العلاقة بين الكاتب والمكتوب “قواعد العشق الأربعون” أنموذجاً…

 

 

العلاقة بين الكاتب والمكتوب “قواعد العشق الأربعون أنموذجاً…
أن تشعر برهبة وأنت تهم بقراءة رواية، فهذا أمر يبدو مستغرباً، بل شديد الغرابة حيث أن القصد من القراءة التزوّد أكثر من المعرفة دون حصرية الموضوع الذي تسعى لقراءته. أو رغبة في إملاء الوقت بما تعتبره غذاءً فكرياً.

العلاقة بين الكاتب والمكتوب

للحظة كأنها ومضة اللاوعي انتابني شعور بأنني واحد من شخوص الرواية التي أدمنت على قراءتها كلما انتابني شعور بالذهاب إلى الصمت والانطواء. أقصد رواية “قواعد العشق الأربعون ـ رواية عن جلال الدين الرومي”. لحظات تأخذك إلى التلفت يمينا ويساراً للتأكد بأن بطل الرواية ليس بقربك أو يتجسسا على مشاعرك خفية منك فيسكناك ويجعلاك مكشوفاً أمام نفسك الصامتة بأفكارك وهواجسك.

لعل ليس هذا، ربما أن الكاتب قدر ببراعة، وبوحي من حدسه جعله قادراً على كشف كنه سرائر النفوس القابعة في الحيرة بين شك ويقين في تفسير وقراءة ما حولها، بل في بحثها عن حقيقة لا تعرف حتى من أين تبدأ البحث عنها.

لا شك بأن الموضوع الذي يختاره الكاتب ينطلق من رؤيته الثقافية والفكرية، فيسعى إلى ترجمتها وجعلها تسري في عقول وأفكار الآخرين، بعدما يكون قد استقرأها أو استلهمها من المحيط والبيئة التي يدور في فلكها. بل، ربما تكون رسالة رغب أن يبثها على الملأ ليشاركوه اعتقاداته أو يطلعهم على مكنوناته. وربما تكشف العلاقة بن الكاتب والمكتوب.

“قواعد العشق الأربعون”

بدت الرواية رسالة في سردها وفي سيرة أبطالها بما انطوت عليه صفحاتها، حيث أبدعت الكاتبة التركية “إليف شافاق” في تقديم بطل الرواية، أوبطلا الرواية: شمس التبريزي وجلال الدين الرومي (رغم أنني أعتقد أن شمس التبريزي ليس سوى الشخصية المغيبة عن الأنظار لجلال الدين الرومي في فلسفاته)، وزاد في جمال عباراتها وسرد أحداثها ووقائعها براعة المترجم خالد الجبيلي في تركيباته اللغوية المشجعة على القراءة.
ناهيك عن أن الكاتبة أرادت تقديم هذا العمل الروائي بسيناريو قارب القصص العالمية التاريخية التي تُرجم الكثير منها والتي استهوت الكثيرين من المخرجين والمنتجين السينمائيين لتقديمها إلى جمهور الشاشة.
وكي لا تقع في رتابه السرد وتعويق النص على استيلاد حدث يستفز القارىء، جعلت الشكل مؤثراً في البناء الروائي، وقاربت أسلوب دستويفسكي في روايته “الفقراء” التي سردها عبر رسائل متبادلة بينه (ماكار دييوفشكين) وبين (فارفارا أليكسييفنا)، وعرض الهواجس والانفعالات النفسية حيناً على لسانه وآخر على لسان أبطاله، بل تم توزيع الحركة الفكرية وحواراتها الذاتية بالجهر في الهمس النفسي على أكثر من لسان.

في “قواعد العشق الأربعون” التي تدور أحداثها جلّها في مدينة قونية التركية، (مدينة في بلد الكاتبة)، لا تتوقف “إليف شافاق” عن أخذك من صورة إلى صورة تحادثك فيها عن هواجسك فتصير أسيراً لما بعد وما سيكون، من موقف بين بطلي الرواية وما يحيط بهما من علاقة تشمل في بعض صور منها الجانب العاطفي وفي جانب آخر القاسي رغم تبريره النفسي.
لن استغرق في الانطباع لأتسلل إلى الأثر النفسي المستدرج للقارىء ليشارك بطل الرواية (شمس التبريزي) وعلاقته بكل من يلتقي بهم.
فشمس المعروف في الأدبيات المترجمة عن الفارسية إلى العربية، صوفي مستغرق في صوفيته حد الكفر من حيث الشكل، والمؤمن حد الذوبان في العشق الإلهي الذي يبرر له كل أفعاله أمام ومع الآخرين، من البغاة وحركتهم وفعلهم إلى الأولياء وتعبدّهم.

 

 

الكاتب والمكتوب

في هذا السياق الفلسفي تصبح أنت كقارىء أسير هواجسك النفسية التساؤلية في كثير من المحطات الفلسفية التي ينطق بها التبريزي، وهذا إلى حد أن تركض بين سطور النص عسى أن تتأكد أنك لست المقصود بما تقرأ أو أنك لست أحداً ممن يتعايش معهم فيلسوف الرواية، أو أنك لست التبريزي أو الرومي أو وردة الصحراء البغي، أو بيبرس الحارس القاسي، أو إيلا أو عزيز أو ديفيد… إلى آخر من ينطقون في سياق النص.
ولعل أكثر ما ساهم في قبولية هذه الرواية عند الغرب الذي بادر إلى ترجمتها إلى لغات عدة، أن بطلها قارب في فكره ما يستهويه هذا الغرب في التعبير عن الحرية الذاتية في التفكير وأسلوب الحياة الرافض لكل قيد أياً كان مصدره، رغم ارتباط بطلا الرواية في العمق الديني المترقي وصولاً إلى العشق الإلهي.
ففي موضوع العلاقة مع الله يظهر إطلاق الرؤية الفلسفية جلياً، والذي ما زال إلى اليوم بعنوان الأشاعرة والمعتزلة، بين العلة والسبب، وهل الإنسان مسؤول عن أفعاله أم أسير توجيه فطرته التي جبل عليها. ولا تقل الجرأة عن إطلاق القول إن أفعال الإنسان من خير أو شر ليس الإنسان، بحركته وطبيعته، هو المسؤول عنها، فهو خلق مأموراً بدور معين يقوم به ليدلل على نقيضه من فعل، فأنت لا تعرف أفعال الخيّرين إلا من خلال  معرفتك بأفعال الأشرار!!
ودليله على العلاقة مع الله عنوانها الحب، يقول النص: “من السهل أن تحب إلهاً يتصّف بالكمال، والنقاء، والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحبّ إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم. تذكّر، أن المرء لا يعرف إلا ما هو قادر على أن يحب. فلا حكمة من دون حبّ. وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً”. “إنّ القذارة الحقيقية تقبع في الداخل، أما القذارة الأخرى فهي تزول بغسلها. ويوجد نوع واحد من القذارة الأخرى لا يمكن تطهيرها بالماء النقي، وهو لوثة الكراهية والتعصّب التي تلوّث الروح. نستطيع أن نطهّر أجسامنا بالزهد والصيام، لكن الحبّ وحده هو الذي يطهر قلوبنا”. “الشيطان ليس قوّة خارقة تهاجمك من الخارج، بل هو صوت عادي ينبعث من داخلك. فإذا تعرفت على نفسك تماماّ، وواجهت بصدق وقسوة جانبيك المظلم والمشرق، عندها تبلغ أرقى أشكال الوعي. وعندما تعرف نفسك، فإنك ستعرف الله”. “هل من وسيلة لفهم ما معنى الحب من دون أن تصبح حبيباً في المقام الأول”؟ ” الحب لا يمكن تفسيره؛ ولا يمكن إلا معايشته واختباره. مع أن الحب لا يمكن تفسيره، فهو يفسّر كل شيء”. (ص 284 وما قبلها)”.
ومثال آخر ورد في النص من خلال حوار بين السكير والرومي حين أجبره شمس يالذهاب إلى الحانة لشراء قنينة نبيذ، وهو العالم الموقر المرشد الديني المعروف بكل جلاله. يقول السكير في حواره شعراً مقتبساً (الاقتباسات كلها عن الرومي):

“هل تظنن أن الله خلق الكرمة/ ثم حرمها وجعل شرابها إثما؟
استنكر محاوره الأمر رافضاً، فأكمل السكير شعره:
فاشكر الذي سخرها لنا هكذا/ والذي لا بد أنه يحب سماع صلصلة الأقداح.  إشرب لأنك لا تعرف من أين أتيت، ولماذا أتيت/ إشرب لأنك لا تعرف لماذا تذهب، وإلى أين تذهب”. (ترجمات من الفارسية).
ويقول: إذا كان الشراب نفسه يجعل من البعض مرحين ومنتشين، وجعل آخرين أشراراً وعدوانيين، أفلا يجب أن نلوم الشارب لا الشراب نفسه”؟

نقيض عجيب من القواعد الفلسفية تخلط بين فلسفات دينية ووضعية. مرة الإنسان مسؤول عن أفعاله ومرة الإنسان مأمور ومسيَّر في أفعاله.
ناهيك عن التيه بين مسميات الأديان والكتب السماوية، بين المسيحية واليهودية والإسلام. وقد شاءت الكاتبة أن توظف العلاقة بين هذا وذاك من خلال أشخاص الرواية في مسمياتهم وحواراتهم، وتنطلق في عملها من واقع الزمن الحاضر وما فيه من اختلافات بين أتباع الأديان السماوية، وهذا يدلل على رؤيتها، والعلاقة بن الكاتب والمكتوب!
“قواعد العشق الأربعون” قواعد فلسفية لا حصر لها في موضوعها. بل تأثيرها في القارىء وفي الكاتب معاً.

.

غلاف الرواية

مؤلفة “قواعد العشق الأربعون”

إليف شافاق.. روائية تركية لها العديد من المؤلفات باللغتين الإنكليزية والتركية. كما ترجمت أعمالها إلى أكثر من 25 لغة. ولدت إليف في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، وقضت فترة مراهقتها في مدريد قبل أن تعود إلى تركيا. ألفت شفق العديد من الروايات والقصص باللغتين التركية والإنكليزية، ولكن شهرتها الكبيرة جاءت نتيجة روايتها الشهيرة قواعد العشق الأربعون. (منقول إلكترونياً).
.

مترجم “قواعد العشق الأربعون”

خالدالجبيلي.. مترجم سوري مقيم بولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، حائز على إجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة حلب، بسورية، و من معهد اللغويين بلندن. يعمل حاليا مترجما و مراجعا في الأمم المتحدة. له أكثر من 45 كتابا، رواية، قصص، دراسات وتاريخ، وهي الحصيلة الترجمية المفتوحة التي حققها لحد الآن. أول عمل ترجمه إلى اللغة العربية، كان رواية «مزرعة الحيوانات» للكاتب البريطاني جورج أورويل عندما كان طالباً بالسنة الثانية في كلية اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعة حلب. (منقول إلكترونياً).
.

  1. *العلاقة بين الكاتب والمكتوب
    علي.أ.دهيني- كاتب لبناني ورئيس تحرير مجلة “مدارك ثقافية” الإلكترونية.

شاهد أيضاً

كيك المثلثات..

​#المكونات 4 بيضات 1 كوب سكر 1 كوب زيت 1 ملعقة صغيرة من الحليب بودرة …