آسفة تعبت (قصة قصيرة)

بقلم الكاتبة وداد طه

كان الدكتور هادي عائدًا إلى بيروت حين تناهت إلى سمعه ألفاظٌ غريبة، ولكنّها مألوفةٌ في الوقت نفسه، تنبعث من مسجِّلة السيّارة. أصاخ سمعَه، فانتبه إلى أنّ ما يسمعُه أغنيةٌ باللغة العبريّة. كشّر ولوى رأسه انزعاجًا. ثمّ فسح الطريقَ لسيّارةٍ مستعجلةٍ خلّفتْ وراءها مزيجًا من السّباب والغبار والهواء، جعله يرفع زجاجَ النّافذة، ويشغّل مكيّفَ الهواء.شدّته الموسيقى الحزينةُ التي تصاحب الكلمات. خشي أن يكون ذلك قبولًا أو خيانةً. قلّب بين القنوات، فراحت الأغاني تصدح من قناةٍ إلى أخرى باللغة نفسِها.هاتف صديقَه سامي، فلم يجب. عاد إلى الراديو يقلّب بين المحطّات، علّه يفهم ما يجري. لكنّه كلّما فتّش عن أيّ كلمةٍ عربيّةٍ بين الخاءات الكثيرة التي تطنُّ في أذنيْه، شعر بغربةٍ تكويه.مرّ أسبوعٌ على تلك الحادثة التي تندّر بها الأصدقاء؛ فالجميع أكّد له أنّها لم تحصل.

وكالعادة، ناقش هادي وأصدقاؤه التبدّلاتِ التي تشهدها المنطقة.أمّا سامي، الذي كان مع هادي في الحزب نفسِه وانسحبا منه ومن السياسة في اليوم نفسه، فقد علّق قائلًا: “يبدو أنّ طولَ استماعك إلى مرضاك الذّهانيّين جعلك واحدًا منهم.”لم يحرّكْ هادي عينيْه عن هاتفه. عدّل جلستَه متأهّبًا ليكتبَ شيئًا ما، ففهم سامي أنّها مها. كانت المشاكلُ بين هادي ومها قد تكاثرتْ في الآونة الأخيرة، فلجأتْ إلى سامي كي يتدخّل، لكنّه أجابها: “أنتِ تعلمين أنّ هادي عنيد. وإذا علم أنّكِ أخبرتِني بما حصل، فسوف يركب رأسَه الحديديَّ أكثر. اتركيه بعضَ الوقت.”لم تغيِّر مها كثيرًا من قناعات هادي عن الارتباط: فهما معًا منذ سنوات، وهو يتهرّب من الزّواج. لم يعد يكفيها أنّها استطاعت أن تكسرَ خوفَه من الحبّ. شعورُ التفوّق الذي منحها إيّاه، حين اختارها من بين كثيراتٍ يتمنّيْنَ قلبَه، بات سرابًا. تحلم بطفلٍ منه. قالت لسامي باكيةً:”بات هادي يعاملُني بمزاجيّةٍ غريبة. يقترب ويبتعد متى شاء.

جعلني ألجأ إلى قنوات اليوتيوب لأفهمَ شخصيّتَه، وأحلّلَ تصرّفاتِه. نرجسيٌّ معتوه. علاقتُنا بالنسبة إليه ليست أكثرَ من فراغٍ يملأُه. لو كان عنده ما يَشْغل هذا الفراغَ لاختاره. صديقُك أنانيٌّ، متعجرفٌ، قاسٍ. إلى متى كان عليَّ أن أنتظرَه؟ هل قال لك إنّه ليس مستعدًّا؟ وهل الزّواج غيرُ ما نحن فيه؟ لقد ظنّ أنّي ضعيفةٌ لأنّي قبلتُ أن أحبَّه من دون شروط.”كان الدكتور هادي يستعدّ للخروج. استعاد ما قالته المريضةُ التي سيلتقيها في العيادة بعد نصف ساعة. كانت تسأل سارحةً في الواجهة الزجاجيّة العريضةِ قبالتها: “أين يذهب الذين يسكنون القلبَ حين يرحلون؟ لا بدّ من أنّهم يختبئون، ثمّ يَظْهرون بوحشيّةٍ مِن أصغرِ تفصيل.”شعر أنّ ما رآه لم يكن صدفةً.فجأةً، وبينما كان يتناول ساعتَه الذهبيّة ويهمُّ بالخروج، لمح قرطًا في زاوية الخزانة الجانبيّة. كان قرطَ مها التي رحلتْ. ترك الساعةَ مرخيّةً بجانب القرطِ الذهبيّ، وخرج كعادته إلى العيادة الكائنة وسط بيروت.”أنتَ تعرف أنّكَ ضغطتَ عليها بقوّة. كنتَ تريد أن تبقى معكَ بشروطِك، مهما كانت هذه الشروطُ مجحفةً في حقّها. لقد تخلّت عن حلمِ الأمومة كي تبقى معك. أنتَ تعرف أنّك جبان وتخشى فقدانَها، فلِمَ لَمْ تتواضعْ في حبِّكَ لها؟ لِمَ عاملْتَها بلامبالاةٍ وكأنّك سيّدُ المواقفِ كلِّها؟ لقد قالت لك مرارًا إنّها امرأةٌ حرّة، لكنّك ظننتَ أنّ حريّتَها تلك مقتصرةٌ على اختيارِ حبّك. ها هي حرّةٌ حتّى منك الآن، ومن وحدتِها مِن دونك، ومِن رأيِ الذين لاموها حين كانت تختارُكَ بعناد. ماذا فعلتَ؟”دلف العيادةَ. تبعتْه السّكرتيرة. أشار إليها بأن تتركَه قليلًا. تراجعتْ، شعر بغربةٍ ملأتْ قلبَه وسماءَ بيروت.أنهى بعضَ مواعيدِه بمللٍ، واعتذر عن أخرى. سامي لم يردَّ على اتّصالاته الحثيثة. فكّر في بيتِ الجبل، لكنّه تراجع؛ فذلك المكانُ متخمٌ بالذكريات. “لو أنّكِ أدركتِ كم أحتاجُكِ يا مها! أين أنتِ؟ تعلمين أنّ كبريائي لن تسمحَ لي بأن أترجّاكِ. لِمَ صعّبتِ عليّ الأمورَ؟ أهي ورقةٌ تلك التي تحتاجينها كي أثْبتَ حبّي لكِ؟”رفرفتْ يمامةٌ قرب النافذة. قام عن كرسيّه وهو يحاول أن يكلِّمَ سامي. تأفّف من أنّ الأصدقاء لا يَظْهرون وقتَ الحاجة إليهم.

 تنهّد بضيقٍ. واجه النّورَ. بدا البحرُ ساكنًا، وبدت بيروتُ في تلك السّاعة مدينةً غامضة.لطالما حاولتْ مها أن تُقْنعَه بالسّفر، لكنّه رفض قائلًا إنّ الوطن ليس فندقًا نتركُه حين تسوء خدماتُه. “أتدرين أنّ قصّتَنا تشبه قصّةَ حبّي لبيروت؟ تجمع المتناقضاتِ كلَّها.”لِمَ تتقافزُ الذّكرياتُ اليوم؟ هل أنتِ بخيرٍ يا مها؟دخلت السّكرتيرةُ وهي تصرخ: “حكيم، إلحق المريضة، انتحرتْ!”هبّ هادي من مكانه. حاول أن يَفهمَ من سكرتيرتِه شيئًا. ناولتْه هاتفَ العيادة. على الطّرف الآخر كان أخو المريضة. أخبره بأنّ أختَه تركتْ جملةً واحدةً وجّهتْها إليه: “إنّهم يَخْرجون بوحشيّة. آسفة، تعبت.”لم يكن هادي قد أفاق من الصّدمة حين رنّ هاتفُه. سامي يصرخ ويسأله إنْ كان في العيادة أمِ البيت.

يقول إنّ حريقًا شبّ في ميناءِ بيروت، وعليه أن يكون حذرًا.ترك هادي الهاتفَ على الأرض وقام نحو النّافذة، فإذا بدخانٍ يشبه أعمدةً من شياطين يتعالى فوق سماء المدينة. ثمّ اختفى كلّ شيء، وكأنّ المدينة ابتلعتْ نفسَها.***بين أشلاءِ القتلى مشت مها. فوق الرّمادِ والدّماءِ والقيحِ ركضتْ، حتّى بلغت المبنى المتصدِّعَ. كان كلُّ شيء خرابًا.لم تتمكّنْ من أن تغطّي المشهدَ الذي تراه. خانتها عيناها ببكاءٍ مريرٍ على الهواء مباشرةً. طلب منها المذيعُ في الاستديو أن تهدأ، ونقَل المشهدَ إلى طرفٍ آخرَ من أطراف المدينة.صعدتْ نحو العيادة. وعلى الرغم من الرّكام والتّراب والزّجاج، استطاعت مها أن تصل.كانت الأبوابُ مخلّعةً، وألواحُ الألومنيوم والزّجاج وحجارةُ الباطون المكسّرةُ على الأرض. بحثتْ عن هادي. لم تجدْه.كانت السّكرتيرة مرميّة متراخيةً في زاوية. الأوراق والملفّات تطايرتْ. الأدراج مخلّعة. التّراب يغطّي الهواء. الدُّخان المشتعل في الخارج وانقطاعُ الكهرباء جعلا المكانَ مظلمًا. أضاءت المكانَ بهاتفها، فظهر لها جسدُ هادي تحت أحدِ ألواحِ الزّجاج.راحت تزيح الألواحَ.

ارتعدتْ. صرختْ. طلبتْ منه أن ينتظرَ وألّا يتركَها. وعدتْه بألّا تتركَه وبأن تنقذَه.***أهلُ القرية شيّعوا النَّعشَ بالأرزّ والورود. كتبوا عليه “شهيد الوطن.” تعالت صيحاتُ الاحتجاج والغضب والتّخوين من المعزّين أمام عدسات الكاميرات التي غطّت الجنازةَ.وحدهما سامي ومها وقفا بصمت. نظر كلٌّ منهما إلى الآخر بصمت. تركا هادي يرحل بطلًا، شاهدًا على مدينةٍ انتحرتْ برصاصةٍ صوّبتْها نحو قلبها، تمامًا كما فعل هو.ببطءٍ خلف النّعش، مشت سيّارةُ الإسعاف. كان حرُّ الصّيف يلسع السّائقَ، فيجعله يضيق بما يجري. لم يفهمْ كيف تَبدّل صوتُ تلاوة القرآن بأغنيةٍ صدحتْ فجأةً ولم يفهمْ من كلماتها شيئًا سوى حرفِ الخاء.

صيدا

شاهد أيضاً

دبوس

ا لتآكل… سميح التايه ثلاثمائة من الصواريخ البطيئة، وبضع عشرات من المُسيّرات التي لا تندرج …