الإبن الضـّال … السياسي

                                                                               طعـّان حبشي

إنّ سلسلة البطاركة الموارنة، الضـّاربة  جذورها في عمق التاريخ ، الى الزمن الذي كان مسرحا ً لحرب ٍ كونيّة ــ روحيّة ضروس ، دارت رحاها ما بين الخير والشر، ما بين النور والظلمة، وما بين أضاليل ودياجير العقل البشري من جهة، والكلمة الإلهيّة في البشرى السّارّة من جهة ٍ ثانية، كانت من الخلف الى السلف، سُبحة رجال أتقياء عظماء ، تمنطقوا بالقداسة رداء ً، وبالتعقـّل والرزانة منهجا ً، وبالفضائل السامية سيرة ً وسلوكا ً، وبضيق وضناكة العيش حياة ً، وبالتبصـّر والحكمة مشورة ً ورعاية ً وقيادة ً لأبناء دينهم وشعبهم، فلم يبخلوا يوما ً من تقديم كل ما هو غال ٍ ونفيس، أو بالأحرى كل ما كان متوفر لديهم فيتلك الأيام، حتى الموت والإستشهاد، في سبيل المحافظة على بقاء مجتمعهم وأمـّتهم ، وقد بذلوا في سبيل هذه الغاية ما فاق حدود العجب، وما فاق حدودمنطق القدرة على التحمـّل، الظاهر فيما بذلوه من تضحيات جسام تكاد لا تصدّق، تـُرى في ما تحمّلوه وما تعرضوا له، خلال كل حقبات ومراحل تاريخهم الطويل، وفي محطات ٍ لا تـُحصى ولا تـُعدّ، من شتى أنواع وأشكال ، الظلم والجور، الإضطهاد والقهر، القتل والبطش، والتعدّيات والمذابح والحروب، وخير شاهد ٍعلى ذلك، هو كثرة مقراتهم وأديرتهم وصروحهمومقامانهم، التي سكنوها وعاشوا وتنسّكوا فيها، والتي تحتضن ضرائحهم ورفاتهم، والتي كانوا يستبدلونها وينتقلون إليها هربا ً وإختباء ً وتحصـّناً، وها هي، في وادي قنوبين، ميفوق، لحفد، يانوح، هابيل، الكفر، بنهران، وفي بكركي والديمان، وغيرها من الأمكنة ، التي لا تزال بأثارها ومآثرها ،منتشرة على طول مساحة هذا الجبل الأشم ، في قعر أوديته ووسط  جلاميده وصخوره ، وفي وعر منحدراته ، وعلى مسننات قممه وتلاله ، وفي بطون وتجاويف كهوفه ومغاوره ، حيث هي تبدو مستقرة بمنأى عن الخطر ، يستحيل التسلـّق على مراقيها ، ويصعب وطىء دروبها ومسالكها ، ويتعذ ّر البلوغ إليها والنيل منها .

سلسلة البطاركة هذه ، التي أُعطي ّ لها مجدُ لبنان ، وزيد َ بها على مجد ِ لبنان مجدا ً، المولودة من رحم القداسة المتجسّدة بحياة مارون الراهب ــ الناسك ، وبدءا ً بالبطريرك القديس مار يوحنا مارون ، وصولا ً الى البطريرك الحالي مار نصرالله بطرس صفير، وبالرغم من المظالم وشهادات الزور والإتهامات ، التي لم يسلم منها العديد منهم ، إن لم نقل معظمهم ، كانوا، وهم اليوم ، وسيظلـّون ، أضنى الضنينين بالضنائن من المقداسات والمحرمات والتراث الديني والزمني لهذا البلد ، وكانوا ، وهم اليوم ، وسيستمرون في طليعة مَنْ دافع عن الحق ضد الباطل ، وإسترشد بالهدى ضد الضلل ، وتمسّك بالإستقامة ضد الإنحراف والخللوالزلل ، وناصرالصواب ضد الخطأ ، وصرخ بالحقيقة ضد الخديعة وبالصدق ضد الإفك والكذب . وكانوا ، وهم اليوم ، وسيكونون أول المعنيّين بمنعة وسلامة وبقاء لبنان حرا ً أبيـّا ً سيـّدا ً ، لأنهم كانوا في ظل كلالمحن والفتن والنكبات والإحتلالات التي توالت وتعاقبت علينا وعلى أرضنا ، خيرُ مَنْ إنبرى وطالب وإنتزع لناالكرامة والإستقلال ، من براثن المحتلين والمنتدبين والمغتصبين والمعتدين ، ورسّخ الإخوة فيما بين طوائفنا ومذاهبنا ، ليطلقها رسالة سلام ومحبة ، يـُحتذى بها ،الى العالم أجمع ، وثبـّت لنا حريتنا وكياننا وسيادتنا ، التي في رحابها ، بالأمس واليوم وغد ٍ، نحيا وننعم ونعيش .

بالمقابل ويا للأسف ، وفي كل وقت ٍ وزمان ، ثمة مَنْ يكفر بالنعمة ، ويميل بهواه مهب الشك والإرتياب ، فتعمى بصيرته ، ويلقي بنفسه من على مفارق الغيّ والضلال ، فيخرج من كنف البيت البطريركي الأصيل، رامياً سهامه المسمومة بالأباطيل والإفتراءات من عواهن الكلام ، على سدّته وسيّده ، حانثا ً بالفضل الأبويّ  وناكرا ً للجميل ، فيقررالإبتعاد ، كمثل الإبن الضـّال الذي صرف نصيبه من الإرث ، على المفاسد والملذات ، في أحضان الغواني والعاهرات ، فيصرفمَنْ ضلّ طريقه من السياسييّن رصيدهم ، الذي هو جزء من رصيد أمتهم وشعبهم ، المـُحصّل بالجهد والكدّ ، بالعرق والصبر والتضحية حتى الإستشهاد ، وعلى مرّ العصور ، ليصرفونه سدى في غير مكان ، ولصالح الغير، من المتربـّصين شرا ًبهم وبشعبهم ووطنهم ، وبدون تفرقة ، والذين ما أنْ يعوا ما هم فاعلون ، ويتكشـّف سرّهم بما كانوا عليه من الغباء والجهل والوضاعة ، يكون قد فات الآوان ، على ما جلبوه لنا ولبلدهم من المذلـّة والهوان . 

ولكن ليعلموا جيدا ً، ومهما إبتعدوا ومهما جحدوا ، سيظل أبوهم البطريرك واقفا ً من على عتبات بكركي والديمان ، منتظرا ًعودتهم ، متلهـّفا ً للقائهم ، وضمّهم الى صدره بشوق ٍ وحنان ، ولن يتوانى أبدا ً، عن خلعرداء الأبوّة عليهم ، وإلباسهم خاتم البنـّوة المـثمّن ، وتكريمهم بذبح العجل المسمّن . 

                                                                         

شاهد أيضاً

مُسانَدَة غَزَّة هِي دِفاعٌ عن لُبنان*

بقلم علي خيرالله شريف عندما تَدَخَّلَ ح. الله في سوريا استنفر بعضُ اللبنانيين وراحوا يُحَرِّضون …