صور الألم في ديوان خيمة خمس نجوم للشاعر زينل الصوفي

إبراهيم رسول

تتخذُ صورة الألم في ديوان خيمة خمس نجوم للشاعر زينل الصوفي صوراً عِدة, وسنقومُ بتتبعِ نماذج من المجموعة الشعرية, التي وضعَ لها العنوان الفرعي المكوّن من أربعةِ كلماتٍ ليكونَ مع العنوان الأصل سبعة كلمات, وهنا دِلالة واضحة للعنوان في هذه السِعة, إذ لم يكن إلا لدواعٍ فنّيةٍ صِرفة. صورةُ الألم هي الصورة الشعرية التي صوّرَ بها أحاسيسه ووجدانه الإنساني قبل الشعري, التصويرُ والخلق الفنّي, كان يحتملُ الثيمات الأكثر قساوةً, فجاءت الصورة مكثفة من حيث الشعرية المتوّهجة فيها, ومن حيثِ النزوع الروحيّ في لُغتِها. القارئ للمجموعةِ هذه, سيجدُ أنَّها هي التي كتبت نفسها واستحضرت روحها في مخيِّلةِ الشاعر, فهي تنتمي إلى الشعرِ الذي يفرضُ حضورهُ على الشاعرِ, فكانت صورة الألم الإنسانيّ , حاضرة في مخيِّلة المُبدع, فلم يحتج إلى التخييلِ كثيراً ليأتي بشعرٍ له عاطفته, فالموضوعُ إنسانيٌّ وقد عايشهُ المُبدع فانصهرَ معه واتحدَا معاً عاطفياً, فجاءت الصور الشعرية مُكثفة وفي نَزعةٍ وجدانيةٍ عاليةٍ .
الصورُ تنوّعت في كيفيتها إلا أن الجامعَ المُشترك فيها, هو صورة الوجع الإنسانيّ, الذي بَرعَ الشاعرُ في تصويرهِ تصويراً فنّياً, فهو يُعنونُ قصائدهُ بحسبِ حجم وعمق الألم, وكلّما كانَ الوجع كثيراً كلَّما جاءت القصائد مشحونةً بالعاطفةِ المُلتهبة, نحن لا نقرأ كلمات شعر, بل نقرأ شاعرية في الكلمات, لأنَّ عُمقَ الألم وأثره في نفسيّةِ المبدع _ الشاعر, جعلَ الصور تبدو غاية في الإحساس والتصوير الفنّي. فيقولُ في أوِّلِ قصائدهِ التي يفتتح فيها صور الألم الإنساني ويعنونها بعنوانٍ معبرٍ عن أزمةٍ مرَّ بها العراق إبّان حقبة ظلامية حينما دخلت عصابات الشر والموت التي تدعى تنظيم الدولة الاسلامية داعش إلى بعض مدن العراق, فهجرت الناس من بيوتهم ونزحوا عن عن مدنهم, وكان صورة النزوح غير مألوفة لهم, فهم من جاهٍ وعزٍ آمينين في بيوتهم إلى أن تتحولَ الخيمة لتكون منزلاً لهم, فيقول في الصورة الأولى التي حملت العنوان المؤلم( صورة للخيمة):
في خيمةٍ مطليةٍ بالثلجِ
صغيرتي
ترسمُ صورة على ثيابها للنار..
أسألها:
هل أنتِ يا جميلتي فنّانه..
تقولُ:
لا,
بابا, أنا بردانه..
هنا يحكي الشاعرُ صورة من الصورة الأليمة التي كانت صاغها عبر حوارٍ مع طفلته, هذا الحوارُ عِبرَ هذه الكيفية, كان أقرب إلى المتلقي, إذ هناك طرفان شاعران في النص, وطرفٌ ثالثٌ هو الشاعرُ ذاته الذي يُترجم معاناة الطفلة ووالدها ترجمة شعرية أو ينقلها للمتلقي بصورةٍ شعريةٍ. الصورةُ الأولى, راويها طفلة هُجرت مع أهلها, وأصبحت تعاني من شدة البرد, فأعربت عن واقعها بصورةٍ مؤلمةٍ, هذا الاستنطاقُ الذي أبدعَ الشاعر فيه, وهو استنطاق طفلة لتُعبر عن أزمةٍ كبيرةٍ, هو إبداعٌ في حدِّ ذاته, فصورة الألم على لسان الطفلة كان عميقاً, لأنَّ اللغةَ هي لغة الطفلة فهي التي عبرت ( بردانه), أن تستنطقَ الشخصية خيرٌ لك من أن تفرضَ رؤاك عليها, فهنا الصورة الأولى التي ضمتها المجموعة. تمثلُ الخيمة هنا, البيت الذي ينبغي أن يكون آمناً, ويقي من حرٍ ومن بردِ, إلا أنَّ هذا البيت لم يكن كذلك, حتى أن هذه الطفلة صارت تتخيل صورة للنار في ثيابها من قساوة البرد, حتى أن والدها يسألها هل صرتي رسامة, فتجيبه بابا: أنا بردانه.. هنا تتضحُ هذه الصورة الفنّية التي رسمها, فنانٌ مُبدعٌ, وشاعرٌ متمرسٌ في خلقِ وتركيب جديد. الخيمةُ مطليةٌ بالثلج, أيّ أن البردَ قد فعل فعله في جسد هذه الطفلة, لتشكو لوالدها وهي تبث رسائلها إلى الآخر أيضاً, أنَّها بردانةٌ, في هذا النص, مأساةٌ كبيرة, هذا النص وثيقةُ إدانة بحقِ المُسببِ والمُقصر, هذه الطفلة قدمت حكاية النزوح بجملٍ قصار, إلا أن بلاغةَ هذه الجمل الشعرية, جعلتها تبلغ الكمال في البلوغِ المقصود, فهذا النص يحكي أزمة إنسانية كبيرة, ويحكيها بلغتها وواقعيتها, ويأخذنا الشاعرُ الذي أتقنَ في نقلِ هذه المعاناة بصورةٍ تقتربُ من روح السرد, إذ هذا الحوارُ هو نصٌ سرديٌ, لكن عبر لغةٍ تتناسبُ وروح الشعرِ. رمزية ُ الخيمة كانت عالية في نقلِ صورة الألم الذي صوّرته الطفلة في حديثها مع والدها, الشاعرُ لم يكن مجردَ ناقلٍ للحدثِ بل كان مبدعاً في طريقة النقل, هذا النقل الذي أحالنا إلى صورةِ الألم الذي عاشه الناس الذين نزحوا من مدنهم. أما الصورة الثانية التي جاءت أكثر عمقاً شعرياً إلا أنَّها بذاتِ الثيمة الأولى, حيث يقولُ في قصيدته ثانية تلت الأولى مباشرةً في الترتيب , عنونَ لها بعنوان يقتربُ كثيراً من الأول, بل, هو تتمة للعنوان الأولى, أو يكون جزءاً ثانٍ للعنوان الأول, ففي الصورة الأولى كان الحديث بلسان طفلة, أما في هذه الصورة فالحديث, جاءَ على لسان طفلٍو فالصورة الثانية كان راويها هو الطفل, قال في بعضها:
لي ولدٌ في الصفِ الأول..
يسألُني عن معنى البوق,
ومعنى الريف,
ومعنى المزمارِ..
أبدأُ في الشرح له
في ليلٍ مملوءٍ بالأقدارِ..
فأراهُ يعودُ إلى أوّلِ موضوعٍ
ويطيلُ سكوتاً
في رسمِ الدارِ.
البيتُ يأتي ثانياً عبر صورةٍ أخرى, تُشيرُ رمزية البيت إلى الأمان والطمأنينة, والشعور بالأمن والأمان, فالبيتُ فُقدَ من هؤلاء الصبية, وتحولَ الأمن إلى خيمةٍ لا تقي من حرٍ أو بردٍ ولا تحمي من عدوٍ, فالبيتُ المكان يعني الكثير في مخيلة الأطفال, نتيجة الظرف الطارئ والقاسي الذي مرَّ عليهم كأنَّه حلمٌ وهذا الحلمُ قد قلبَ رؤيتهم للحياة, وأنضجهم أسرع مما يُتوقع. الصورةُ الأليمة هي تمنيَ الأطفال العودة سالمين إلى دارهم, وجاءت مفردة الدار لتدلُ على الأمان الذي يرجونه, فهم قلقون, خائفون, متوجسون, يريدون الأمن والسلام, وهذا لا يكون إلا في البيت الذي يأويهم. تشابهت الصورة الأولى التي جاءت على لسان الطفلة مع الصورة الثانية التي جاءت على لسان الطفل, وهي أنَّهما رسما في خيالهما, صورة للدار, ولكنهما حالما ينتهيان من هذه الخيال, حتى يُفاجأ بأنَّهما لا دارَ لهم! فيقول الشاعر ( الطفل) في ذات القصيدة :
يسألني والدمعُ يحاصرهُ
يا أبتي ما معنى الدارِ؟
فأجيبُ بصوتٍ مخنوقٍ:
هو بيتٌ يجمعنا
هو بيتٌ يحمينا
ويقينا من بردٍ
ومن ريحٍ
ويقينا من أمطارِ..
إلى أن يقول الطفل بعد أن سمعَ هذه الصفات:
لكنّا لسنا في الدارِ..
فهذه حواريةٌ شعريةٌ بتقنية السرد, فهي ترقى أن تكونَ حواراً مفتوحاً بين شخصيتين, طفلٌ حالمٌ بالعودة, ووالدٌ حائرٌ في كيفية بثِ الصبر في طفله! الألم تجلّى هنا, هو في إدراك الطفل لمعنى الدار, وعجز الأب عن اقناع طفله بهذا الواقع القاسي, هذه صورةٌ إنسانيةٌ عبرَ بها الشاعر عن نزعةٍ إنسانيةٍ دوّنها بتقنيةٍ شعريةٍ لتُحافِظَ على رونقها وسحر إيقاعها في نفس المتلقي. لتأتي الخاتمة ( القفل) الذي تنتهي به صورة تخييل الطفل وجوابه الواقعي:
فقل لي صدقاً يا أبتي
نحن متى نرجعُ للدارِ؟
في هذا البيت, الطفلُ بدا غير مقتنعٍ بجواب والده, ويريد كلمةً حقيقةً في الوقتِ الذي سيرجعون فيه إلى دارهم, هنا ذكاءُ الشاعر قد اتضحَ, في أن بثَ الأمل في النهاية, وبالفعلِ جاء البيت حاملاً بشارة وأمل في أنَّ هذا الظرف سينتهي ولا بدَّ أن يرجعوا إلى دارهم, فسؤالُ الطفلِ ليس سؤالاً استفهامياً فحسب, بل هو بُشارة أمل قادم, ودِلالة اسم الاستفهام ( متى) إشارة إلى زمانية هذا الظرف, ولا بدَّ أن ينتهي, وبالفعلِ قد انتهت الفترة الظلامية, هنا يتضحُ نبوغ الشاعر, في بثِ الأمل بعد سلسلةِ انكساراتٍ متتالياتٍ عبر عنها في صورتي الطفل والطفلة, ولكنه لا يعدم أن يكون في خاتمة هذه المحنة الأمل الذي لولاه لأصاب النفوس الاحباط والانكسار.
الشاعرُ زينل الصوفي, يختزنُ في مخيلته, العديد من الصور والمشاهد التي جعلت من شعره , يلامسُ مشاعر المتلقي ويتفاعلا معاً, تفاعلاً إنسانياً, فمشاهداته التي عاينها وعايشها, هي مُلهمته في هذه الشاعرية المتأججة في داخله, فهو شاعرٌ جوّانيٌ, أيّ أنّ نزوعه الشعري, يميلُ إلى عالم الروحانيات, فهو قد تحملَ المصائب التي كانت ترافقه ولا تنفك عنه. مشاكلُ أو مصائب العراق مستمرةٌ, وقد أخذ الشاعرُ دورَ العراق في تصوير المصائب النازلة عليه أو المفروضة عليه بقوله:
فكأنني أمٌّ لكلِّ مُصيبةٍ
تأتي إليَّ وبين حضنيَ ترتمي.
هذه الاشارة إلى استقرار المصائب في جسد العراقِ, البلد الذي يغلي على الدوام وبصورةٍ تكاد أن تكونَ مُعايشة ومتآلفة.
تحتشدُ صور الألم في هذه المجموعة الشعرية, التي جاءَ الشعر فيها, على هيئةِ صورٍ إنسانيةٍ ومعانٍ ساميةٍ, خطابها الإنسان المُهجر تهجيراً قسرياً, وتحت تهديد خفافيش الظلام الارهابيين, الذين عاثوا في أرض العراق وأفسدوا فيها ولكنهم كانوا قساةً على الإنسان العراقي أكثر من غيره وحتى من الجمادات, مخيلة الشاعر تختزن هذه الصور , وتتفاعل معها عبر مخيلته, حتى إذا جاء وحي الشعر, خرجت طازجة شهيّة, العاطفة واضحةٌ في لحنِ خِطابها العام ولغتها النديّة, قد طوعت حروفها لتأتي متناغمة مع حجم المحنة والألم, يقول في قصيدةٍ أخرى في ذات المجموعة:
لماذا الشفاهُ إذا الهمُّ ضِحكي
ولدتُ بهذا الزمان لأبكي
فكنت وكان العذابُ إلهي
وكان البكاءُ صلاتي ونسكي
فيسكتُ ثغرُ اليقينِ بصدري
ليُصغي إلى كُفرِ رأسي وشكي.
هذه الصورة الأليمة, التي يُطلقها الشاعر, هي خارجةٌ من وحي الشعر الذي ألهمه, وهذا الوحيُ جاءَ بهذه الصورة والكثافة نتيجةَ مُعايشة الشاعر لهذه الصور الفاجعة التي لامست وجدانه وعاطفته الإنسانيّة, فلم تكن هذه الصور إلا محض واقعية, ولكن طريقة نقلها مرة أخرى, كان عبر خلقٍ جديدٍ, ألا وهو الإبداع في النقلِ , أن تنقلَ الألم من العين إلى الكتابة, لا بدَّ أن تأتي بمفرداتٍ تتناغم مع فارق الرؤية البصرية عن السمعية, فالكتابةُ جاءت تخييلية, منسوجة بعناية, حتى لا تفقد بريقها وصورتها الأليمة, إذ أعادَ رسم الصورة التي هي واقعية, عبر إيحاءاتٍ تخييلية يبثها في مخيلة المتلقي, فالقارئ سيرسم في خياله, صورةً إن لم تكن كصورة الشاعر فهي قريبة منها, لأنَّ في إعادة رسم الصورة, هو إعادة نقل للصورة الأصلية, المحصلةُ أنَّه رسمَ لنا صورة منسوخة عن الأصل وتكاد تكون متشابهة تشابهاً تاماً.
الأكثر تميّزاً في هذه المجموعة, أنَّها وجدانيةٌ وصادقةٌ, فالصدقُ كان واضحاً, إذ الشعر جاءَ سيلاً عذباً دون كبير عناء أو جُهد, وذلك لعُظم القضية التي كُتبت فيها القصائد, فلذلك تجد أن الحضور الوجداني, يهيمن على الأشعار كلها, لانَّ الموضوع يُملي على الشاعر هذه الشفافية والعاطفة في البوح.

شاهد أيضاً

طموحات أردوغان التوسعية: إلى العراق دّر

     د. سماهر عبدو الخطيب  تعتبر زيارة الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الأولى إلى …