من دنيا الرّسالة… إلى عالم الملكوت –

ما كتبتهُ منذ احد عشر عاما بدمع القلب؛ وحرقة الوجد؛ ونبض الوفاء


علي رفعت مهدي

30 رجب 1431 ه / ١٢/٧/٢٠١٠

من دنيا الرّسالة… إلى عالم الملكوت …
في زمنٍ ضيّقٍ خؤونٍ مهزوم…
زمنٍ يضنّ علينا بالكبار والصّالحين والرّجالات… حيث تتصحّر القيم، وتتلوّث المفاهيم، ويندر الشّاهدون والشّهداء، والعظام والمبلّغون بحقّ لرسالات الله… يرحل عظيمٌ من العظماء، صِدِّيقٌ من الأولياء، كبيرٌ من الرّجالات، صدق ما عاهد الله عليه، فأحبّه الله واصطفاه نعمةً مِنْهُ وفضلا ً…
يرحل السيّد والأب والمرشد والقائد والمعلّم والإنسان والمرجع والعَلَم محمد حسين فضل الله، مرجعاً للدّين والدّنيا، وفقيهاً للإسلام والمسلمين، ورائداً للوحدة الإسلاميّة، وأباً للأيتام، وينبوعاً للمتّقين، ونوراً للمؤمنين، وسنداً للمقاومين، وحصناً للمجاهدين. وأملاً للفقراء الساكنين، وقدوةً للمستضعفين، ورجاءً للمحرومين، وداعياً بلسانِ الصّادقين في العالمين… مَنْ عاشَ لله… وانفتح على الله… روحاً وقلباً وعقلاً وفكراً… يرحل نفساً مطمئنّةً راضيةً مرضيّةً، راجعةً إلى ربّها… آيبةً إليه، وقد بلّغت في سبيل الله رسالات الله، وقيم الإسلام السّمح العظيم، ولم تخشَ أحداً إلاّ الله، وقدوتها رسول الله، والسّادة الأئمّة من أهل بيت رسول الله… يرحل موصياً بالإسلام خيراً: “الله الله في الإسلام، لا تحبسوه في عصبيّاتكم ومذهبيّاتكم، ولا تدمّروه بأحقادكم، بل قوّوه بوحدتكم واعتصامكم بحبل الله تعالى…”.
يرحل أبي وروحي وعلاّمتي وقدوتي ومرشدي ومعيني على دهري، نقيّاً عزيزاً مُقدّساً، ليلتقي مثاله الأعلى رسول الله الّذي تملّك كيانه وعقله. يقول سماحته: “عندما التقيت برسول الله في وجداني الإيمانيّ، من خلال قراءتي لسيرته في القرآن أوّلاً، انفتحت على الرّسول الإنسان الّذي ملأ قلبي بهذا الفيض الإنسانيّ الرّائع، الّذي كان يعيشه من خلال علاقته بالآخرين، والّتي كانت تتحرّك كينبوعٍ متدفّقٍ بكلّ ما في شخصيّته من رحمةٍ وحبٍّ وحنانٍ وحرصٍ على الآخر ورأفةٍ به واحتضانٍ له”.
يرحل معلّمي الّذي أخذ بيدي إلى دنيا الرّسالة، وترفّع بي عن وحول التّمذهب والتّقوقع والتخلّف والعصبيّة والجهالة، ليغرس في عقلي أنّ: “أمّة يكون محمّد(ص) رسولها وقائدها ونبيّها، هي أمّة تحمل من المسؤوليّة على أكتافها الكثير من الأثقال، لا الّتي تعيش الاتّكال…” أو العقل الجمعيّ، أو تغييب الحقيقة النّورانيّة السّاطعة… طالباً من الأمّة التي أحبّ وعمل جاهداً لتعتصم بالقرآن دستوراً للحياة، وفهماً حركيّاً متميّزاً، أن تنظر في مدى الزّمن لترى رسول الله: “انظروا، فسترون أنّ رسول الله في كلّ علمٍ تتعلّمونه، وفي كلّ طاقةٍ تحرّكونها، وفي كلّ دعوةٍ تتحمّلون مسؤوليّتها، وفي كلّ جهادٍ تجاهدونه… لقد كان فينا النّور، ولا يريد لنا أن نتحرّك مع الّذين يحرّكون الظّلمة في عيوننا، وعقولنا، وفي قلوبنا وحياتنا… فإلى نور رسول الله حيث نستهدي كتاب الله الّذي بلّغه، وسنّته التي أطلقها، فلعلّنا نفهم فيها بعض الشّيء لنهتدي بذلك ونستضيء به”.
… فطوبى لنفسك التي عركتها في جنب الله يا سيّدي… يا “سيّد السادات”، يا أمير البيانِ الذي اقتبسته بلاغةً وفصاحةً من عليّ الّذي عشقته وأحببته وذبت فيه قائلاً: “أنا عندما أتحدّث عن عليّ أذوب فيه… فعليّ هو إمام الإسلام الّذي انطلق من بيت الله وعاش الله في قلبه وعقله وقضى في بيت الله”. ألمْ تُربِّنا ـ يا سيّدي ـ على أنْ نتعلّم من إمام الحقّ قول الحقّ، وأنت الّذي حفرت في عقولنا كلمات عليّ:

“فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء، لإخراجي نفسي إلى الله سبحانه وإليكم من التقيّة في حقوقٍ لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بدَّ من إمضائها، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أنْ يقال له، أو العدل أنْ يعرض عليه، كان العلم بهما أثقل عليه. فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحقّ، أو مشورةٍ بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أنْ أخطئ، ولا آمن ذلك منْ فعلي، إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي”. وكنت تعقّب: “وقد كفى الله عليّاً ذلك”.

عهدي سيّدي… ألا أتحدّث عنك بالأفعال الماضية، لأنّ الماضي زمن انقضى وأفل وغادر… وأنت سيّد الحاضر والمستقبل… وأمثالك لا يغادرون، ولا يرحلون، ولا يموتون، ولا يصبحون مجرّد ذكرى، فأنت أيقظت الضّحى من أغاني قلبك الكبير، حتى انتثر نور الوحي وهدى الرّسالة وروح الإسلام في كيانك وذاتك:

من أغاني القلب أيقظت الضّحى
في دمي فانتثر الوحي بروحي
فتطلّعت إلى الشّمس ولم
أستفق إلا على صحو جروحي…
أنا حسبي إنْ تغشّاني الدّجى
خطرات الفجر والحسّ الصّريح
فانطلاقات حياتي فكرة
سوف تبقى حلماً فوق ضريحي…

هل مصادفة أن تستعيد في لا وعيك الشّعريّ البيتين الأخيرين المؤرّخين بتاريخ 20/2/1957، بصيغةٍ جديدةٍ تعبّر عن واقع الحال، وعمق الألم والمعاناة: “في ظلام اللّيل آهات جروحي” “فالتفاتات حياتي”… فأيّ ظلام سيغشانا بعدك يا نور العقل والقلب؟ وهل الالتفاتات رجوعٌ إلى ماضي الهناء معك وبين يديك مقابل “الانطلاقات” التي عشتها شباباً وكوناً رحيباً يغدق الخصب على حياتنا ونفوسنا:

“أنا يا ليلاي ما زلت أغنّي للضّحى حبّي وللإشراق منّي
وحياتي فكرة… لم يكتمل في حنايا روحها وحيُ المغنّي
هبطت للأرض عذراء المنى ترشف الأطياف في أطهر دنّ
شاقها النّور فطارت نحوه بجناحٍ من هواها مطمئنّ…
… لقد شاقك النّور للإياب إلى عالم الرّوح، حيث لا حقد، ولا غلّ، ولا ضغينة، ولا أسى، ولا ظلم… بل أرواح ملائكيّة على سررٍ متقابلة، تسّبح بحمد ربّها… وأنت الّذي عشت حياتك تعزف أغنيات النّور وتخلق فردوس المعاناة:
“فأنا أخلق وحدي جنّتي فأرى اللّذة في أعماق حزني”
وها أنت تؤوب راضياً مرضيّاً:

ربي عُدْ بي إليك حرّاً نقيّاً
طاهر الرّوح كالنّسيم البليل
لأعيش الرّوح المندّى برضوا
نك حبّاً كهنيمات الأصيل…

… أعذرني يا سيّدي وأبي على هذه الخواطر المتداعية المتلاحقة الآتية من رحم الذّكريات معك، فما زلت “مشوّش” العقل لا أمنحه أيّة جرعة من العاطفة ـ كما علّمتنا ـ وما زلت تحت هيمنة العاطفة التي ينأى عنها العقل لتتوازن ـ كما ربّيتنا ـ وعهدي أن أحمل فكرك وثقافة الإسلام الأصيل ـ كما أوصيتني ـ وأستميحك عُذراً أنْ أردّد بعد عروجك إلى ملكوت الله بعضاً من مطوّلتك الخالدة “نشيد الموت” الذي استشرفته قبل ثمانية وخمسين عاماً في النّجف الأشرف، تاريخ 10/10/1952:

سأموتُ
يغمرُ روحي الظّمأى إلى وحيِ الخلودِ
إشعاعُ دنياً… حُرّة الآفاق تهزأ بالقيودِ
لا البغيُ يكمنُ في زواياها، ولا غِلُّ الحقودِ
تتعانقُ الأرواح فيها… كالأزاهرِ والورودِ
سأموتُ
في قلبي خفوق… نار في بركان حُبِّي
وصراع آمالٍ ذوتِ وهوت على أشواك دربي
كم رحتُ أطلبُ عندها نجوى الهوى ونشيد قلبي
فأرى بها ريَّ الحياةِ يسيل في روحي ولبّي
سأموتُ
سوف يضمُّ أحشائي دُجى اللّحدِ العميقْ
وأنامُ، لا أرقٌ يُهدّدني، ولا قلبٌ خفوقْ
ملءَ الجفون، رذاذ أحلامي، وذوبٌ من بريقْ
جَمُدُ الشُّعاعُ بمقلتيّ، وجفّ من شفتي الرّحيقْ

نَمْ قرير العينِ يا أبا عليٍّ… في رحاب الله… في جنّةِ الله، في رضوان الله… وقسماً بعمري …
لن تموت َ….
علي رفعت مهدي
التاريخ: 30 رجب 1431 ه الموافق: 12/07/2010 م

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …