إقرار الإقتراح المذكور.

هذا يقودنا الى سؤال جوهري: هل سيقبل رئيس مجلس النواب المفترض وهو نبيه بري بالتصديق على هذا الإقتراح وبصفة الإستعجال، كما فعل مع القانون رقم 44 في العام 2015، والذي أدى بمفاعيله الى كشف حسابات المودعين اللبنانيين وغير اللبنانيين أمام وزارة الخزانة الأميركية، بحيث تمكنت هذه الوزارة من التلاعب بالنقد اللبناني أي العملة الوطنية، إضافة الى تهديد المودعين كافة وبعض المصارف بالعقوبات المالية وتنفيذ هذا التهديد في بعض الحالات!
العنوان الثالث، الفساد والقضاء:

بات هذا العنوان بشقيه مدعاة للسخرية، بعدما تحول الإختباء خلف القضاء وسيلة للتهرب من محاسبة الفاسدين بدل مقاضاتهم!

من الواضح أن من يُطلِق هذا الشعار من قوى السلطة وأركانها مطمئن تماماً، ذلك أنه يعرف أن جزءاً يسيراً من المواقع القضائية المركزية ومن القضاة مكبل بفعل التبعية السياسية لبعض أركان السلطة وقواها، إنطلاقأ من أن وجودهم في مواقعهم ووظائفهم لم يتم وفقاً لآلية إختيارٍ أو تعيينٍ قائمة على اعتماد مبدأ الأهلية وتكافؤ الفرص، وإنما تبعاً لبدعة «الزبائنية السياسية» التي جعلت بعض القضاة في مواقع رقابية متقدمة أسرى الإحتفاظ بمواقعهم هذه ومنافعهم الشخصية على حساب الحق والحقيقة والمصلحة العامة.

وهذا يقودنا الى أسئلة أخرى: ألم يصل موضوع إقرار قانون جديد يكرس بعضاً من إستقلالية القضاء الى أبواب الهيئة العامة للمجلس النيابي الحالي؟ من الذي سحبه بسحر ساحر؟ ولماذا تم سحبه في هذا التوقيت السياسي الحساس؟ ولمصلحة من؟

إن المعضلة التي سيواجهها اللبنانيون كافة بفعل إندفاع بعضهم الى الإقتراع بغرائزية طائفية ومذهبية وحزبية، تكمن في أن احتمال الخروج من الإنهيار الكارثي الذي يعيشون آخر مراحله مستحيل في ظل السلطة نفسها التي ستنبثق من الإنتخابات النيابية بعد أيام قليلة، وبالتالي فإن الحاجة الى صياغة مشروع توعية واحتواء على المستوى الوطني ضرورة لمن لم ييأس بعد من إمكانية تجنب الأسوأ، و»المزامير» بمعناها المجازي هي الوسيلة الديمقراطية الفضلى لأداء هذه المهمة الإنسانية الوطنية، لأنها تعبير بالكلمة، وفي البدء كان الكلمة وستبقى سلاحنا الداخلي لتصحيح واقعنا والنهوض به، أما السلاح الآخر فلا وجهة له سوى صدر العدو

شاهد أيضاً

د. أحمد عبد العزيز من أشهر أطباء العظام في مصر الحبيبة 🇪🇬 ترك عيادته وذهب إلى غزة

د. أحمد عبد العزيز من أشهر أطباء العظام في مصر الحبيبة 🇪🇬 حين اشتدت الحرب …