رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للأديب أحمد فقيه

الحلقة السادسة عشر (الاعتراف)

  لم يمض وقت طويل حتى عاد ضرغام من بيروت و هو يحمل جهازاً صغيراً، لم يتجاوز حجم اليد، لتسجيل الصوت كان قد زوده به المحامي مع بعض التوجيهات…

    و على اثر هذا اجتمع” افندينا” بزملائه و قال لهم:

_ إن ما فعلناه يا أفندينا هو عين الصواب.. وقد سر حضرة المحامي منه جداً يا افندينا. و هو يوصي دائما بتجاهل امر هذا الرجل يا افندينا، و لا نشعره بأي شيء، بل على العكس يجب ان نهيء له جواً من المرح يا افندينا ننسيه فيه نفسه و ما يقاسيه، ونحاول اذا استطعنا ان ننتزع منه بعض الاعترافات يا افندينا دون ان يشعر بقصدنا او ما نريد منه يا افندينا. و اذا لم نستطع يا افندينا، فنحاول طريقة اخرى نفكر فيها في حينها.. نعم في حينها يا افندينا..

    ووافق الجميع على هذه الخطة و بدأوا بتنفيذها شيئاً فشيئاً.. الا ان جميع محاولاتهم باءت بالفشل. فلم يتمكنوا من أخذ كلمة واحدة منه.. و علموا بأنه مولع بشرب “العرق” و بعض المشروبات الروحية الأخرى، فأعدو له حفلة كبيرة تضم مختلف انواع المشروبات”و المازات”.. و لكنه ظل ثابتاً، لا يشرب الا بمقدار، و لا يتكلم الا بمقدار. و اخيرا اخذ كل واحد من الموجودين يعدد مآثره في”المرجلة” و “القبضنة” فهذا طارد عشرة و قتل منهم اثنين او ثلاثة، و ذاك اشتبك مع مجموعة و هو اعزل واستطاع ان يغرر بهم و يأسرهم جميعاً بعد تجريدهم من اسلحتهم.. و لم يبق واحد منهم لم يدل بدلوه، تشجيعاً لذلك الرجل الذي يسمي نفسه “هاشم” لحمله على الكلام.

    و اخيرا نطق، و قد يكون مجاراة لهم، فقال:

_ ” كل من يسير في هذا الطريق، لا بد له من أن يقتُل او يُقتَل!”

   و كان ” افندينا” دائما يحرص على الجلوس إلى جانب “هاشم”، ويده موضوعة دائماً على مفتاح الجهاز “المسجل” الذي خبأه تحت ثيابه. و كان قد وضع الجهاز على جنبه الايمن تحت جيب سترته التي عمل فيها فتحة، وفتحة في أسفل القميص، بحيث يمكن لاصابعه الامساك بمفتاح الجهاز و تشغيله او اقفاله عند اللزوم.

    و عندما نطق “هاشم” بتلك الكلمات المقتضبة كان افندينا قد عمل على تسجيلها، و حاول عبثا ان يستدرجه لأكثر من هذا..

    و بعد هذا فكر افندينا بإتباع الطريقة الثانية.

    كان افندينا قد عرف من ضرغام بانه اذا كان هذا الشخص هو المنفذ الحقيقي لتلك الجريمة فاسمه “شاهين” وليس “هاشم” و لم يكن احد يعلم بهذا سوى المحامي و المطلعين على هذا الامر من زملائه. و لم يذكروا هذا للصحف كي لا يشعر القاتل بانه اصبح معروفاً تماماً، و لكي يبقى اهل بيته على غير علم بالقضية لأنهم قد يحتاجون اليهم فيما بعد و افندينا لم يخبر زملاءه بهذا رغبة في التأني و انتظار ما قد تسفر عنه محاولاتهم الاولى..

    و الآن بعد ان فشلت المحاولات الاولى، انتظر افندينا فرصة يختلي بها ب” هاشم”.. و اتت هذه الفرصة عندما كان “هاشم” في الاصطبل يتفقد الخيول.. ربما كان يفكر في الخروج مساء من سجنه ليتفسح بعض الشيء.. و في هذه الاثناء دخل” افندينا” لأخذ حصانه لقضاء بعض حاجاته في تلك المنطقة قبل حلول الظلام. و عندما شاهده” افندينا” بمفرده، وجد الفرصة سانحة، فصرخ:

_ شاهين!…

    فالتفت “شاهين” مرعوبا فزعا، و هو يضع يده اليمنى على مسدسه محاولا سحبه من وسطه.. الا ان” افندينا” كان متحسباً لهذا، لذلك كان اسرع منه، فصوب مسدسه نحوه و هو يقول له:

_ انزل يدك يا شاهين، و انزل يده بعد ان بدا عليه و كأنه اطمأن بعض الشيء.. ثم تقدم منه افندينا و هو يبتسم و كأنه لم يحصل شيء. و عندما اصبح على بضع خطوات منه و هو يتظاهر بانه يعيد مسدسه الى مكانه، و لكنه يبقي يده عليه احتراسا، يقول له:

_ ما بالك؟.. لماذا انخضيت يا افندينا هكذا؟!.. خير ان شاء الله!..

    فرد عليه بلهجة مضطربة بعض الشيء:

_ لا.. لا ما انخضيت.. لكن.. لكن فوجئت.. كيف عرفت اسمي؟!..

_اتعتقد بان احداً هنا لا يعرف اسمك يا افندينا، او قصتك اللي اتت بك الى هنا؟!.. الم تدر باننا مكلفين بحمايتك يا افندينا.. و بعد هذا تعتقد باننا لا نعرف حتى اسمك!.. معقول هذا يا افندينا.. معقول؟!..

_ حكايتي.. اعتقد ان معظم الناس أصبحوا على علم بها، فالجرائد كل يوم تفرد لها الصفحات العريضة، و اني لم اكن لأشك بانكم علمتم كغيركم بهذه القصة.. و لكن الذي حيرني هو ان الجرائد لم تذكر حتى الآن اسمي.. مما يدل على ان الذين يبحثون في الأمر لم يهتدوا الى هذا بعد، و كل ما توصلوا اليه، و ان بدا مطابقاً للحقيقة، هو مجرد تكهنات و تخمينات.. و لكن اسمي كيف عرفته انت او غيرك من الذين يعرفونه؟!

_ لا تشغل بالك بهذا الأمر يا رجل.. فقد كان الأولى بك ان تخبرنا من البداية يا افندينا، و لا يليق بك ان تخفي على اصدقائك و الذين انت في حماهم، كما انهم في حماك يا افندينا، لأننا جميعاً معرضين للوقوع في نفس المشكلة يا افندينا. و كم هو جميل منك ما قلته الاسبوع الماضي ان: “من يسير في هذا الطريق لا بد من ان يقتل او يقتل.” هذا صحيح يا افندينا. و ما دمنا جميعاً في نفس المنزلق اذن علينا ان نحمي بعضنا، و نكون يداً واحدة على الخير و الشر.. و لو انك اخبرتنا منذ البداية يا افندينا لزادت ثقتنا بك، و لزاد قدرك عندنا، لأنك قمت بلا شك بعمل جبار يا افندينا.. نعم جبار.. عمل بطولي بطولي يا افندينا.. نعم بطولي.. عمل كان يجب على الدولة والشعب ان يكافئوك عليه يا افندينا. لقد قضيت على مراب جشع، كم خرب بيوتاً عامرة، و كم شرد عائلات مستورة يا افندينا!!.. و فوق هذا كله يا افندينا كنا اخذنا احتياطاتنا منذ البداية يا افندينا، لأنه لا تدرى.. قد تفلت كلمة من هذا او من ذاك دون ان يدري، وعن حسن نية يا افندينا، فنقع فيما لم نكن نريده يا افندينا.

    فاتخذ شاهين ناحية من معلف الخيل و جلس عليه، و قد زايله الاضطراب، و عاد إليه الهدوء و السكينة، بينما كان افندينا يقترب منه اكثر فاكثر حتى وقف امامه تماماً ويده اليسرى تلاعب رقبة احد الخيول، و اليد اليمنى في جيب سترته.. و عندما استقر شاهين، اطرق برأسه لحظة، ثم قال:

_” قد يبدو الأمر كما تفضلت.. الا انه الآن بالنسبة لي غير هذا تماماً.. انا لم اخبركم و لم اكن اريد ان اخبركم اذا استطعت، ليس لخوفي منكم او من غيركم، بل لأنني اشعر بالندم على ما فعلت، لدرجة انني اصبحت اخجل من نفسي، اخجل من زوجتي و من اولادي، لذلك لم اخبرهم و هم لا يعرفون شيئاً حتى الآن. و اتمنى ان اموت قبل ان يعرفوا. صحيح لو انني قتلت ذلك المرابي بدافع شخصي، او لغرض شريف لافتخرت به و لما خفت، و حتى لما تنكرت.. و لكن.. الامر غير ما تصورت.. فقد قتلته لاسباب انا لا اعرفها.. و فوق هذا تحمل أعباء فعلتي هذه شخص آخر بريء كل ذنبه ان الصدف قذفته الينا في تلك اللحظة، ومع هذا حاول جاهداً الفصل بيننا، و كان له الفضل الأكبر في نجاتي من يد “سبيطين” الذي رغم اصابته، و رغم ما نزف من دماء، فقد كان متشبثا بي، و على وشك ان يفتك بي لولا ان وضع ذلك الشاب رجله على المسدس بعد ان سقط من يدي.. و الآن بالله عليك كيف لي ان افتخر بعمل كهذا.. و كيف اعتز بهذا العمل الذي حرمني من رؤية اولادي و زوجتي الا نادراً.. حرمني النوم الهادىء.. حرمني كل لذة بالحياة.. لم اعد اشعر بالحياة.. اصبحت الدنيا على رحبها في وجهي ضيقة سوداء.. و كل هذا من اجل ماذا؟!.. من اجل اناس آخرين وضعتني الاقدار بين ايديهم.. و لو ان الامر مقتصر علي لذهبت بنفسي الى المحكمة واعترفت بكل شيء، و خلصت ذلك المسكين الذى يتحمل وزر غيره.. و لكن كل هذا لا ينفع.. و لو ذهبت الآن و اعترفت امام الناس كلهم و في قاعة المحكمة لاتهمت بالجنون ووضعت في مستشفى المجانين ان لم يقض علي بعد ايام.. ان القضية عويصة اكثر مما تتصور..

    “لذلك يا صاحبي كما ترى الامر يهم غيرى اكثر مما يهمني، و هناك من يهمهم الحفاظ عليّ، و ان كان لا يهمني انا كثيراً.. و بالتالي لم اكن ابالي كثيراً ان عرفتم بامرى ام لم تعرفوا.. فالامر خارج عن ارادتي..”

    فاجابه افندينا:

_ والله يا افندينا ان هذا الأمر محير، و صعب.. كان الله في عونك و عوننا جميعاً.. على العموم انا رهن اشارتك يا افندينا، اذااحتجت لشيء انا مستعد لما تريد.

_ ان ما اريده منك ان تبقي ما دار بيننا سرا لا يعرفبه احد. وأما اذا قتلت انا، لأنه اصبح الآن من صالح الكثيرين التخلص مني لينجوا بانفسهم، فاذا حصل هذا ارجو منك ان تعترف بكل ما عرفته و قلته لك للمحكمة، قد تفلح في اخراج ذلك المظلوم من السجن، و خاصة بعد قتلي لم يعد لاحد مصلحة في بقائه في السجن.. لكن انتبه.. اذا حصل هذا و قررت الاعتراف، فارجو قبل ان تعترف ان تذهب الى زوجتي واولادي في “تلة الخياط” و تنقلهم الى مكان امين و يكونون بحمايتك، لا يعرف احد طريقهم الى ان تهدأ العاصفة:

_ اذن انت خائف الآن يا افندينا!…

_ لم اكن خائفاً على نفسي، و لكن هناك من يخاف عليهم الانسان من بعده، فالموت لا بد آت، فهذا لم يعد يرهبني.

_ ما رأيك لو خبأتك عندى يا افندينا؟…

_ لا يا افندينا!.. الم اقل لك ان الامر ليس في يدى.. و ان هناك من يهمه أمري؟!.. فلو حصل هذا لنبشوا الارض بالطول والعرض، و بعدها لا يعلم الا الله ما قد يحصل لك، و لي، و لأولادي.. دعنا يا اخي من هذا الموضوع و لا نفتحه بعد الآن قط، و ليأت ما يأتي.. عجزت و انا افكر لدرجة انني مللت كل شيء و كرهت كل شيء…”

_ على رأيك يا افندينا سنترك هذا الموضوع و لا نتكلم فيه بعد الآن، و لكن عائلتك يا افندينا.. نعم عائلتك؟…

    و هنا قاطعه ” شاهين” بشيء من العصبية:

_ ما بال عائلتي؟!..” شوفيها؟!”

_ لا شيء.. لا شيء يا افندينا.. لكن قصدى أقول لك انه اذا ذهبت اليهم عندما يلزم الامر، فماذا يعرفهم بي؟! الا تزودني بعلامة منك تعرفهم بي ليطمئنوا الي؟.. او ما رأيك يا افندينا لو نستضيفهم لبضعة ايام او اسابيع حسب ما يريدون عندنا في البلدة؟.. عندى بيت واسع يا افندينا.. و ليس فيه احد سوى انا و زوجتي، فتحصل المعرفة، و يقضون بضعة ايام هنا، يا افندينا، و يكونون قريبين منك ففي خلال اقل من ساعة يا افندينا يمكنك الذهاب اليهم و الاطمئنان عليهم، فما رأيك يا افندينا؟..

    و هنا نهض شاهين و هو يربت على كتف افندينا و يقول له مبتسما:

_ و الله نعم الرأى يا افندينا.. لا بأس، هذه الليلة انزل الى بيروت و أبات عندهم بعضاً من الليل و اخبرهم بهذا.. ان مروءتك تجعلني اشعر بالخجل من نفسي اكثر فأكثر..

_ لا تيأس يا افندينا و لا تحزن، كلنا في نفس “المأزق” وقعنا.. و لكن الشاطر هو من يعرف يا افندينا كيف يتخلص.. نعم كيف يتخلص.. الله يكون بعونك و عوننا يا افندينا.. نعم و عوننا كلنا..

    سر المحامي مسعود جدا بهذه المعلومات، و عمل على استخراج عدة نسخ من الشريط الذى يحمل ذلك الاعتراف الرائع، و الذى اوصله اليه ضرغام في اليوم التالي. الا ان المحامي ادرك بانه مهما كانت الأدلة واضحة و دامغة فسوف يعمل على تعاميها بل و طمسها و تشويهها و تحريفها ما لم يوجد الشخص الفاعل بنفسه، و يدلي بشهادته، بعد مطابقة الادلة عليه. و تأكد له كذلك انه في حالة نبش القضية الآن و تقديم هذه المعلومات سيدفع بالقوى للعمل على اخفاء معالم جريمتها، و لم يكن امامها سوى التخلص من شاهين كما قال هو تماماً. و هنا قال المحامي لضرغام:

_ ” ان حياة هذا الشخص على ما يبدو في خطر.. فلذلك حفاظا على حياته، و حفاظا على قضيتنا من الضياع، علينا المحافظة على شاهين باية طريقة و ابعاده عن طريق اولئك الذين يتربصون به. و قد فعل صاحبك خيرا بنقل عائلته الى بيته، فهذا عمل جليل فعلاً، و يستحق الشكر عليه. و أرجو ان تجعلوا أمر تلك العائلة سراً و لا احد يعلم من هي، و لا تدعوا احدا يزورها الا بوجودكم حتى لا يتسرب أي شيء يفضح الامر قبل انضاجه. ثم حاولوا باية طريقة ابعاد شاهين عن الانظار إما بالاقناع، او حتى بالقوة اذا لزم الامر.” فقال ضرغام:

_ إن شاء الله ما بيصير الا اللي بخاطرك..

الكمين

    و في نفس الليلة عاد ضرغام و اتفق مع “افندينا” على خطة ابعاد”شاهين” عن الانظار دون ان يعلم به احد. و كان دور “افندينا” ان يصطحب شاهين الى بلدته مساء و في منتصف الطريق بين مزرعة”دير القناطر” و “وادي اللوز” يكمن ضرغام و يكمل الباقي… 

    و بالفعل، عندما كان افندينا يصطحب شاهين في الليلة التالية كعادته وهما عائدان إلى “وادي اللوز”، اعترض طريقهما شخص ملثم، يلبس ثياباً ذات لون كاكي، هي اشبه بثياب الجندى، و يحمل مسدساً، ثم يصرخ بصوت رددت اصداءه تلك الوديان:

_ قف.. مكانك!…

ارتعب الاثنان، و اهتزت ركبهما من فرط المفاجأة.. حتى”افندينا” نسي ما بينه و بين ضرغام، او انه لم يتوقع ان يقوم ضرغام بعمل مثل هذا..

ثم امرهما برفع ايديهما، ففعلا.. و اقترب منهما شيئاً فشيئاً ثم انتزع سلاحيهما و أمرهما بالسير أمامه، و هو يقول لهما:” ماذا تفعلان هنا في مثل هذا الوقت؟!.. لا شك انكما جاسوسان… الا تعلمان بان هذه منطقة عسكرية محرم الاقتراب منها ليلا؟!..”

    و حاولا ان يتكلما، و لكنه استهزأ بهما و بكلامهما، وهو يقول لهما: “سنرى.. سنرى.. عما قليل سنرى..”

   و على بعد عدة امتار من ذلك الوادي كان يوجد كهف، و كان ضرغام قد اودع فيه ابن عم له بعد ان اطلعه على ما يجب عمله، و كان ملثما مثله و يلبس نفس ثيابه لذلك. و عندما وصلوا الى ذلك الكهف، طلب ضرغام من ابن عمه ان يقيد كلا من هذين الأسيرين.. ثم سلمه احدهما، و هو “افندينا” و أمره بان يسلمه الى مركز “س”. ثم يتبعه إلى مركز “ك.ن.”. و تابع هو سيره و أمامه” شاهين” و يداه مقيدتان الى خلفه.

    و ما كاد ضرغام يبتعد عن الكهف بضع خطوات حتى انفجر افندينا بشيء من التوسل و الخوف:

_ و الله يا افندينا لا نعرف التجسس و لا علاقة لنا به.. نحن يا افندينا ذاهبين الى بيتنا، و هما قريبان من هنا، و تعال معي حتى تشوف بعينك!..

_ هاه!.. اذن انت (( افندينا حامي الحمى)) اليس كذلك؟..

_ ايه و الله يا افندينا كيف عرفت؟!..

    و هنا كشف الملثم عن وحهه و قال له: “هاه، عرفت الآن كيف عرفت؟!”

    فضحك افندينا حتى كاد يقع على ظهره، و هو يقول “الله يخرب بيتك يا ضرغام.. انا قلت يمكن تكون عملته.. لكن ما تصورت ان يقوم بهيك عمل.. يا افندينا.. والله طلعت ارجل مني يا ضرغام، ثم حضن الرجل و قبله، و قال له طبعاً ستسير انت الآن وراء ضرغام يا افندينا.. قد يحتاجك في الطريق.. لكن، الم تقل لي الى اين ستأخذونه.. يا افندينا..هه؟!..”

    فقال له الرجل وهو يضحك:” كل شيء في اوانه طيب.”

    و تابع افندينا إلى منزله و كأنه لا يعرف شيئا.

    اما ضرغام و ابن عمه الذي لحقه بعد دقائق فتابعا سيرهما مع اسيرهما الى سفح جبل يبعد عن بلدتهما مسافة نصف ساعة سيراً على الاقدام باتجاه الغرب و قد اقام ابناء عم ضرغام في هذا الجبل مقلعا و كسارة للصخور يوزعون منها ما يلزم من حجارة او الحصى للبناء للقرى المجاورة. و قد أقاما هناك غرفتين و مستلزماتهما ليضعا فيهما ادواتهما و يستريحا بعض الوقت عندما يستبد بهما الحر او التعب. و قد طلب ضرغام من ابناء عمه ان يلزم احدهما المقلع بعد ان يختفي كما فعل هو، و ان يصاحبه الآخر الى تلك المغارة. و قبل ان يصلا إلى المقلع ببضع مئات من الامتار اعطى ضرغام منديلا لابن عمه و طلب منه أن يعصب عيني الأسير. و بعد هذا قال لابن عمه بأن يذهب الى المركز(.‘.) و يحضر دابته من هناك. و فهم الرجل بالاشارة، و اسرع الى المقلع فاحضر بغلاً. و عندما قال ضرغام لشاهين، ان الارض وعرة هنا و لا تستطيع السير لوحدك و انت معصب العينين، لذلك ستركب البغل و سنساعدك نحن، و لكن تأكد باننا لا نريد منك شيئا اذا ثبت لدينا انك و زميلك بريئان. و كل ما نريده هو التأكد من هويتكما و نشاطكما. و امتطى إبن عم ضرغام ظهر البغل، ثم ساعد مع ضرغام شاهين على الصعود، و جعله امامه كي يمسكه فلا يقع لأن يديه مربوطتان.

    و هكذا وصلوا الى المقلع و ادخلوا شاهين في غرفة و ابقوه هناك بعد ان اقفلوا جميع مداخلها. و بقي إبنا عم ضرغام بحراسة شاهين الذى فكوا يديه بينما قيدوا رجليه بسلاسل من حديد حتى لا يهرب. ووفروا له الطعام و الشراب و كل ما يحتاج. و من اجل ان يوهموه، كان يدخل عليه بين الحين و الآخر شخص و يسأله عن اسمه، و مكان اقامته و عمله.. ثم يتظاهر بانه سيرسل بتحقيق عنه بناء على هذه المعلومات. و كان اول من سأله عند وصوله هو ضرغام نفسه.. و في الصباح سأله واحد من الأثنين المكلفين بحراسته اسئلة أخرى. و في اليوم التالي سأله الشخص الآخر. وهكذا لكي يوهموه بأنهم مجموعة كبيرة..

    ثم يعودون لينقلوا له بانهم لم يجدوا احد بهذا الاسم و لا تلك الأوصاف التي قالها.. اذن لا بد انه جاسوس او رجل خطير.. و كل هذا من اجل اطالة المدة، و ألا يمل هو ريثما تنضج أمور أخرى…

    و في صباح اليوم التالي وصلت هذه الاخبار الى المحامي مسعود الذى سارع بدوره الى طلب عقد جلسة مستعجلة، لمناقشة قضية “رائد”. و حاولت المحكمة تأخير الجلسة، و المماطلة فيها.. الا ان الصحف و الرأى العام الذى اصبح معبأ لدرجة خطيرة جعل المحكمة توافق على عقد جلسة قريبة خوفاً من ثورة عارمة..

فكرة طارئة

    و قبل موعد الجلسة بيوم واحد انتشرت الاخبار في طول البلاد و عرضها عن اعادة النظر في جريمة “سن الفيل”، و نشرت الجرائد على صفحاتها الاولى، بالعناوين البارزة:” غدا سيتقرر مصير قاتل سبيطين”..” غداً يوم حاسم في تاريخ القضاء”..” غدا المفاجأة الكبرى!!”..” ان الجماهير تتوقع حدثاً تاريخياً حاسماً!!”..” غداً ستنكشف الحقيقة و تسقط الاقنعة!!”…

اما جماهير الشعب فباتت تنتظر الغد بفارغ الصبر.. و أعداد كثيرة من العمال لم تذهب إلى أعمالها في اليوم التالي و ذلك لمراقبة ما قد تسفر عنه تلك الجلسة…

    و باتت ام رائد وجده وجدته و أختاه و جميع اقاربه يمنون النفس بعودة رائد من السجن، و لتمحى عن جبينه تلك التهمة الدنيئة التي ألصقت به. و كم تمنت أم رائد ان يكون زوجها بكامل وعيه ليشهد معهم ذلك اليوم، و يسر قلبه بمشاهدة ابنه و لو في قفص الاتهام..((آه!.. كم هو جميل ان يعود اسماعيل الى سابق صحته و ابتسامته العذبة ليرى ابنه امامه حراً طليقاً.. و يحتضن كل منهما الآخر!!..))

    افاقت عفراء من هذه التصورات على فكرة جعلتها تهتز من اعماقها.. فقد تذكرت قول الاطباء بان زوجها سيبقى على حاله ما لم تحدث له صدمة كتلك التي حدثت له، و ربما اقوى منها كي تعيده الى وضعه السابق.. فأسرعت الى الطبيب المسؤول عن علاج زوجها و الذى استمر على زيارته له اسبوعيا، و قالت له:

_ ما رأيك دكتور لو نأخذ اسماعيل معنا غداً إلى المحكمة و ندعه يجلس بالقرب من قفص الاتهام الذى سيكون فيه رائد، فلعله يشاهده.. و قد تحدث له هذه الصدمة، كما تفضلتم، و تعيده الى صحته؟!..

_” و الله يا ام رائد أنك لعلى حق.. و الله انك قد سبقتينا إلى هذه المأثرة. و لكن لا ادرى ان كان بامكانه ان يميزه ام لا.. على اية حال ليس هناك من خسارة، و ان كان لا يزال ثمة امل بأن رؤيته لابنه رائد، الذى كان سبب الصدمة الاولى، قد تحدث لديه نوعاً من اشغال الذاكرة و تنشيطها.. و الامل بالله كبير..”

    و اما بانسبة لضرغام “و افندينا” فقد اتصل كل منهما بجماعته و أعدا كل شيء للوقت المحدد…

    و بعد أن عاد القاضي من باريس، بقي بضعة أيام في بيته يستقبل المعزين بوفاة والدته، و كان يود أن تطول هذه المدة ريثما تنتهي تلك الزوبعة التي تغوص فيها المحكمة و القضاة، و البلاد بأجمعها.. و لكنه لم يستطع التأخر اكثر، جهز نفسه، و عاد الى عمله، و قد عزم على أن يعالج الأمور بما يقتضيه الواجب مع مراعاة الظروف و ما تتطلبه، و إن كان قد عز عليه موت أحد رفاقه و تعرض الآخرين للخطر و التهديد…

اليوم الحاسم

    و بينما كانت قاعة المحكمة و منصتها في حالة انهماك و اعداد، كانت جميع المنافذ و الطرقات و الساحات في الخارج تغص بالناس الذين أتوا من جميع انحاء البلاد ليشهدوا ما قد تسفر عنه تلك الجلسة التي طالما هزت البلاد اخبارها و ملابساتها.. و عندما اقترب موعد افتتاح الجلسة بدأ الناس يدخلون القاعة افواجاً افواجاً.. و كان المحامي مسعود قد اعد مكاناً لوالد رائد و امه و الطبيب الذى يرافقهما لمراقبة اسماعيل. و بعض اقاربه بالقرب من المكان الذى سيقف فيه المتهم بعد ان كان قد اتصل برائد و اخبره عن حالة ابيه، و طلب منه ان يحاول الفات نظره اليه باية طريقة يستطيع.

    و ما هي الا دقائق حتى كان كل شيء قد اعد، ثم دخل الحاجب بصوته المدوي، و هو يصرخ ((محكمة!)).. و على الأثر يدخل القاضي و مستشارون ليأخذوا اماكنهم خلف المنصة.

    كان طبيب اسماعيل قد اعطاه بعض الادوية قبل الخروج من البيت، و اخذ معه في حقيبته كل ما يمكن ان يلزم لأي طارىء قد يحدث. و اقصى ما كان يخافه الطبيب هو ان تحصل الصدمة و تكون النتيجة عكسية، فلذلك زوده ببعض المقويات، و حمل بعض المهدئات و غيرها مما قد يلزم في مثل هذه الظروف. و كان اسماعيل في المدة الاخيرة قد استعاد بعض صحته، و اصبح بامكانه بمساعدة اي شخص، لارشاده فقط، ان يسير، و يعمل كل ما يطلب منه، و لكن بالاشارة. فاذا وضعوا الطعام امامه، و كان جائعاً، يأكل. و اذا اعطوه ماء يشرب، و لكن بدون وعي كامل.. فهو اشبه بالنائم الذى يقوم من فراشه ليطوف في انحاء البيت او خارجه، و هو ما زال نائماً.. لا يستطيع محدثه ان يحكم عليه ان كان يسمع أم لا… فأحياناً تكلمه، بل و تصرخ باعلى صوتك فلا يلتفت اليك، و احيانا يسمع صوتا خفيفا و قد يكون خارج البيت فتراه يلتفت ناحية الصوت فجأة و يفتح عينيه على مداهما و تبدو عليه علامات الاهتمام، و لكن سرعان ما يزول كل هذا و يعود، فتتحول تلك النظرات الى حملقة بلهاء لا معنى لها.. و كان لا ينطق اطلاقاً، الا انه في الآونة الاخيرة بدأت تصدر عنه احياناً تمتمات و غمغمات غير مفهومة. و قد لوحظ اخيراً انه يقلب يديه و هو يصدر مثل هذه الغمغمات، و يرسم اشكالا في الهواء، و كأنه يحادث نفسه، او يحادث شخصاً يتخيله. و قد خشي الاطباء عندها ان تتحول حالته الى نوع من الجنون تصبح مع الزمن ميؤساً منها.

    و بينما كان الطبيب و زوجة اسماعيل يحاولان اخراجه من السيارة امام قصر العدل، فاذا برأسه يرتطم بأعلى فتحة الباب.. كان الارتطام شديدا بعض الشيء، الا انه لم يكن خطراً، كما انه لم يؤدى الى جرح، بل تسبب في انتفاخ بسيط اعلى الجبهة، فعالجها الطبيب، بدلكها بعض الشيء و الضغط عليها، و لم يوليها كثير اهتمام.

    امسك الطبيب بذراع اسماعيل و امسكت زوجته بذراعه الآخر، و سارا به و كأنهما يجرانه جراً، و من و رائهما والد ووالدة عفراء، اما ابنتاها و باقي الجيران و كل من لهم بها صلة فقد بقوا خارج القاعة، لانه بالطبع لا تسع القاعة الا عدداً محدوداً.. و عندما اصبحوا داخل القاعة وسط ذلك الحشد الهائل من الناس، لاحظ الطبيب تغيراً كبيراً في نظرات اسماعيل.. فقد بدأ يشع منهما بريق فيه بعض الفضول، و كأنه شعر بغرابة المكان.. فاستبشر الطبيب خيراً، و ان كان لا يزال يخفي بعض المخاوف من وقوع مفاجآت اليمة.. فتابعوا سيرهم الى المكان الذى ارشدهم اليه المحامي، و الطبيب يرصد كل حركات اسماعيل، و لا يبعد نظره عنه قط..

شيء من الماضي

    عندما دخل القاضي و المستشارون و استقروا خلف المنصة، لاحظ الطبيب و كأن عيني اسماعيل قد شدتا إلى تلك المنصة و إلى من هم خلفها، و بدا عليه و كأنه يتفحص شيئاً.. و لاحظ الطبيب كذلك انه لم يعد في نظراته ذلك البرود و الزوغان، كما كان سابقاً.. بل ((ها هو ينظر في تمعن…. و لكن ما الذى لفت نظره، و شد انتباهه.. أتكون هيبة المحكمة، ام انه استشبه في شخص ما، فيحاول التعرف عليه؟!.. على اية حال فهي بشارة خير..)) هذا ما كان يفكر فيه الطبيب عندما لاحظ أن وجه اسماعيل قد صبغ باللون الاحمر، و بدت عليه حالة عصبية، ثم وقف فجأة و كانه يريد أن يسير.. فوقف الطبيب فجأة و قد انخلع قلبه من الفزع، ووقفت معه من الجهة الثانية زوجة اسماعيل، و بهذا اصبح محصورا بينهما.. فقد خاف الطبيب من ان تكون قد سيطرت على اسماعيل نوبة جنون حادة، و انه ينوي بوقفته هذه شرا بأحد ما… و الا فما معنى هذا التحديق و ذلك الاحمرار الذى غشي وجنتيه؟!…

    الا ان اسماعيل عندما وجد الطبيب و زوجته قد وقفا على جانبيه، نظر الى امامه ثم الى خلفه، و كانه وجد جميع الطرق امامه مقفلة، فعاد و نظر ناحية زوجته و هو (لاول مرة) يشير لها بيده نحو المنصة و يتمتم بشيء من الحماس:

_ ي..ي..ي..س..ف..س..ف…

    فابتسمت له زوجته من اعماق قلبها، و عيناها تكادان تدمعان، ثم امسكت بيده بحنان و كأنها تشير له بالجلوس.. فجلس إلى جانبها كالحمل الوديع، و هو ما زال ينظر تارة  الى المنصة و تارة الى زوجته و يهز راسه، و يبدو و كانه (لاول مرة) يبتسم، و يدندن مع ابتسامته بنفس التمتمات:

“ي.. ي..س..ف..س..ف..” و لكنه لم ينظر الى الطبيب قط.. و تعجب الطبيب،  و لم يستطع لما شاهده من تفسير..

    كان المحامي مسعود قد شرح للقاضي وضع اسماعيل و رأي الاطباء فيه، و اطلعه على عدة تقارير طبية كان قد احضرها معه لهذا السبب. و بعد هذا التمس من القاضي و هيئة المحكمة الاخذ بعين الاعتبار هذه الحالة.. و اذا بدر من اسماعيل اية حركات نحو ابنه رائد عندما يشاهده، فيرجو من هيئة المحكمة عدم اتخاذ اية اجراءات بهذا الصدد قد يكون من شأنها القضاء على امل اهل اسماعيل  و ذويه و الاطباء بالشفاء. فهو، بإسم الانسانية، يرجوهم ان يساهموا في عمل نبيل كهذا، و الا يكونوا حجر عثرة في سبيل تحقيقه.. ووعد المحامي خيراً.. و ابلغ القاضي جميع الحرس و الشرطة المكلفين في المحكمة بهذا الامر.

    و لكن القاضي عاد ليسأل المحامي: ((هل تعرف إسماعيل زا..ز.. ظاهر الرشيدى هذا؟.. اسماعيل.. اسماعيل ظاهر..؟.. يعني هل بينك و بينه صداقة، أو تربطك به أية قرابة؟.. أو اية معرفة؟..

_ معرفة بسيطة.. علاقة جيرة.. و كأية علاقة بين انسان و انسان.. لا اكثر.

_ لا بأس!.. لا بأس!.. لا تزعل.. لا تزعل.. ليس قصدي.. لكن انا احب ان اعرف شيئاً عن ماضي “ظاهر” هذا لأجلي انا، و ليس لأجل القضية.. على أية حال، ممكن تدلني عليه عندما يكون في القاعة؟..

_ إن شاء الله.. خير إن شاء الله..

    و قد لاحظ المحامي بان عيني القاضي لم تتحولا عن اسماعيل منذ أن دله عليه.

    و كان اسماعيل في البداية غير منتبه لنظرات القاضي، و لكن بعد ان استقر به المقام و تلفت في جميع الاتجاهات، تقابلت نظراته بنظرات القاضي. و طال التحديق بينهما الى ان وقف اسماعيل. و لم يلحظ الطبيب بان القاضي قد وقف ايضاً عندما وقف اسماعيل، الا انه عاد فجلس بسرعة و لم يلحظ الطبيب القاضي و انفعالاته لان كل همه كان منصباً على اسماعيل و ما قد يصدر عنه من حركات و انفعالات.. الا ان ام اسماعيل و اخته سلمى اللتين كانتا تجلسان في المقعد الذي يلي مقعد اسماعيل مباشرة، قد لاحظتا هذا الشيء..

و حبس الجميع انفاسهم

    و ما كاد اسماعيل يهدأ بعض الشيء حتى مر امام ناظريه شيء جعله يقفز صارخا باعلى صوته:

_ رائد!.. رائد!.. رائد!.. ابني!.. رائد!..

    و ما كاد ينتهي من هذه الهتافات حتى كان قد وصل الى رائد الذى كان لا يزال يسير بين ثلة من الشرطة و هو مكبل اليدين، فيضمه الى صدره، و يقبله بحرارة بالغة لدرجة أثارت معها مشاعر جميع الحاضرين. و كان الحضور الذين لا يعلمون بحالة اسماعيل قد هالهم ما شاهدوه في بادىء الامر من تلك الصرخات المدوية المخيفة، و ذلك الاندفاع الذى سار به نحو إبنه متجاهلاً كل ما حوله، الا ان الشرطة الذين كانوا يرافقون رائدا قد لاحظوا هذا الهلع، فطمأنوا الجميع و هم ينادون:

_ لا تخافو!.. لا تخافوا!.. كل واحد يلزم مكانه.. لا تخافوا!..

    اما فرحة الطبيب و زوجة اسماعيل و امه و اخته سلمى، و عمه ابو خليل وزوجة عمه، و إبنه رائد، كانت لا تقدر. و كانوا يريدون ان يلحقوا به جميعاً، الا أن الشرطة لم تسمح لهم، و بعد ان توسط المحامي سمحوا للطبيب و لزوجة اسماعيل بان يبقيا معه خوفاً من ان يحصل له ردة فعل..

    و انتظر الجميع ريثما ينتهي اسماعيل من ابنه، و حبس الجميع انفاسهم انتظاراً لما قد يبدر عنه من تصرف بعد هذه المفاجأة.. و لم يطل انتظارهم، الى أن شبع من إبنه او بالاحرى بعد ان تعب من فرط ما بذل من جهد عاطفي و نفسي، بدأ يتلمس إبنه الى ان وصلت يداه الى القيد، فبدت عليه الدهشة، و نظر حوله ليسأل عن هذا، فاذا به يجد الشرطة، ثم يجد زوجته الى جانبه، فقال لها:

_ ما هذا؟!.. خير إن شاء الله!.. اين نحن؟!..

    فاجابته زوجته بحنان و الابتسامة التي توحي بالطمأنينة لا تفارق محياها:

_ حادث بسيط حصل… و ليس لرائد اية علاقة به و لكنه كان موجودا اثناء الحادث، و لا بد من المحاكمة، و انه برىء، و لا شك ستبرئه المحكمة بعد ان تستمع الى اقواله، وتطلع على الحقيقة.. المهم انت لا تنزعج، ليس هناك ما يدعو الى الخوف، فكل شيء يسير حسب  الاصول، و كما يقدر الله..

    و قد لاحظت الزوجة و هي تكلم زوجها بعض التغير قد طرأ عليه، فبهت لونه، و ندى جبينه بقطرات من العرق، و بدا عليه الضعف، الا انه تابع اسئلته:

_ لماذا.. لم اعرف.. انا بالقضية؟.. و كيف حصلت؟.. و اين…؟

    و كانت الكلمات تخرج من فمه ممطوطة كمن يتثاءب، أو كمن غلب عليه النعاس، ثم اخذت تضعف الى ان تلاشت عندما تهاوى و كاد ان يسقط لولا ان امسك به الطبيب و الزوجة واسنده..

    و ما هي الا لحظات حتى كان بسيارة الاسعاف التي اوصلته الى البيت و معه زوجته و الطبيب.

إلى اللقاء في الحلقة السابعة عشر (الامر بالاستدعاء)

شاهد أيضاً

فتيل سريع الإشتعال للتفجير

___كتب /سعيد فارس السعيد: ١٧ / ٤ / ٢٠٢٤ لن تسطيع أية دولة بالدول النامية …