مُهاجرُ.. مُغتربُ

 

الخبير التربوي الشاعر حسن علي شرارة يوجّه رسالة إلى المغترب المقاوم الجندي المجهول 

سَمّيتُهُ الباحثَ المِقدامَ عن وطنٍ*خلفَ البِحارِ، وقد سمّوهُ مُغتربا
كأنّني أتعرّفُ إليهِ اليومَ، كأنْ لم يكنْ لي بهِ عهدٌ سالفٌ، وكأنْ لم نولدْ من رحمٍ واحدٍ، وما كانتْ بيننا وشائجُ قرابةٍ، أو روابطُ صداقةٍ، أو يجمعُني به مكانٌ وزمانٌ!
وقَلمي حينَ يَنحني ليكتبَ عنهُ، لا يَنحني لشخصٍ مُحدّدِ الهُويّة، وإنّما هوَ يَعكفُ على رسمِ إنسانٍ… إنسانٌ تميّزَ بالعِنادِ، وارتدى بُرودَ التّمرّدِ، إنسانٌ تحلّى بالمُجازفةِ، وفوّتَ حياةَ الهوْنِ، رثيتُهُ مَرّاتٍ ومَرّاتِ، وما ارتوت الأوراقُ، ولا شبعَ من المدادِ يراعي!
أراهُ في رفاقِهِ المُهاجرينَ الّذينّ خَرّوا صَرعى، وأقرانِهِ المُغتربينَ الّذين سقطوا بعد طولِ المطافِ، فداعبَهم قلمي بشعرٍ، ودغدغَهم بَياني بالقصيدِ، وسامرَهم لِساني بالكلماتِ الحانياتِ المُونقاتِ!
هؤلاءِ ما تخرّجوا على مدرسةٍ؛ وإنّما تثقّفوا على المحبّةِ، وحملِ الأماني، وما ضعفوا، أو وهنوا، وإنّما حَملوا على مناكبِهم الألمَ الدّامي.
وهيهاتَ أن تُرسمَ عزيمةُ مُهاجرِ في عُجالةٍ منَ القولِ؛ وهمّةُ مُغتربِ في وجيزٍ منَ الكلامِ.
ذلكَ أنّ في قلبِه ما هوَ أوسعُ منَ الدّنيا، وبينَ ضلوعِهِ ما هوَ أبعدُ منَ المأمولِ، وفي رأسِهِ فِكَرٌ جَليلةٌ: مَرّةً تكونُ النّصرَ، وأخرى تكونُ المجدَ، وثالثةً تكونُ العُلى، وأخرى تكونُ سقطةً مِن على صهوةِ السّرجِ!
كلمةُ مُهاجرِ عندي معناها مُقاومٌ، ولفظةُ مُغتربِ معناها حملُ السّلاحِ، وفتحُ النّارِ على الواقعِ المريرِ!
وحسبُك بالمقاومةِ أنّها زحفٌ مُقدّسٌ، وهِمّةٌ صاعدةٌ نحوَ الذُّرى، ومجازفةٌ مجنونةٌ عبرَ المجهولِ!
حَملوها صِغارًا؛ فتخطّوا بها العمرَ، وآمنوا بها كِبارا؛ فتجاوزوا الواقعَ، وعبروا بها أفناءَ الدّارِ، فصنعوا منها المُعجزةَ!
المقاومةُ.. مقاومةٌ للخلاصِ من واقعٍ فاسدٍ إلى واقعٍ أفضلَ، والتّمرّدُ.. تمرّدٌ على الجمودِ والاستكانةِ والوهمِ؛ للانتقالِ إلى حياةٍ مُتحرّكةٍ، حَارّةٍ، مِعطاء!
عارضوا الأوهامَ الّتي تُشبهُ الأصنامَ، والأماني الّتي تُشبهُ التّماثيلَ، ولو أنّ لها قسماتٍ حلوةً فاتنةً، وملامحَ مجلوةً جميلةً، نُصبتْ لهم في أرضِ الوطنِ، وأُقيمت لهم أمامَ أعتابِ الدُّورِ، موروثةً منذُ حقبِ، منقولةً من عهدِ الأجدادِ، بل عافوها لأنّها لا تشتملُ على وهجٍ، ولا ينساب فيها جُهدٌ، ولا يضطرمُ في أعماقِها كفاحٌ!
لمسوها؛ فرأوا فيها برودةَ التّماثيلِ، وهمودَ المَوتى، وصمتَ المقابرِ!
فانتشروا في الأرضِ يُفتشون عن الحياةِ أيّانَ تصطخبُ، وعن الموجِ فيها يتدافعُ، وعن السّيلِ الهدّارِ أينما يندفعُ عارمًا في رِكاب الحياةِ. فنشروا الشّراعَ، وأمسكوا المِجذافَ، وغابوا عن رمالِ الشّاطئِ، وهناكَ في بقاعٍ بعيدةٍ، وأصقاعٍ نائيةٍ راحوا يُمسكون بأذيالِ الفجرِ، يرشفونَ قطراتِ النّورِ، ويتعلّقونَ بتلابيبِ الشّمسِ؛ يُلملمونَ باقاتِ السَّنا، ويَجوسونَ أركانَ المعمورِ؛ ليتلاقوا معَ فُرصِ الغَدِ!
استعاروا لفظةَ المُهاجرينَ عن المُهاجرينَ الأوائلِ؛ الّذين هاجروا في رحابِ الرّسالةِ يومَ بزغَ فجرُ الرّسالةِ، وتمرّدوا مثلَهم من أجلِ العدالةِ، والحُريّةِ، والحقِّ.. وهؤلاءِ هاجروا من أجلِ الرّزقِ الكريمِ، والعدلِ العميمِ، والكرامةِ المئنافِ!
سَلِ الدّارَ عنهم، من الّذي بناها؟ وسَلِ الأوطانَ عنهم، من الّذي أغناها؟ وسَلِ المَكرماتِ عن أخبارِهم، من الّذي أرضاها؟..
كان وطني ضيّقَ الحدودِ، ملمومَ التّخومِ، محدودَ الأفقِ، حتّى إذا انطلقت النّسورُ، وتفلّتَت البُزاةُ، ومشى ركبُ المُهاجرينَ، اتّسعَ أفقُ وطني، ورَحُبَ مَدى بلدي، وترامتْ تخومُ دِياري، فما من أفقٍ إلّا ولِي فيه أهلٌ، وما من ساحلٍ إلّا ولِي عليه مرسًى، وما مِن صقعٍ في الدّنيا إلّا ولِي فيه أحبّةٌ وأهلونَ.
انفتحَ بِهم بابي على الدُّنيا، وأطلَّ بوساطتِهم وجهي على الكونِ، ورفرفتْ أجنحتي بهم على كلِّ سماءٍ!
هجرةٌ من أجلِ المُثلِ، ورحلةٌ على جانحِ الألمِ تُضيءُ الأماني أمامهم حالكَ اللّيلِ، وتُمهّدُ الغاياتُ أمامَهم شائكَ الدّربِ، ثمَّ يَشترونَ يُسرَهم بالعرقِ، وعودَتهم بالضَّنى، وإيابَهم بالتّلهّفِ، والشّوقِ، والحنينِ!
وأمّا مَن تخلّفَ عن العَودِ، وفاتَهُ الحظُّ، أو خانَهُ الرّجاءُ، فمثواهُ في كلِّ قلبٍ، وذِكراهُ في كلِّ خاطرٍ، ومَنعاهُ على كلِّ مُهجةٍ ولِسانٍ. حسن عليّ شرارة
* هدهداتٌ لروحِ شقيقي المرحوم “صادق شرارة” الّذي قضى وحيدًا بعيدًا في بلادِ الغُربةِ، ودُفن هناكَ.

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …