رحيل جيل الخير

علي رفعت مهدي

اي آذار جاءنا هذا العام؟
آذار الذي كانت الحياة تترقّبُهُ لتعلِنَ مواسمَ الولادة فيه وخيرات السماء ؟!!
ولادة الخير… والبركة … والبِرّ … والأبوّة والأمومة؛ والورد؛ والجمالات..  !!!
أيُّ آذار ٍ أبى ان يغادرنا هذا العام؛ قبل ان تحمِلَ أجنحةُ الموتِ اجدادنا الكبار من بركات علي النهري؛ من خيرِ علي النهري وينابيعها وارزاتها وسندياناتها ودوالي كرومها ومنظومة القيم فيها؟؟ وقبلَ ان نذرِفَ الدّمع مدرارًا على آخرِ حبّاتِ عناقيدِها من اجدادنا المعمّرين الذين غادرونا بصمتٍ وحنانٍ وعذوبةٍ لم يثقلِ الله فيهم ارضا؛ ولم يكرِّه بهم عبداً…؟؟!
أيُّ آذار ٍ …!!!
طعنتْ رُمحُ الموتِ فيه الحاجة سعاد عبّاس المذبوح (ام حسين)  آخرَ البركاتِ من امهاتنا؛ كبيراتنا؛ عزيزاتنا؛ غالياتنا؛ ولم يمضِ سوى بضعةِ ايامٍ على رحيلِ رفيقةِ عمرِها؛ وصديقةِ حياتِها؛ والأرزة من اترابها الحاجة فاطمة علي حسن مهدي (ام عفيف)؛ وفقيد جيل الكبار من رجالات ضيعتنا علي النهري الحاج اسعد مشرف المذبوح (ابو محمّد) …
آهٍ لآذار !!!!
كم سيكونُ حضورهُ دمعًا وحزنًا وأسىً في كرِّ السنين الآتيات بعد ان ارّخنا فيه لرحيلِ ثلَّةٍ من كبارنا واجدادنا وآبائنا وامهاتنا وشبابنا وصبايانا!!!
فلم نكد نؤوب من تشييعٍ حتّى نمشيَ في جنازةٍ ؛ او نقرعَ بابًا للمواساةِ برحيل عزيزٍ عشنا معه جميل الايام؛ ونبيل السنين العجاف والكرام … !!!
كم سيكونُ إيابُ “عيدِ الامِّ ” عسيرًا علينا؛ مظلِمًا في مقبلِ آيامنا ونحن الذين دفنّا قلوبَ امهاتنا مع تفتّح براعمِ الحياة على الشجر والزّهر ؛ وحفافي اللحود ؛ وتربة المقابر !!!
آهٍ لآذار …!!!
يطوي تاريخَ الحاجة سعاد عباس المذبوح (ام حسين )… يطوي آخِرَ بركاتِنا من الجيل الطّاهر ؛ جيلِ المحبّة والرحمة والحكايات والأنس والجمال والبسمات الحانية والذكريات التي لا تغادرنا ولا تفارقنا وتأبى ان تطِلَّ علينا الا من خلال نوافذِ هؤلاء الكبار المغادرين ؛ فأنا من الجيل الذي عاش في كنفهم ؛ وولِد في احضانِ بيوتِهم؛ واكل من خبزِ جهادهم ؛ وشرِبَ من عرقِ جباهِ تضحياتهم … في الزمن الذي ولِدتُ في بيروت في الرابعِ والعشرين من كانون الثّاني عام 1969 في البيت الذي كان ابي الراحل رحمات الله عليه قد استأجره في المبنى الذي كان يملكهُ  المرحوم بإذن الله الحاج علي حسين الشيخ الفوعاني (ابو حسين)  زوج الحاجة سعاد المذبوح ؛  ولهذا كانت علاقةُ الأخوّة واواصر الرحم والنسب التي ربطتنا بكبيرة علي النهري عظيمةً؛ حيثُ تعهدتنا بالتربية؛ والتأديب؛ والتوجيه حتى اواخر ايامها فقط حين اقعدها المرض ؛ واعاق حضورها الدائم لزيارة “امي”… وكم كنتُ آنسُ لحضورها؛ وأصغي لجميل حديثها؛ وروائع سردها لذكريات الماضي الهنيّ النبيل… وكم كنتُ اعيشُ فرح الحياة وانا ارها تجلسُ لملاعبة اولادنا واطفالنا “تحدّي البرجيس ” ايام الشتاء القارسة… !!!
وكم كنتُ أكبِرُ فيها هذه “الذّاكرة” الخلاّقة التي يعجزُ امامها الكثيرون من حملةِ الشهادات الجامعيّة والإجازات التعليميّة في الأدب … وهو ليس بغريبٍ عن الحاجة (ام حسين) وهي التي كانت دوحةً من ادواح شجرةِ احد رجالات علي النهري الكبار في الفكر والادب الحاج عباس المذبوح (رحمه الله) هذه الشجرة التي تفرّعت منها غصون الأبناء والبنات والأحفاد في العلم.
اليوم ؛ مشيتُ خلفَ جنازةِ “كبيرتنا في علي النهري” مطأطئ الرأس؛ تتزاحمُ الافكار في مخيّلتي المضطربة المتهالكة؛ ينبضُ قلبي لوعةً؛ سريعًا يدقُّ دقّاته؛ يخفقُ حزنًا رساليًّا على آخرِ سنديانةٍ دهريّةٍ من بركاتنا … وارزةٍ خالِدةٍ من ارزاتنا؛ ونجمةٍ ساميةٍ من نجماتنا؛ وايقونةِ الطهارةِ من ايقوناتِنا؛ ومحرابِ الطهارةِ من محاريبِ دعواتنا ورجاءاتنا وصلواتنا…
رحمكِ الله حاجة(ام حسين)… يا بركةً من بركاتِ عمرِنا؛ وجبلًا من جبالِ ذكرياتنا؛ وصفحةً حنونةً من جدّاتنا وامهاتنا…
 وعزاؤنا لكلّ اولادك واحفادك الذين عشنا معهم كلّ حياتنا؛ ولكلّ جيل الحبايب والحناين من شباب وصبايا علي النهري الذين عرفوكِ امًّا لعلي النهري ؛ كبيرةً لعلي النهري ؛ بركةً ستخلِّدُ ذكرى طهارتها ونقاوتها _ وذكرى الأجداد الراحلين معها _ كل الأجيال المتعاقبة في علي النهري !!!!
وكلمّا زرناكم ؛ ووقفنا خاشعين في مقبرة ِ علي النهري … سنردد مع فؤاد سليمان في كتابه درب القمر حين مات آخر فلاّحي ضيعتهِ:
 ”…  وتسألني: وماذا عندكم من الخير في ضيعتكم  بعدُ؟عندنا ضوء القمر والنجوم… نعمة من السماء… لا يدٌ لأحدٍ فيها ولا مِنّة!!! وعندنا من الخير، هذه المقبرة التي يرقد فيها أولئك المباركون الأتقياء”…..
واقول بلساني ولسان كل من فقد قدّيسة حياته من امهاتنا: عندنا من الخير هذه المقبرة التي ترقد فيها قلوب أمهاتنا المباركات الغاليات…!!!

علي النهري 14 شعبان 1442هج 27 آذار 2021م .