ملحمة جلجامش… أقدم قصة كتبها الإنسان (7)

إعداد المحامي كميل  سلوم 
الجزء السابع

الجنس

حرية عصر الدويلات السومرية لم تقتصر على المسائل السياسية والفكرية وحسب، بل تعدتها إلى مسائل أخرى، لكي تنير لهم طريق الحرية وتزيل بقع الجهل وعدم المعرفة، فكان من حقهم طرح الكثير من القضايا المحرمة في مجتمعنا، والتي لم يأتي تحريمها من باب الحرص على المجتمع وقضايا الأمة، ولكن من باب القمع والاضطهاد ومصادرة الرأي الآخر بكل الطرق والسبل، فعصر أورك كان يسمح للأفراد أن يتحدثوا عن هذه المحرمات بكل حرية وبدون أي مضايقات، فما دام الفعل أنسانياً ويتعلق بالإنسان فما المانع بالحديث عنه؟،

كان الوضع في أوراك عصرا ذهبيا بالنسبة لنا، لما تم تحقيقه من الحرية واحترام فكر الإنسان.

لقد تطرقت الملحمة إلى الفعل الإنساني الخلاق ـ الجنس ـ

في أربعة مواضع، وجاء حديثها في البداية بكل صراحة ووضوح عن الجنس، وعن الكيفية التي يتم بها هذا الفعل الإنساني، والأثر الذي يتركه على من يقوم به وخاصة الذكور، ثم عن المتعة واللذة التي يحصل عليها من يقوم بهذا الفعل، ومع أن هناك إشارة واحدة في الملحمة، حول دور ونتائج هذا الفعل في إبقاء وإستمرار الحياة الإنسانية على الأرض، إلا أنها تبقى أهم مصدر تاريخي تحدث عن الجنس بهذا الإسهاب والوضوح، ونصوص الملحمة تزيل تلك الطوطمية عن الفعل الإنساني وتجعل منه كائناً بسيطاً يحبه جميع الناس ولا يخافونه مطلقا، فهناك نصوص تتحدث عن انكيدو الوحش الذي يخرب مصائد الصيادين وينقذ الطرائد من شباكهم، بحيث لم يعد الصيادون قادرون على الصيد من الغابة، ويعود احد الصيادين خائفا مرتعبا، يخبر أباه بما حصل في الغابة وما شاهد من أعمال وأفعال الوحشي انكيدو، فيخبره الأب بضرورة التوجه إلى جلجامش وإعلامه بما شاهده في الغابة، وعندما يعلم جلجامش بالأمر يوصي بإرسال بغياً مع الصياد إلى الغابة لكي تغوي الوحش انكيدو، وهنا يتم التطرق أول مرة إلى فعل الجنس في الملحمة والأثر الذي يتركه على من يقوم به.

*
وسله يا صياد أن يبعث مومسا معك
فإنها تروضه وتغلبه
وعندما يجيء مورد الماء
ليسقي السوام
فتخلع الثوب الذي عليها
فذلك يخلبه
تكشف جسمها عن المفاتن العظام
فانه إذا رأتها عينه … أتى إليها
لأنها ستجذبه
دعها تكسر شكيمته، بقوة تفوق قوته

*

هذا الحديث الناري عن القوة ـ الجنسية ـ التي تملكها المرأة، وأثرها على الرجل، ولا ندري من أين حصل السومريون على هذه المعلومات حول اثر الجنس على الرجل، أم أرادوا من ذلك القول بان الرجل بعد الزواج يكون أكثر تحضرا ومدنية منه قبل الزواج؟. أم هو نوع من الخيال الأدبي أراد كاتب الملحة إضفاءه عليها؟، وبعد ذلك تخبرنا الملحمة عن فعل الجنس، بخلع المرأة ثوبها لتظهر مفاتنها أمام الوحش انكيدو، وكيف سينجذب إليها مسحورا بمفاتنها الجسدية، وكيف ستوقظ غريزته النائمة، في هذا الوصف تقول لنا الملحمة أن قوة المرأة تتفوق على قوة الوحش الرهيب، وكذلك نجد فيها تأكيداً على احترام المرأة من قبل المجتمع السومري.

لكن الملحمة لا تكتفي بهذا الحديث عن الجنس بل تريد التوغل أكثر، فتصف كل إحداثيات الفعل، إلى أن ينهي تماما.

*
أخلعي ردائك أيتها البغي
اكشفي عن صدرك لتبن مفاتنك
اغويه إسحريه شان المرأة بالرجل
ها هو ذا أيتها المرأة
عري نهديك
أسفري عن مفاتنك
حتى ينال كفايته منك
لا تحجمي
حركي فيه الرغبة، علميه وظيفة المرأة
وافتحي ثوبك حتى يرقد عليك
وسيلتصق صدره بصدرك

*

هكذا تحدث الصياد للمرأة عندما شاهد الوحش انكيدو، فيطلب منها القيام بإغراء انكيدو، وإذا تتبعنا الكلمات نجدها خارج الحشمية وبعيدة عن الحب العذري والعاطفية الرومانسية، ويكاد الإقتباس السابق أن يكون مدرسة في الإباحية، فأمام قوة انكيدو الجبارة كان لا بد من استخدام هذا الفعل الذي يوازي قوة الوحش أن لم يتفوق عليها، ولهذا جاءت الكلمات واضحة وبهذه القوة، لكي تقنع القارئ أو السامع بوجود توازن قوى بين الوحش والمرأة، وقد يبدو أن المواجهة غير عادلة
ـ الوحش والمرأة ـ
ولكن الملحمة تريد أن تعطينا الحدث بصورة أسطورية مضخمة، لكي تقنعنا بما ذهبت إليه من الأحداث، ومن حسن حظ كاتب الملحمة انه كتبها قبل أن يأتي عليه عصر الرقابة والممنوعات المعاصرة،
الذي يحد ويحجب الكثير من الأفكار والأطروحات، فهذه النصوص الجريئة تمثل تعدياً وتجاوزا صريحا لقانون المطبوعات والنشر، ولهذا لم يجرؤ احد من المترجمين للنص الملحمي، أن يستخدم الكلمات التي استخدمها الكاتب قبل 4700 عام، وجاءت الترجمات فيها من الحشمة والرقابة الذاتية مما حد من صراحتها ووضوحها واباحيتها، وهذا ما تم الإشارة إليه من قبل فراس السواح، الذي وضع حاشية تتحدث عن الترجمة الفاضحة،

*
هو ذا يا فتاة البهجة حرري ثديك
عري صدرك يقطف ثمرك

*
يقول السواح في حاشية، “ترجم البعض الشطر الأولى من هذا البيت بشكل مختلف، افتحي ساقيك، عرضي فرجك” السواح ص 98، من هنا جاءت ترجمة الغرب للنص أكثر تماثلا وانسجاما مع النص الأصلي، ولهذا تم اقتباس جزءاً من النص لكتاب الجنس في العالم القديم لبول فريشارو، هذا هو وضع الترجمة المحافظة أو الخائفة من الرقابة في عصرنا ـ العربي ـ، أما عصر أورك فكانت الحرية فيه تحلق راياتها عاليا، متجاوزة عصرنا بكثير، فقد سمحت أن تكتب عما يجول في نفس الإنسان من مشاعر ورغبات دون قيد أو رقيب، أما عصرنا فانه قابض على روح الإنسان، لا يسمح لها أن تنطلق وتبدي ما فيها من أفكار ومفاهيم يمكن أن تغير مسار الحياة كليا.

لقد استمرت الملحمة في الحديث عن الجنس، وها هي المرأة تفعل ـ المحرم ـ أمام الصياد

*

فتاة البهجة حررت ثديها، عرت صدرها
فقطف ثمارها
لم تخجل، أخذت إليها دفأه
طرحت ثوبها انحنى عليها
علمت الرجل الوحش وظيفة المرأة
وها هو واقع في حبها

*

لم تكتفي الملحمة بالحديث عن المرأة، وكيفية إغوائها لانكيدو على لسان الصياد، بل استمرت في حديثها عن تلك المضاجعة الجنسية، بين قوتين ـ الوحش البدائي انكيدو وقوة المرأة العاطفية ـ ولا نريد هنا الحديث عن المنازلة بينهما، إلا أن النص أوضح لنا وضوح الشمس ما تم بينهما من فعل، إلا أننا نريد الإشارة إلى ترجمة سطر واحد من النص وهو “فقطف ثمرها” هذا السطر ترجم حسب الحاشية التي وضعها السواح، أن الوحش وضع ـ عضوه ـ بين ساقي الفتاة، واعتقد أن قمة الإباحية والفحش تم تناولها في عصر أورك، والنص الملحمي يعطينا صورة عن الحرية التي سادت على هذه الأرض في الزمن الماضي، وكيف نظر أسلافنا إلى الجنس، الفعل الذي يقوم به كل من هو على وجه الأرض، من هنا تطرقت الملحمة إليه على لسان البشر والقديسين وحتى الآلهة، بدون أي خجل أو تحفظ. لقد تم الحديث عن الجنس على لسان سيدوري صاحبه الحانة المقدسة، حينما أرادت أن تثني جلجامش عن طريقه وتعيده إلى أورك، فتكلمت عن نتائج فعل الجنس بالنسبة للمرأة وما يتبع ذلك من شعور ولذة:

*
اتخذ زوجة ونم بسلام على كتفها
أنها تجد المسرة في أحضانك
وانظر إلى الصغير على يدك

*

من خلال حديث المرأة عن الجنس نعرف كيف تنظر إليه وما يسبب لها من مشاعر وأحاسيس وكذلك نتائج هذا الفعل عليها، فيمكن أن لا يعرف الرجل أن المرأة تشعر باللذة كما يشعر بها، ولهذا جاء حديث صاحبة الحانة لتؤكد على العلاقة والمتعة واللذة المتبادلة التي يحصل عليها كل من يقوم بفعل الجنس، وقد تم التطرق إلى نتائج الجنس هو الطفل الصغير، هذا الناتج عن الفعل الإنساني فهو يجلب أيضا الفرح والسعادة لوالديه وللآخرين، فكل من يشاهد الطفل يشعر بالفرح والسعادة حتى لو لم يكن من الصلب أو الاقارب، إذاً الجنس فعل أنساني له أهميته في استمرار الحياة، كما أنه يسبب الفرح واللذة التي تدفع بالإنسان ليعشق ويرغب أكثر في الحياة، ولإعطاء المزيد حول أهمية الجنس بالنسبة للأنثى تتحدث عشتار الأم سيدة الكون عنه قائلة:

 

هلم إلي يا جلجامش وكن عشيقي
امنحني بذرة من جسدك
دعني أصبح زوجتك وتكون زوجا لي

*

الطلب الذي تطلبه عشتار من جلجامش يؤكد الحاجة الجنسية لكل كائن حي فالملحمة لم تقتصر هذا الفعل على البشر وحدهم بل تعدى فعله إلى الآلهة، من هنا نجد فعل الجنس ذو أهمية، وجعلت منه الملحمة يسمو على بقية الأفعال الأخرى، وهناك حديث آخر لعشتار تطالب فيه فلاح النخيل لكي يمتعها برجولته:

*
تعال، مد يدك إلى خصري، ضمني، متعني

*
تطلب الربة عشتار بشكل واضح وصريح بفعل الجنس، ومع أنها صاحبة الجلالة وسيدة الكون في المعتقدات القديمة، إلا أنها تطالب بالحصول على هذا فعل، ونعتقد في هذه الفقرة تم التركيز على من يقوم بفعل الجنس أكثر من الفعل ذاته، وهذا الأمر يشير إلى فهم ومعرفة ودراية القدماء بكل ما يتعلق بالجنس، والملحمة بهذا تخبرنا أن الجنس حيوي وذات أهمية بالغة للبشر ليس للحفاظ على الحياة البشرية وحسب، بل وكذلك ليمنحنا اللذة والسعادة والتي بدورها تعطينا دفعة لنستمر في الكدح ومواجهة المشاق والصعاب.
في نهاية الحديث عن الجنس نقول أن حرية الرأي في المجتمع السومري أعطت كاتب الملحمة هذا المقدار من الحرية ليكتب عن الجنس، ولهذا استطاع السومريون أن يكتشفوا ويتحدثوا عن أهميته، وان يكشفوا كل خفاياه دون خوف أو خجل، مما جعلهم يزيلوا عنه كل الغموض والجهل الذي أنيط به، كما أعطت الملحمة فعل الجنس دور المهذب والمؤنس، فمن خلاله استطاع الوحش انكيدو أن يتخلص من بدائيته وينتقل إلى كائن بشري كامل، والمتعمق في النص الملحمي يستطيع الاستنتاج أن فعل الجنس مسيطر علية، ويتحكم به الإنسان حسب ما يراه مناسبا، ولم يكن الفعل هو المسيطر على الإنسان، ولهذا كانت هناك محطات تم فيها القيام بالفعل بكل طواعية وهناك محطات رفض وإحجام على القيام به، وذلك يعتمد على تقدير الموقف من قبل الإنسان، وبهذا جعلت الملحمة من الجنس فعلاً أنسانياً واضحاً بعيدا عن التحريم والطوطمية.

 

شاهد أيضاً

​​”كيكة الشكولا الغنية..🤎🍫”

  #المقادير #للكيك 3 بيضات كوب شاي سكر 2 ملاعق كبيرة من الماء الساخن نصف …