ملحمة جلجامش… أقدم قصة كتبها الإنسان (6)

إعداد المحامي كميل سلوم

الجزء السادس

الآلهة

بعد الحديث عن المقدسين، تنقلنا الملحمة صعودا نحو الأعلى، إلى حديث آخر أكثر جرأة وحساسية، عن الكائنات التي يجب الحديث عنها ـ بشكل دائم ـ بكل إجلال واحترام، لقد كان وما زال تناول المسائل الدينية يحمل الحفيظة والحساسية للجميع، والتطرق إليها بالنقد والتجريح يولد النفور وربما العداء، إلا أن جلجامش لا يعرف حدودا للمحرمات، وكل من يخطيء يجب محاسبته، ومواجهته بكل جرأة، وان لا نترك هذا الخاطيء يمر مرور الكرام، واقفين ساكنين أمام أخطائه وزلاته، حتى لو كانوا من الالهة، وها هو جلجامش يقابل الربة عشتار بالتجريح والشتائم والضرب، لأنها حاولت الإيقاع بالإنسان لأهوائها ورغباتها:

تعال يا جلجامش وكن عريس
هبني ثمارك هدية
كن زوجا لي وأنا زوجا لك
سأمر لك بعربة من ألازورد، وذهب
عجلاتها من ذهب وقرونها من كهرمان
تشد إليها عفاريت العاصفة بغلا عظيمة
وملفوفا بشذى الأرز بيتا
قبلت المنصة قدميك والعتبة
وانحنى لك الملوك والحكام والأمراء
يضعون غلة السهل والجبل أمامك، تقدمة
ستحمل عنزاتك توائم ثلاثة، ونعاجك مثنى
سيبز حمارك أثقال البغال
وخيولك تطبق الآفاق شهرة جريها
أما ثيرانك فلن يكون لها تحت النير نظير

قد لا يجد القارئ بهذا الاقتباس أية اهانة أو تصغير للربة عشتار، ولكن إذا أمعنا النظر جيدا، نجد في كلماتها التي قالتها ـ ربة معبودة من البشر ـ تطالب بمتعة دنيوية زائلة، نجد فيها ما هو أكثر من اهانة وتصغير، إن الطرح الذي قامت به عشتار أدنى من أن يقدم عليه إنسان يحمل أدنى شيئاً من الكرامة، فما بالنا بكائن معبود؟
،فمطلبها الاقتران بجلجامش هو دليل واضح على إنها وجدت في الإنسان شيئاً غير موجود عند الآلهة، وهو يمتلك أشياءً لا تملكها الآلهة نفسها، وهذا أعطى الإنسان مكانة تفوق مكانة الآلهة، وما أثار حفيظة جلجامش أنها جاءت تتحدث عن مصالح مادية فقط، ولم يحمل كلامها أية فضائل أو مواقف أخلاقية، وهذا أظهرها من صغار البشر، فقد كان الأجدر بها أن تذكر الفضائل الأخلاقية وسماتها وهيبتها المقدسة، وليس مصالح يجنيها جلجامش، فقد كان تفكير عشتار منصباً فقط على متعة جنسية ومادية فقط، أما جلجامش فلم تكن له أي اهتمام بهذه الإغراءات و الامتيازات، وكذلك لم تكن ذات قيمة في نظره مطلقا، وهي ذات ثروة عظيمة في نظرها، وهنا تأتي المفارق بين الإنسان ومن هو أعلى منه مكانة، أن عشتار التي تريد أن تشتري جلجامش بتلك البضاعة الغالية ـ في نظرها ـ، مقابل أن يدفع جلجامش سعرا زهيدا جدا ـ الاقتران بها ـ هذا الموقف جعل من جلجامش عظيما ومن عشتار الدنيئة

كان من مصلحة جلجامش المادية الموافقة على طلبها، إلا أن عظمة الإنسان تحول دون الإقدام على هذا الأمر، فجلجامش وجد عشتار قد سقطت إلى المنزلة السفلى، من خلال إغوائها وتقديمها الإغراءات والمكاسب المادية فقط، وهذا الفعل الدنيء لن يمر دون حساب وعقاب، خاصة إذا كان القاضي جلجامش الذي لا يعرف المهادنة أو المجاملة، وهو الذي وجد ليدافع عن الإنسان، ويواجه الآلهة التي تجاوزت حدودها، ومن هنا جاء عقاب جلجامش شديدا صارما مهينا لعشتار، متناسبا مع مكانتها، فكلما كان المخطئ كبيرا كلما كان الجرم اكبر، ولذا وجب العقاب والردع ومتناسبا مع حجم الخطأ، والآن لنقرأ معا رد جلجامش:

وأنا ما الذي اجنيه أن تزوجتك
أقدم لك زيتا، ثيابا فاخرة
خبزا طعاما
أنت كباب البيت الخارجي لا يصد ريحا
لا يمنع عاصفة
كقصر عظيم أنت، كقصر يتحطم فيه الأبطال
كفيل عظيم يرمي عنه حليه
كالقطران أنت يلوث يد حامله
كقربة ماء أنت تبلل من يحملها
كحذاء تزل به قدم منتعله

في البداية رد عليها جلجامش بعين الأسلوب ـ المصلحة المادية ـ الذي عرضت بضاعتها الرخيصة به، فتحدث بالمنطق الذي تفهمه، مكاسب وإغراءات مادية ومعنوية، وبعد ذلك مباشرة يبدأ في قذفها بسيل من الشتائم وكلمات التحقير والتصغير بأسلوب هجائي رائع، حتى تعي رداءة وقبح الكلمات التي تقدمت بها أمام جلجامش، إن الأوصاف التي نعتها جلجامش، تعبر عن موقفه العنيد والحازم اتجاه عشتار، ويتبين منه امتلاكه الصلابة وسرعة وقوة الرد على من يهبط بمسلكه ومكانته إلى الحضيض، أن وصف عشتار بالباب هو اهانة لها، فكيف إذا كان هذا الباب لا يصد ريحا؟، وهنا كانت الإهانة مزدوجة، أولا هي باب، والباب تعبير يحمل التصغير والتحريف لمكانتها، وثانيا هي لا تقدم الفائدة المرجوة من وظيفتها ـ صد ومنع الريح من الدخول.

 

وبعد هذا الوصف، يقول جلجامش

“أنت قصر عظيم”،

وهنا يتوقف عن الكلام، حتى تفقد عشتار اندهاشها وصدمتها من الجملة الأولى، ولترجع إلى التفكير بالمكانة والهيبة التي نسيها جلجامش، ويكمل عليها الجملة

“يتحطم فيه الأبطال”،

ونجده هنا يعرف كيف يعاقب ويؤنب الخطأ، يعظم عشتار ثم ينزل بها إلى أسفل السافلين، حتى يكون وقع الكلمات عليها شديد التأثير ويعيدها إلى جادة الصواب.

ويكمل جلجامش هجومه فيصفها بالفيل، وهنا إهانة أخرى لها، ويزيد عليها عندما يذكرها بان هذا الفيل ترك حليه ولم يعد يستفاد منه، وبدأ يخرب ويدمر، بدل أن يخدم الناس.

ويستمر جلجامش في قذف الكلمات الجارحة في وجه عشتار المخطئة، فيصفها
“بالقطران”
، وهنا نجد تصعيد الهجوم الذي بدأ بكلمة

“الباب”
ويصفها بهذه الاهانة المركبة، أولا وصفها بشيء قبح، لونه يشير إلى السواد والشؤم، وثانيا توسخ يد من يتعامل به، فمن يريد أن يمسك بالوعاء الذي فيه القطران!.

يتابع جلجامش هجومه اللاذع ويصغها “بالقربة” وأي قربة، المثقوبة التي تبلل كل من يحملها، ولا تلبي الغاية التي وجدت من اجلها، ولهذا هي تضيع الماء الذي تعبنا في جلبة وأيضا تبللنا، فأذية القربة المثقوبة مزدوجة، وآخر هجوم جلجامش كان وصفها “بالحذاء” البالي الذي يتعثر به منتعله، وهذه من اشد الشتائم التي تستخدم في حالة الغضب والاحتقان الشديد، فهي حذاء، وحذاء بالي أيضا.

وإذا أمعنا النظر بالاهانات التي وجهها جلجامش لعشتار نجد القسم الثاني منها اشد وقعا وأكثر إيلاما من القسم الأول، وكما أن الجملة الواحدة كانت تحمل اهانتين معا وليس اهانة واحدة، وهنا يتبين لنا المسافة الشاسعة بين جلجامش الإنسان وعشتار الربة التي تطالبه بالاقتران.

وبعد هذا الكلام الجارح ينتقل جلجامش إلى نوع آخر من المفاهيم التي تفسر وتوضح هذا الموقف الذي يحمله اتجاه الربة عشتار:

أي من عشاقك الكثر أخلصت له الحب
أي راع قدر أن يرضيك
أصغي إلي أقص عليك خبر عشاقك
لن تستطيعي أن تنكري الخبر
هذا تموز، الشاب الوسيم زوجك الأمين
أمرت النادبات والنائحات
أن يندبنه، وينحن عليه سنة بعد سنة
وقعت في حب الطائر الشقران، الطائر
المرقش ذي الريش الجميل فماذا حدث له
كسرت جناحه، هام في البساتين
يئن صارخا يا لجناحي يا لجناحي
ثم ماذا؟ أحببت الأسد حفرت له سبع حفر
أحببت الحصان لكنك أخضعته للسوط والمهماز
حكمت عليه بالجري ساعات وساعات
قضيت أن ينضح بالعرق
عشقت راعي القطيع الراعي الذي جمع أكياس الفحم
ليشوي لك الجداء فماذا صنعت به
مسخته ذئبا تطارده كلاب القطيع
أحببت فلاح النخيل عند أبيك، ايشولانو
فماذا صنعت به؟ تنظرين إليه بشهوة، تقولين
تعال مد يدك إلى خصري، ضمني، متعني
بقوتك العجيبة يا ايشولانو
يجيب المسكين: أمي خبزت وأكل من خبزها
لماذا أكل خبز الشر

 

هذا الجزء من مكاشفة عشتار يمثل أهم جزء في كلام جلجامش، وذلك لأنه يمس وبشكل مباشر مكانة عشتار الدينية في المجتمع، ويمكن أن يكون هذا الجزء قد وضع لهدف عقائدي بحت، يهدف العزف وترك عبادة عشتار والتقرب منها، لأنها ترمز وتمثل الشر والعذاب الذي يقع على أي مخلوق تقترب منه، فهي في الأساطير القديمة تمثل الحب والخصب، ولكنها في الحقيقة التي أوضحها جلجامش لا تمثل سوى الموت والعذاب والألم والغدر.

 

وإذا انتقلنا إلى المعتقدات الدينية القديمة نجد هناك أسطورة تتحدث عن نزول تموز إلى العالم السفلي بأمر من عشتار، ونتيجة هذا العمل الظالم بحق تموز أصاب الأرض الجدب والجفاف، ومن ثم الحق الضرر بالإنسان بسبب نزول تموز إلى العالم السفلي.

وهناك كان دموزي يجلس بجلال في مجلسه،
مرتديا ثيابا جليلة
قأمسك به الشياطين من…
وهجم عليه السابع من…
فلم يعد الراعي يعزف الناي ولا المزمار
وصوبت (انانا) نظراتها إليه (دموزي): نظرات موت
ونطقت بكلمة ضده: كلمة سخط
ونطقت صرخة ضده: صرخة إثم (وقالت)
خذوه
وهكذا أعطت أنانا المقدسة دموزي الراعي بيديهم
أما الذين صاحبوه
صاحبوا دموزي
فقد كانوا مخلوقات لا تعرف الطعام، لا تعرف الماء
فهي لا تأكل طحينا مبثوثا
ولا تشرب ماء مسكوبا
وتخطف الابن من حضن أبيه
فقد سلمتني إلى العالم السفلي بديلا عنها

 

 

 

أن عشتار التي قامت بهذا العمل الرديء لا يمكن عبادتها، أو حتى احترامها، وإنما يجب محاسبتها ومعاقبتها، وهذا العقاب كان بتجريدها من الهالة المقدسة التي حولها، ومن ثم إبقائها كائنا منبوذا يكون عبرة للخاطئين، وما قامت به من خيانة اتجاه أحبتها وخاصة تموز الذي خانته وغدرت به يمثل ذروة غدرها وخيانتها، وما كان ليرسل إلى العالم السفلي ليأكل الطين ولا يرى النور أبداً، دون خيانتها ثم أمرها للشياطين بان يأخذوه.
ونعتقد أن عملية المس بالمعتقد الديني ووضعه أمام ـ المنطق العقلي نسبيا ـ يمثل الهاجس الذي يحرك أحداث الملحمة، وان كاتبها كان يعي ما يكتب، ويدفع بالمتلقي في ذلك العصر، إلى إعادة تكوين أفكاره الدينية ومعتقداته الفكرية، وما جاء تذكير القارئ أو المستمع للنص بخيانة عشتار لأحبتها، وتركهم مقهورين منكسرين بعد اخذ حاجتها منهم، إلا ليؤكد أن المقدسات بحاجة بشكل دائم ومستمر للخضوع للامتحان وتجديدها فكريا لتتناسب مع منطق الإنسان، ومن هنا جاءت التفاصيل الدقيقة لعملية الغدر والخيانة، لتدفع بالمتلقي نحو الاتجاه النقيض لما هو سائد.
وسنحاول الآن تشريح وتوضيح الحاجات والرغبات التي أخذتها عشتار من عشاقها، فبعد أن حصلت على رغبتها الجنسية من تموز أرسلته إلى الموت، وطائر الشقراق بعد أن استمتعت بصوته المغرد وتمتعت بمنظر ريشه الجميل قامت بكسر جناحه، أما الأسد فنعتقد بان حاجة عشتار منه تتمثل في استخدام جلده فقط ولهذا حفرت الحفر السبع له، والحصان ينقل الأمتعة والحاجات الثقال والمتاع ولكن بعد هذه الأعمال قامت عشتار بضربه بالسوط وإجباره على العمل بالمهماز، أما الراعي الذي يقدم لها اللحوم الطازجة والمشوية، فبعد أن شبعت من الطعام اللذيذ قامت بمسخه إلى ذئب، والفلاح الذي قدم أشهى إنتاجه من البلح قامت بإزالة عضوه الذكري، هذه تفاصيل الخيانة التي قامت بها عشتار، ولهذا هي كائن يبحث عن حاجاته ورغباته الغريزية فقط، ولا يهتم بغير ذلك، فالطعام والشراب والملبس والجنس وحمل الأثقال كلها حاجات بشرية لا تمت إلى الربة عشتار لا من قريب أو من بعيد، ولهذا من المنطق ترك عبادتها وهجرها هجرا جميلا، وهنا طرح كاتب النص على لسان جلجامش أفكارا تتعارض مع تلك التي يعتنقها المجتمع، وفلا يمكن عبادة من يقوم بخيانة الآخرين وتركهم محطمين بعد اخذ الحاجة منهم.

وبعد سماع عشتار هذا الرد من جلجامش تصعد إلى السماء وتطلب (انو) أبو الإلهة أن يقتص لها من جلجامش، وطلبت منه أن يخلق لها ثوراً سماوياً لينتقم من جلجامش، ولكن انيكدو صديقه يمسك الثور من قرنيه وجلجامش يضع السيف في جسده، وهكذا تفشل عشتار أمام الإنسان، وتأخذ في الصراخ والعويل على ثورها المقتول، وخلال هذه الأحداث يتم قذفها بسيل من الشتائم على لسان انكيدو الذي ضربها بفخذ الثور أيضاً،

لكن انكيدو رمى بفخذ الثور وجه عشتار
آه لو امسك بك
لفعلت بك ما فعلته بالثور
لربطت عنقك بمصران الثور

 

بعد هذه التفاصيل الفكرية المتعلقة بعشتار وإستنتاج بعدم شرعية عبادتها، تنقلنا الملحمة إلى دفعة جديدة من التوجيه الفكري ضد عشتار، فبعد أن كانت الحرب بين عشتار وجلجامش فكرية فقط، تطورت لتصبح حرباً حقيقية، فقتل الثور السماوي من قبل جلجامش وانكيدو ثم ضربها وتوجيه التهديد لها، تصبح هناك حرباً طاحنةً لا تبقي ولا تذر، وما عملية قتل الثور السماوي الذي اوجد بناء على رغبة عشتار، إلا عملية قتل إله، ولهذا كان قرار مجمع الإلهة هلاك احد الاثنين، انكيدو أو جلجامش.
وتأتي أهمية النص الذي يتحدث عن عشتار بهذه الحدة وهذا الصدام، عندما نقابلها مع تلك التي تتحدث عنها بصورة صديقة ورحيمة نحو الإنسان، فموقفها المتعاطف أثناء الطوفان وبكاؤها على البشر الغرقى يمثل التلاحم والتعاضد مع الناس،

 

عشتار سيدة الإلهة تنتحب عاليا
الأيام الماضية، أواه، استحالت إلى طين
صرخت عشتار كامرأة في المخاض
ناحت سيدة الإلهة ذات الصوت العذب

لقد تم ذكر معبد عشتار في الملحمة أكثر من خمس مرات، ونعتقد أن المراد من ذلك، إعطاء صورة عشتار وهي مع الإنسان يتم احترامها وتقديرها وتشييد المعابد لها، والصورة الأخرى وهي تريد احتواء الإنسان فيتم الاقتصاص منها بكل السبل والوسائل المتاحة، ففي الموقف الثاني نجدها تتبع أهواءها وشهواتها، وما طلبها من جلجامش للاقتران به إلا أحد تلك المواقف التي جعلتها صغيرة، ورفض جلجامش جعله أكثر احتراما وإجلالا منها

شاهد أيضاً

8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة

تؤثر خيارات نمط حياتنا بشكل كبير على صحتنا، حيث يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي أو …