“الأضحى” عبر العصور (٢/٢/):

مواكب باهرة للسلاطين والخلفاء وعيديات من ذهب وموائد عامرة

زياد سامي عيتاني*


نستكمل في جزئنا الثاني المظاهر الاحتفالية بعيد الأضحى المبارك عبر العصور الماضية ، التي كانت تبدأ شعائرها منذ يوم وقفة عرفات، عقب اذان المغرب فتجمل الشوارع والطرقات و تعلق الزينه و يخرج الناس يهنئون اصدقائهم وجيرانهم و توضع الاضاحي امام المنازل وتجهز المناحر و يبتهل المبتهلون بتكبيرات العيد حتي صلاه العيد في الصباح.


•الموائد:
كانت أطايب الطعام والشراب أبهجَ ما في العيد بالنسبة لكثيرين، ولذا كان للأقدمين بها شغفٌ وفنٌّ وتاريخ عريض، فقد نقل السيوطي في “تاريخ الخلفاء” عن أحد جلساء الخليفة المأمون وصفا عجيبا لتنوّع مائدته وخبرته بالطعام وفوائده الصحية، فقال: “تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمئة لون، قال: فكلما وضع لون نظر المأمون إليه، فقال: هذا نافعٌ لكذا، ضارٌّ لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا”!!!
أما الفاطميون فكانوا ذوي عنايةٍ بالحلويات والمرطّبات، وقد كانت موائدُهم وخاصة في العيد عامرةً بأصناف الأطعمة والحلويات، على نحو ما نجد وصفه عند ابن تغري بردي لمائدة الخليفة الفاطميّ العزيز، ففي أحد الأعياد “نُصب إلى فسقية (حوض ماء فيه نافورة) كانت في وسط الإيوان سماط (=مائدة طولية) طوله عشرون قصبة، عليه من الخُشْكَنان (خبزة مقلية محشوة)، والبِسْتَنْدود (فطائر محشوة)، والبزماورد (حلوى عجين بالسكر) مثل الجبل الشاهق! وفي كلّ قطعة منها ربعُ قنطار فما دون ذلك إلى رطل، فيدخل الناس فيأكلون ولا منع ولا حجر..، بل يفرّق على الناس ويحمل إلى دورهم”.


ويستفيضُ في الوصف بعد ذلك قائلًا: “وأمّا سماط الطعام ففي يوم عيد الفطر اثنتان، وفي عيد النحر مرّة واحد، ويُعبّى السّماط في الليل، وطوله ثلاثمئة ذراع في عرض سبع أذرع، وعليه من أنواع المأكل أشياء كثيرة، فيحضر إليه الوزير أوّل صلاة الفجر والخليفة جالس في الشبّاك، ومُكّنت الناس منه فاحتملوا ونهبوا ما لا يأكلونه، ويبيعونه ويدّخرونه، وهذا قبل صلاة العيد. فإذا فرغ من صلاة العيد مدّ السّماط المقدّم ذكره فيؤكل، ثمّ يُمَدُّ سماطٌ ثانٍ من فضّة يقال له المدوّرة، عليها أواني الفضّة والذهب والصّيني، وفيها من الأطعمة الخاصّ ما يُستحى من ذكره”…
ويردف قائلاً: “يُحطّ في وسط السماط واحد وعشرون طبقا في كلّ طبق واحد وعشرون خروفا؛ ومن الدجاج ثلاثمئة وخمسون طائرا، ومن الفراريج مثلها، ومن فراخ الحمام مثلها. وتتنوّع الحلوى أنواعا، ثم يمدّ بخلل تلك الأطباق أصْحُنٌ خزفيّات في جنبات السّماط، في كلّ صحن تسع دجاجات في ألوان فائقة من الحلوى، والطّباهجة (الكباب) المفتقة بالمسك الكثير، وعدّة الصحون خمسمئة صحن، مرتّب كلّ ذلك أحسن ترتيب. ثم يؤتى بقصرين (عربتين) من حلوى قد عُملا بـ” دار الفطرة” (مخزن حكومي لصنع وتوزيع الحلويات)، زنة كلّ واحد سبعة عشر قنطارا”…
يذكر أيضاً في هذا السياق أنه كان مشهورا تقديم الكعك والملبّس والمكسّرات والفواكه المجففة في العيد، وكلٌّ يقدّم على قدر طاقته وبما تقتضيه مروءته، فها هو ابن عساكر يروي في “تاريخ دمشق” بإسناده إلى خالد بن يزيد المرّي، قال: “رأيت مكحولاً (الإمام التابعيّ يفرّق على أصحابه الزبيب، يعني يوم العيد”.


•العيدية:
لعلّ أصل هدايا العيد ما كان يصنعه الملوك من “الخِلَعَ” أي الثياب التي يُهديها السلطان تكريما للأمراء والوجهاء والأعيان. على أن التاريخ الإسلامي احتوى نماذج لهدايا نقدية، تُعطى في العيد لمن تُرجى بركته، للفقير على وجه الصدقة وللعلماء والأدباء على سبيل الإحسان والإكرام، فمن ذلك ما ذكره ابن كثير في “البداية والنهاية” من أن الخليفة المستنصر بعث “يوم العيد صدقات كثيرة، وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد.
أما الفاطميون فقد عُرفوا بهذا التقليد الذي كانوا يدعونه باسمه المعروف اليوم “العيديّة”.
ويبدو أنه حتى الملوك كانوا يتلقون “عيديات” بلَبوس هدايا في الأعياد يقدمها رجالات بلاطهم، فهذا ابن دحية يخبرنا في “المُطرب” أنه “أهدى الناسُ في يوم عيد إلى السلطان المعتمد ابن عباد مما يُهدَى للملوك في الأعياد”!!


أما أظرف العيديّات فهو ما كان يُمنح للضيوف عينيًّا دون أن يشعروا وبطريقةٍ غاية في اللطف، وذلك بأن يُحشى الكعك بالدنانير الذهبية بدلًا من السكر، أو تُلبّس الحلوى على فستقٍ من ذهب! فقد ذكر المقريزي في “اتعاظ الحنفا” قصة هذين الصنفين العجيبين من الضيافة، فقال في ترجمة القاضي ابن مُيَسَّر: “وهو الذي أخرج الفستق الملبَّس بالحلوى، فإنه بلغه أن الوزير الإخشيدي أبا بكر المادَرائي عمل الكعك، وعمل عوضاً من حشو السكر دنانير، فأراد القاضي ابن مُيسر أن يتشبه بأبي بكر المادرائي في ذلك، فعمل صحناً منه لكن جعل فستقا قد لُبّس حلوى وذلك الفستق من ذهب، وأباحه أهلَ مجلسه”!!!
و”العيدية” بدأت عندما كان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي يمنح أمراء الدولة “سرة من الدنانير” في المناسبات.
ويرجع ظهور “العيدية” كمنحة لموظفي الدواوين الحكومية والوزارات لسياسة “الترغيب والترهيب” التي اتبعها الخليفة المعز لدين الله والمعروفة تاريخياً ب”ذهب المعز وسيفه”، تيمنا بما فعله الخليفة الفاطمي عندما اختلف المصريون على صحة نسبه إلى البيت النبوي، فوقف وسط جموع الشعب في مسجد عمرو بن العاص شاهرا سيفه وقائلاً: “هذا نسبي”، ثم نثر بعض الذهب على رؤوسهم مردداً: “هذا حسبي”!
فالفاطميون خصصوا لكل مناسبة دينية رسما ماليا توزع معه العيديات النقدية والعينية.


ففي عيدي الفطر والأضحى كان الخلفاء يوزعون على الفقهاء وقراء القرآن الكريم بمناسبة ختم القرآن ليلة العيد مقادير مختلفة من الدراهم الذهبية، مع توزيع كسوة العيد على موظفي الدولة، مصحوبة بمبالغ من الدنانيرالذهب تختلف حسب رتبهم الوظيفية.
وكانت “العيدية” تحظى باهتمام أكبر في عيد الأضحى، فقد رصد الفاطميون لرسوم العيدية عام 515ه خلال خلافة الحاكم بأمر الله نحو 3 آلاف و307 دنانير ذهبية.
وتم توزيع “ذهب المعز” أيضا كعطايا عندما يذهب الناس إلى قصر الخليفة الفاطمي لتهنئته صباح يوم العيد، إذ كان الخليفة يطل عليهم من شرفة أعلى باب القصر ليفرق عليهم الدراهم الفضية والدنانير الذهبية، وعرفت تلك النقود باسم العيدية لارتباط الحصول عليها بقدوم العيد حتى حدثت محن في عهد الفاطميين أدت إلى ارتفاع الأسعار وانهيار قيمة العملات مرات عدة، مما دفع الميسورين إلى اكتناز الذهب، وكانت النتيجة أن طردت الدراهم الفضية دنانير الذهب من التعامل اليومي إلى الادخار في قصور الأثرياء.


ولم تتوقف الدولة الفاطمية عن منح العيدية إلا في آخر أيامها عندما اضطربت الأحوال الداخلية.
وفي العصر المملوكي كان السلطان يقدم راتباً إلى الأمراء والجنود لمناسبة العيد، وفقاً لرتبة كل منهم ويحصل الأقل رتبة على عيدية أقل مما يحصل عليها الأعلى رتبة.
أطلقت على “العيدية” المتداولة أيام المماليك تسمية “الجامكية” وتنوعت أشكالها، فكانت تقدم إلى البعض على شكل طبق مملوء بالدنانير الذهبية، وإلى آخرين كدنانير من الفضة.


*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

شاهد أيضاً

تطبيق يحتوي غضب النساء.. تعرفوا عليه

يبدو أن غضب النساء لم يعد متوقفاً على من حولهن فقط، بل وصل الأمر إلى …