“ما يعرفه الغراب ولا يحكيه الهدهد”.. كيف ترى المخلوقات الأخرى العالم؟

مقدمة للترجمة

في عالم نعرف أنه يحتوي على ما يقدر بـ8.7 مليون نوع من الكائنات الحية، قمنا بتسجيل خمسها تقريبا، لا بد أن السؤال عن الوعي أساسي، بل جوهري. هل يعقل أن نكون الكائنات الوحيدة الواعية بين كل تلك الملايين من صنوف الحيوات؟ لكن ذلك بدوره يحيلنا إلى سؤال آخر أكثر أهمية حول طبيعة الوعي: ما هو؟ وكيف نشأ؟ ولِمَ تقرأ هذا الكلام الآن وأنت تدرك أنك أنت من يفعل ذلك، من يرى بياض الشاشة وسواد الكلمات ويسمع في الخلفية أصوات السيارات في الشارع؟ في هذه المادة يحاول روس أندرسون، محرر ذا أتلانتيك، أن يقدم للتصور الحديث عن الوعي في عالم الحيوان، الأمر الذي قد يساعدنا كي نجيب يوما ما عن أسئلة الوعي الأكثر عمقا.

 

مادة الترجمة:

وسط الازدحام البشري في مدينة دلهي القديمة بالهند، يرتفع على أطراف سوق موجود من القرون الوسطى بناء أحمر، مكون من ثلاثة طوابق فوق متاهة الأكشاك المضاءة بالنيون، على سطحه تجد مجموعة من الأقفاص، وفي الأعلى لافتة بعنوان “مستشفى الطيور”.

 

في يوم حار من الربيع الماضي، خلعت حذائي عند مدخل هذا المستشفى، وصعدت إلى ردهة الطابق الثاني، حيث يستقبل موظف في أواخر العشرينات من عمره المرضى. تقدمت امرأة مسنة لتضع صندوق أحذية أمامه رافعة غطاءه، لتكشف عن ببغاء أبيض مغطى بالدماء كان ضحية لهجوم قطة. أما الرجل الذي يسبقني في الطابور، فكان يحمل في قفص صغير حمامة اصطدمت ببرج زجاجي. في هذه الأثناء، جاءت فتاة لا يزيد عمرها عن سبع سنوات ورائي ممسكة بيديها دجاجة بيضاء برقبة متدلية.

 

كان الجناح الرئيسي بالمشفى عبارة عن غرفة ضيقة، يبلغ طولها 40 قدما (حوالي 12 مترا)، بها أقفاص مكدسة على طول الجدران تصل إلى مراوح السقف المغطاة بشبكات حفاظا على أرواح الطيور إن حلقت تجاهها. تجولتُ في الغرفة كلها، وأجريت إحصاء تقريبيا. للوهلة الأولى، بدت العديد من الأقفاص فارغة، لكن بالنظر عن قرب، وجدتُ حماما يجلس منزويا على نفسه متواريا في الظلام.

 

 

يُعَد أصغر الأطباء البيطريين في المشفى هو ديراج كومار سينغ، الذي كان يتجول مرتديا الجينز وقناعا جراحيا. أما الطبيب البيطري الأقدم هنا، فقد عمل في النوبة الليلية لأكثر من ربع قرن، قضى خلالها عشرات الآلاف من الساعات في استئصال الأورام من الطيور، وتخفيف آلامها بالأدوية، وإعطائها المضادات الحيوية. بالمقارنة معه، يعد سينغ طبيبا مبتدئا، لكنك لن تلاحظ ذلك؛ بسبب طريقته البارعة في فحص الحمام، إذ يقلبه بين يديه بسرعة ولكن برفق، بالطريقة نفسها التي تتعامل بها مع هاتفك المحمول. وبينما كنا نتحدث، أشار إلى مساعده الذي أعطاه ضمادة من النايلون لفها مرتين حول جناح إحدى الحمامات.

An injured pigeon is treated at one of the oldest bird hospital in New Delhi June 18. The Charity Birds Hospital was set up by a philanthropic organisation and has the capacity to house more than 3,000 birds. It admits on an average 40 birds daily. JS/RAN

“مستشفى الطيور” هو أحد المستشفيات التي بناها أتباع الديانة “الجاينيّة” أو “اليانيّة”، وهي ديانة هندية قديمة تُحرِّم ارتكاب العنف، ليس فقط ضد البشر، بل ضد الحيوانات أيضا. توضح سلسلة من اللوحات في ردهة المشفى درجة التطرف التي توصلوا إليها عند تعاملهم مع هذه الوصية. نرى في إحدى اللوحات ملكا من القرون الوسطى يجلس برداءٍ أزرق يحدق عبر نافذة القصر إلى حمامة تقترب منه، وجناحها ملطخ بالدماء من مخالب صقر بني ما زال يطاردها. يسحب الملك الحمامة الصغيرة إلى داخل القصر، فيثير ذلك حنق الصقر الذي وقف يطالب بتعويض عن وجبته المفقودة، فيقطع الملك ذراعَه ويقدمها له باعتبارها وجبة بديلة عن الحمامة الصغيرة.

 

جئت إلى مستشفى الطيور وإلى الهند لأرى من كثب النظام الأخلاقي للجاينيين، وتطبيقه على أرض الواقع. يشكل أتباع الديانة الجاينية أقل من 1٪ من سكان الهند، وعلى الرغم من آلاف السنين التي قضوها في انتقاد الأغلبية الهندوسية، فإنهم استطاعوا مع ذلك إقناع ملك هندوسي في القرن الثالث عشر بسن أول قوانين الرفق بالحيوان في شبه القارة الهندية. وتوجد أدلة على أن الجاينيين أثروا على بوذا نفسه، ولم يقف تأثيرهم عند هذا الحد، بل توصلوا إلى غاندي أيضا، فعندما طوّر الأخير أفكاره حول اللاعنف، ألهمه صديق له من الطائفة الجاينية.

 

في ولاية غوجارات، حيث ترعرع غاندي، رأيت رهبانا من الديانة الجاينيّة يسيرون حفاة في ساعات الصباح الباردة لتجنب السفر بالسيارة الذي يعتبرونه نشاطا عنيفا للغاية، نظرا إلى الضرر الذي يُلحقه بالكائنات الحية، بداية من الحشرات، ووصولا إلى الحيوانات الكبيرة. يرفض هؤلاء الرهبان أكل الخضروات الجذرية، خشية أن تتعرض المخلوقات الحية الدقيقة للإزعاج أو الأذى خلال عملية نزع هذه الثمار. يرتدون ملابس بيضاء مصنوعة من القطن وليس الحرير الذي تتطلب صناعته القضاء على ديدان القز. خلال الرياح الموسمية، يمتنعون عن السفر لتجنب إيذاء الميكروبات في المياه الراكدة، تلك الكائنات الدقيقة التي تنبأ بها الجاينيون قبل ظهورها تحت الميكروسكوبات الغربية.

 

الوعي لدى الحيوانات

هدهد

يتحرك الجاينيون في العالم بهذه الطريقة اللطيفة، لاعتقادهم أن الحيوانات كائنات واعية تختبر -بدرجات متفاوتة- مشاعر مماثلة لمشاعر الإنسان، مثل الرغبة والخوف والألم والحزن والفرح. لم تحظَ هذه الفكرة بشعبية في الغرب لفترات طويلة، لكنها لاقت مؤخرا استحسانا بين العلماء الذين يدرسون القدرات المعرفية لدى الحيوانات.

 

لا يقتصر الأمر على الرئيسيات فقط، مثل الكلاب والفيلة والحيتان وغيرها، وإنما توصل العلماء الآن إلى دليل على وجود حياة عاطفية لدى مخلوقات تبدو غريبة تطورت على الأطراف البعيدة من شجرة الحياة (مصطلح يستخدم في علم الأحياء التطوري لفهم الصلة والترابط بين الكائنات الحية). في السنوات الأخيرة، أصبح من الشائع تصفح مجلة وقراءة مقال عن أخطبوط يستخدم أذرعه للف غطاء جرة، أو رش ماء على وجه أحد العلماء الباحثين عن عمد. لم يعد اللغز المحيّر إذن أيُّ الحيوانات واعية، بل أيها ليس كذلك.

 

يُعد الإدراك أحد أكثر جوانب عالمنا غموضا، فهو حالة الوعي التي تحفز كل لحظة من يقظتنا، وتُشعرنا بالوجود داخل جسد يختبر عالما أكبر يمتلئ بالألوان والأصوات والمواد القابلة للّمس. كل هذه المشاعر تمر بمراحل تنقية من خلال أفكارنا وعواطفنا. حتى في عصرنا العلماني، يحتفظ الوعي ببريق روحاني غامض، يوصف بأنه آخر حدود العلم، ونوع من السحر الروحاني الذي يتجاوز قدرة العلم على تفسيره.

عنكبوت

في السياق ذاته، أخبرني ديفيد تشالمرز، أحد أكثر الفلاسفة احتراما في العالم، أن الوعي يمكن أن يكون سمة أساسية للكون، مثل الزمكان (دمج ابتكره أينشتاين لمفهومَي الزمان والمكان) أو الطاقة، بمعنى أنه قد يكون مرتبطا بالأعمال غير المرئية والعشوائية في العالم الكمي، أو بشيء غير مادي.

 

توجد هذه التفسيرات الميتافيزيقية (الغيبية) وتوضع في الحسبان؛ لأن العلماء لم يقدموا بعدُ تفسيرا مرضيا لما يعنيه الوعي. على الرغم من معرفتنا بأن أنظمة الجسم الحسية ترسل معلومات عن العالم الخارجي إلى أدمغتنا، حيث تعالجها شبكات عصبية متزايدة التعقيد، فإننا لا نعلم كيف تُدمَج هذه الإشارات بصورة سلسة ومستمرة عن العالم. الموضوع أقرب ما يكون إلى تدفق لحظات يختبرها المرء بصفته “شاهدا” عليها، فيعي ذاته ووجوده في هذا العالم كما يصفها الفلاسفة الهندوس.

 

اعتقد الغربيون منذ فترة طويلة أن الوعي هو هبة إلهية تُمنَح للبشر وحدهم. ظلت هذه الفكرة موجودة على مر التاريخ، إذ تَصور الفلاسفة الغربيون أن الحيوانات عبارة عن آلات بلا مشاعر. الغريب أنه حتى بعد أن أثبت داروين قرابتنا البيولوجية مع الحيوانات، ظن العديد من العلماء أن تطور الوعي كان فكرة حديثة العهد، معتقدين أن العقل الأول استيقظ في وقت ما بعد انشقاقنا عن الشمبانزي والبونوبو (الشمبانزي القزم).

 

في السياق ذاته، حاول الباحث الأميركي “جوليان جاينز”، في كتابه الصادر عام 1976 بعنوان “أصل الوعي”، البرهنة على أن العقل البشري كان يعمل سابقا بطريقة مختلفة. انقسمت حينها الوظائف المعرفية بين جزئين في الدماغ: جزء “يتحدث”، والآخر يستمع ويطيع، أي عقل ذو حجرتين (المقصود أن الوعي بشكله الحالي بدأ عند زوال العقل ذي الحجرتين، بمعنى أن الحالة العقلية ذات الحجرتين كانت الطبيعية والسائدة للعقل البشري). وهو يرى مثل الشاعر الروماني “فيرجيل” أن تطور اللغة هو الذي قادنا إلى الحالات المعرفية العميقة القادرة على خلق عوالم محسوسة.

أصل الوعي جوليان جاينزأصل الوعي جوليان جاينز

بحوث جديدة

تغيرت الفكرة التي مفادها أن امتلاك الحيوانات وعيا هو أمر مستجد، وذلك في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حينما توجه المزيد من العلماء إلى الدراسة المنهجية لسلوكيات جميع المخلوقات على وجه الأرض والحالات الدماغية لها. مع كل عام جديد الآن، نجد مجموعة كبيرة من الأوراق البحثية الجديدة، تشير جميعها إلى أن عددا كبيرا من الحيوانات لديها وعي وإدراك لذاتها في هذا العالم. من المرجح أن “سباق التسلح” في قاع البحر منذ أكثر من نصف مليار سنة ‏بين المفترس والفريسة، أدى إلى ظهور أول حيوان واعٍ على كوكب الأرض.

 

يبدو أن هناك اليوم عالما كاملا من التجارب الحية التي تختبرها الحيوانات يسير بمحاذاة عالمنا البشري، يعود الفضل في ذلك إلى العلماء الذين ألقوا الضوء -ولو جزئيا- على هذا البعد الجديد لواقعنا. رغم جهودهم العظيمة هذه، فما زال يتعذر عليهم إحاطتنا بكيفية التعامل مع تريليونات العقول التي نتشارك معها سطح الأرض. تُعَدّ هذه المشكلة فلسفية، وعلى غرار معظم المشكلات الفلسفية، ستظل معنا لفترات طويلة قادمة.

 

باستثناء فيثاغورس وعدد قليل من المفكرين الآخرين، لم يترك الفلاسفة الغربيون القدماء تراثا غنيا فيما يتعلق بالتفكير في الوعي لدى الحيوانات، في حين ظلت هذه الفكرة مسيطرة على المفكرين الشرقيين، وانغمسوا فيها تماما وفي الآثار المترتبة عليها. كما أن فكرة الوعي الحيواني سيطرت بالأخص على أتباع الديانة الجاينية، الذين تعاملوا معها بجدية شديدة باعتبارها مسألة أخلاقية، لما يقرب من 3000 عام.

 

العديد من معتقدات الديانة الجاينية الأرثوذكسية لا تصمد أمام التدقيق العلمي، لا تتمتع عقيدتهم بامتياز الوصول إلى الحقيقة، سواء كانت هذه الحقيقة غامضة أو غير ذلك. لكن حينما نتحدث عن الثقافة الأولى التي توسعت فيها الرحمة لتشمل الحيوانات، سنجد الديانة الجاينية رائدة في هذا المجال. بدت الأماكن التي يتعبدون بها ويعتنون فيها بالحيوانات مناسبة للتأمل في المساعي (أو الحدود الحالية) التي توصلت إليها الأبحاث المختصة بالوعي الحيواني.

A hospital employee feeds the pigeons at one of the oldest bird hospital in New Delhi June 18. The Charity Birds Hospital was set up by a philanthropic organisation and has the capacity to house more than 3,000 birds. It admits on an average 40 birds daily. JS

في مشفى الطيور، سألت سينغ عما إذا كان أي من الطيور التي يعالجها سبّب له مشكلات، قال إن أحدها رفض أن يتلقى الطعام من يدي، وكان يعضها أحيانا لو اقتربتُ منه. ثم قادني إلى غرفة أخرى لرؤية غراب هندي مشاكس، كان ريشه أسود، وحول عنقه ريش بلون بني فاتح. ظل الغراب يرفرف بأحد جناحيه، تسلل الضوء من نافذة قريبة ليمتزج بالريش ويعبر خلاله في مشهد ظهر فيه الجناح كأنه ستارة فينيسية (ستارة معدنية ذات فتحات تستخدم غالبا في المكاتب)، أخبرني سينغ بأن جناحه كان مكسورا.

 

يقول سينغ: “بعد أيام قليلة من وصول الغراب، بدأ في استخدام نداء خاص إذا اشتهى الطعام، لا توجد طيور أخرى هنا تفعل ذلك”. لم يكن نداء الطائر حالة فريدة تماما للتواصل بين البشر والطيور، فثمة ببغاء رمادي استطاع أن يجمع ذات مرة مفردات مكونة من 900 كلمة، وفي الهند، تدرب عدد قليل من الببغاوات على ترانيم من الديانة الهندوسية، لكن نادرا ما جمعت الطيور هذه المعاني في جمل مفيدة، وبطبيعة الحال، لم يعلن أحد من هذه الطيور عن امتلاكه وعيا.

 

تُعدّ هذه نتيجة سيئة للغاية؛ لأنه، بغض النظر عن المدة التي سأجلس فيها محدقا في عين ذاك الغراب الأسود، مستبدة بي رغبة حارقة في معرفة ما يجول في خاطره، لن أفلح أبدا في معرفة ما إذا كان واعيا أم لا، لذا سأضطر للاكتفاء بالأدلة الظرفية (الأدلة الظرفية لا تحمل دليلا مباشرا، لكنها بدلا من ذلك تستند إلى حقائق يمكن إثباتها).

 

ذكاء الغربان اليابانية

تمتلك الغربان مثلا دماغا كبيرا للغاية مقارنة بحجمها، وتكتظ بخلايا عصبية شديدة الكثافة مقارنة بالحيوانات الأخرى. وعلى الرغم من قدرة علماء الأعصاب على معالجة معلومات نشاط الدماغ، فإن جميع صور المسح الدماغي لم تكشف بعد عن أي علامة تشير إلى امتلاك الحيوانات وعيا. وبناء على ذلك، أصبح من الصعب تقديم دليل قاطع يفيد بأن حيوانا معينا يملك وعيا بالاعتماد فقط على تشريحه العصبي، لكن مع ذلك هناك ما يشير إلى أن وجود شبه كبير بين دماغ حيوان ما وأدمغتنا، كما هو الحال مع الرئيسيات، يعني أن الحيوانات الأولى التي ظهرت على سطح الأرض كانت تمتلك وعيا.

 

يوجد اعتقاد سائد بأن الثدييات واعية؛ لاشتراكها معنا في حجم دماغ كبير نسبيا، كما أنها تتمتع أيضا بقشرة مخية، وهو المكان الذي تحدث فيه أعقد العمليات الإدراكية. من ناحية أخرى، نجد أن الطيور تفتقر إلى القشرة المخية، فعند انفصال جيناتها عنا منذ ما يقرب من 300 مليون سنة، تطورت أدمغتها بهياكل مختلفة، لكن يبدو أن أحد هذه الهياكل مرتبط ببعضه ارتباطا شبكيا يشبه القشرة المخية، وهو دليل محير ومثير جدا للتأمل في الطبيعة التي قد تسلك أكثر من سبيل لبناء دماغ واعٍ.

 

يمكننا التوصل إلى أدلة أخرى تشير إلى امتلاك الحيوانات وعيا إذا درسنا سلوك هذه الحيوانات، ومن بين هذه السلوكيات، ظهر سلوك غريب لبعض فصائل الطيور الجارحة في أستراليا، والتي لقَّبها العلم باسم طيور النار، التي أسهمت بشكل ما في تدهور حالة الحرائق بالمناطق العشبية.

 

إحدى هذه الفصائل تُسمى بـ”صقر النار (firehawk)”، تلتقط هذه الطيور حزما من العصا أو الأخشاب المشتعلة من حرائق الغابات، ثم تلقيها في منطقة عشبية لإضرام النار عمدا؛ لطرد الفرائس المختبئة في هذه المناطق الخضراء. ربما يعني ذلك أن الطيور الجارحة قادرة على إدراك وجود مساحة من البيئة حولها يمكن استغلالها لأغراض جديدة (مثل طرد الفرائس بإضرام النيران في هذه المساحة)، أو لعل هذه العملية تحدث دون إدراك منها، بالاعتماد فقط على غرائزها.

يرى الخبراء أن الغربان هي أكثر الطيور ذكاءً وتطورا، فلطالما اشتهرت بقدرتها على تشكيل العصا على هيئة خطاطيف. في العام الماضي فقط، لاحظ الباحثون أن إحدى فصائل الغربان تتمتع بقدرة على بناء أدوات مكونة من ثلاثة أجزاء منفصلة تشبه العصا (لاصطياد الفريسة). وفي اليابان، اكتشف الناس مدى ذكاء هذه الطيور في استغلال حركة المرور، ورمي حبات من جوز الهند أمام السيارات المتوقفة عند التقاطعات، والانتظار بعيدا إلى أن يتحول ضوء إشارة المرور إلى اللون الأحمر، فتتحرك السيارات، وتدهس ثمرات الجوز، فتنقضّ الغربان بعدها لالتقاط الحبات المكسورة.

 

أثناء حديثي مع سينغ، تَملّك الغراب شعور بالملل من حديثنا، فعاود أدراجه إلى النافذة كما لو كان يتفقد انعكاسه الباهت على الزجاج. في عام 2008، أصبح العقعق -وهو إحدى فصائل الغربان- أول حيوان غير ثديي يجتاز “اختبار المرآة” (وهو اختبار نفسي لتحديد قدرة الحيوانات على التعرف على نفسها في المرآة، ويُستخدم مقياسا للوعي الذاتي عند الحيوانات). عندما رسم الخبراء نقطة لامعة على عنق العقعق بحيث لا يمكن رؤيتها إلا في المرآة، سرعان ما ميّز الأخير هذه العلامة على الفور، محاولا فحص رقبته بمجرد رؤية انعكاس صورته في المرآة.

 

أخبرني سينغ أن هذا الغراب سينتقل قريبا إلى الطابق العلوي في أحد أقفاص السقف المكشوفة، حيث يتوفر للطيور مساحة أكبر لاختبار أجنحتها التي لا تزال ضعيفة. من الطبيعي أن يشغل ذلك حيزا كبيرا في وعي الطائر ويبعث في نفسه شعورا بالحرية. وبقليل من الحظ، ستعود هذه الطيور بسرعة إلى الحياة المفعمة بالحيوية التي تفضلها.

 

تُدفن الطيور التي تموت في هذا المشفى على طول مجرى أحد الأنهار خارج مدينة دلهي، وتُعد هذه لمسة ذكية فيما يتعلق بحياة الغربان التي تقيم أحيانا جنازات، بتجمعها حول الجثة مثل المحققين الجنائيين في محاولة لمعرفة السبب وراء الموت. سألت سينغ عن شعوره عندما أطلق سراح الطيور على السطح، فقال: “نحن هنا لخدمتها. واعلم أنها ليست جميعها متشابهة، فبعضها لا يغادر على الفور، بل يعود ليحط على أكتافنا”.

غربان

الغربان ليست من فصائل الطيور التي تعود من جديد لتحط على الأكتاف، وعلى الرغم من ذلك، يلاحظ سينغ أحيانا مرضى سابقين من الغربان تحوم حول المشفى، لعلها تبحث عنه. من صفات الغربان المعروفة هي قدرتها على تمييز وجوه البشر والتعرف عليها، ولا تتوانى لحظة عن إطلاق نعيق شرس إزاء الأشخاص الذين لا يروقون لها، في حين تترك الهدايا مثل الأزرار أو قطع لامعة من الزجاج لأشخاصها المفضلين باعتبارها عطايا أو قرابين.

 

إن كانت هذه السلوكيات تُفضي بنا إلى امتلاك الحيوانات وعيا، فهذا يعني أحد أمرين: إما أن الوعي خاض مرحلة تطور مرتين على الأقل عبر المسار الطويل للتاريخ التطوري، أو أنه تطور في وقت ما قبل أن تنفصل الطيور والثدييات عن بعضها في رحلاتها التطورية. وكما نرى، فإن كلا السيناريوهين يعطينا سببا للاعتقاد بأن الجزيئات البيولوجية يمكن أن تتحول إلى عقول يقظة بسهولة أكبر مما كنا نتخيل في السابق. ذلك يعني أن كوكبنا يحتضن حيوانات كبيرة وصغيرة تولِّد باستمرار تجارب حية واعية بشكل ما.

 

ماذا عن عالم البحار؟

في اليوم التالي لزيارتي مستشفى الطيور، غادرت دلهي بالسيارة، سالكا أحد الطرق الذي يسير بمحاذاة نهر “جمنا” جنوبا وشرقا بعيدا عن منبعه الجليدي بين التلال المتعرجة لجبال الهيمالايا. وفي الطريق، شاهدت مياه الصرف الصحي في دلهي تطفح باللون الأسود مغطية مساحات كبيرة من النهر، ما يجعله -مع الأسف- أحد أكثر أنهار العالم تلوثا. وبينما أسير في طريقي، تمكنت من رؤية الزجاجات البلاستيكية تطفو على سطحه، يُعَد هذا تدنيسا بلا شك، خاصة في بلد مثل الهند، حيث تحتل الأنهار مكانة خاصة في المخيلة الروحانية.

 

سبحت ملايين الأسماك يوما ما في نهر جمنا قبل أن يدنسه البشر. اليوم أصبح هذا التلوث يغمر كل المسطحات المائية الموجودة على الكوكب، لدرجة أنه وصل إلى أعمق نقطة موجودة على سطح الأرض، المعروفة باسم “خندق ماريانا” في أعماق المحيط الهادي. المثير للسخرية أنهم رصدوا مؤخرا كيسا بلاستيكيا ينجرف ليصل إلى أعماق ذلك الخندق.

تلوث الانهار

تشاركنا آخر مرة الجينات مع الحيوانات التي تطورت إلى أسماك منذ حوالي 460 مليون سنة، أي قبل أكثر من 100 مليون سنة من انفصالنا عن سلالة الطيور. تشير فكرة تقاربنا مع الأسماك إلى أن أيدينا عبارة عن زعانف محولة، والفُواق (الحازوقة أو الزغطة) كان في الأصل عملية تنفس الأسماك عن طريق الخياشيم، ومع ذلك فإن الكثير من العلماء يرون فكرة علاقة البشر بالأسماك متطرفة إلى حد بعيد.

 

يرفض العلماء أحيانا فكرة أن الأسماك كانت تنتمي لفصيلتنا يوما ما؛ لرفضها النزوح معنا إلى اليابسة. وفي بعض الأحيان، اعتقد العلماء أن عدم قدرتها على الرؤية لمسافات بعيدة في بيئتها المظلمة هو ضعف إدراكي. لكن هناك أدلة جديدة تشير إلى أن الأسماك تملك عقولا غنية بالذكريات، وبعضها قادر على استدعاء أحداث تعود لأكثر من 10 أيام.

 

كما يبدو، لدى الأسماك قدرة على الخداع، فإناث سمك السلمون تقوم بما يشبه “هزات الجماع المزيفة” بارتجافها وكأنها على وشك وضع البيض في العش الذي تحفره؛ للتخلص من الذكور غير المرغوب بهم. بالإضافة إلى وجود لقطات تظهر فيها أسماك الهامور وهي تتعاون مع ثعابين البحر لإخافة الفريسة وإجبارها على الخروج من الشعاب المرجانية، إذ يُنسِّق كلاهما الخطة بإشارات رأسية معقدة ومتطورة. يشير هذا السلوك إلى امتلاك الأسماك القدرة على التكهن بما يجول في عقول الكائنات الأخرى.

 

ظهرت مجموعة من السلوكيات أكثر إثارة للقلق أثناء التجارب المصممة لتحديد ما إذا كانت الأسماك تشعر بالألم، يُعد الألم أحد أكثر حالات الوعي حدة، فهو شيء أبعد من مجرد كونه تنبيها لاكتشاف ضرر ما في الجسد. حتى أبسط أنواع البكتيريا لديها أجهزة استشعار على أغشيتها الخارجية، فبمجرد أن ترصد هذه المستشعرات كميات ضئيلة من المواد الكيميائية الخطرة، سرعان ما تولد رد فعل مبرمجا لديها. لكن البكتيريا تفتقر إلى وجود جهاز عصبي مركزي، حيث تُدمج هذه الإشارات في تجربة ثلاثية الأبعاد مع البيئة المحيطة.

 

أما الأسماك فتتمتع بأجهزة استشعار متعددة الأنواع أكثر من البكتيريا، تُثار مستشعراتها بمجرد ارتفاع درجة حرارة الماء، وعند تلامسها مع المواد الكيميائية الحارقة، وعندما تخترق الخطاطيف جلدها وتصل إلى لحمها. في المختبر، عندما تُحقَن أسماك السلمون من شفاهها بمادة حمضية، لا تكتفي بالتصدي لهذا الحمض، بل تستمر في هز أجسادها ذهابا وإيابا، ثم تبدأ في اللهاث وبفرك أفواهها في أحواض المياه أو في الحصا الموجودة بالقاع. تتوقف هذه السلوكيات بمجرد حقنها بالمورفين (وهو مسكّن قوي للألم، يعمل مباشرة على الجهاز العصبي المركزي لتقليل الشعور بالألم).

 

مثل هذه الإجراءات تتعارض مع أخلاقيات البحث، لكنها في الوقت ذاته لا تُقارَن بالتجارب التي تخوضها تريليونات الحيوانات البحرية التي ينتزعها البشر نزعا من المحيطات والأنهار والبحيرات كل عام. أثناء هذه العملية، تظل بعض الأسماك على قيد الحياة بعد ساعات من جرفها إلى الأنابيب المبردة ذات الإضاءة السيئة لضمها إلى سلسلة المأكولات البحرية العالمية.

 

تختلف عملية الألم التي تختبرها الأسماك عن الألم الذي نشعر به. في الوعي البشري، يأخذ الألم أبعادا وجودية، ولأننا نعلم أن الموت يحوم حولنا، نحزن على تصور المستقبل الغني الذي سنفقده يوما ما، يصبح من السهل علينا تصور أن ألمنا هو الأعمق على الإطلاق، لكننا نسهو دائما عن حقيقة أن الألم البشري يمكن أن يصبح هينا وأخف وطأة بمجرد إدراكنا أن معاناتنا هذه ستنتهي حتما في وقت ما، فليس هناك ألم يظل مستمرا أبد الدهر.

 

لكن تختلف الأمور مع المخلوقات الأخرى الأقل إدراكا، فعندما نسحب سمكة من الأعماق ذات الضغط العالي بسرعة كبيرة إلى السطح، تتعرض لرضح ضغطي (وهو التأذّي الجسدي لأنسجة الكائنات الحية نتيجة حدوث فرق في الضغط)، ويمتلئ مجرى الدم بحمض حارق للأنسجة. لذا فإن انتفاضتها على سطح السفينة قد تكون صرخة صامتة وُلِدت من اعتقاد السمكة بأنها دخلت في حالة أبدية من المعاناة الشديدة.

يروي الجاينيون قصة عن نميناث، وهو رجل من العصور القديمة يقال إنه كان حساسا لنداءات الاستغاثة التي تصدرها الحيوانات، وقد ازداد ولعه الشديد بالحيوانات أثناء رعايته الماشية في المراعي على ضفاف نهر جمنا في قريته شاوريبور التي وصلتُ إليها بعد أربع ساعات من مغادرة دلهي. نميناث هو واحد من 24 شخصية في مقام الأنبياء للديانة الجاينية، عبرت هذه الشخصيات نهر الحياة مجازا، قبل أن يدلّوا الآخرين على طريق التنوير. تؤكد قصصهم على طبيعتهم اللاعنفية، وبعدها تصل إلى حد الأساطير، حيث يقال إن أحدهم مثلا كان يطفو في رحم والدته دون أن يتحرك إطلاقا لتجنب إيذائها.

 

لم يثبت تاريخيا أن هذه الشخصيات كانت موجودة بالفعل، باستثناء عدد قليل منها، لم يكن نميناث من ضمنها. يقول الجاينيون إن نميناث غادر قريته نهائيا في يوم زفافه، لأنه في صباح ذلك اليوم ركب فيلا ليذهب إلى المعبد حيث كان مقررا له أن يتزوج. في الطريق، تناهى إلى مسامعه سلسلة من الصرخات المؤلمة، ورغب في معرفة سببها، فأوضح له السائس أن هذه الصرخات قادمة من الحيوانات التي كانت تُذبح من أجل وليمة زفافه.

 

كانت هذه اللحظة نقطة تحول في حياة نميناث إلى الأبد. تخبرنا بعض النسخ المختلفة من هذه القصة أنه حرر الحيوانات الباقية التي ظلت حينها على قيد الحياة، بما فيها سمكة أخذها بين يديه وأعادها إلى النهر. وتفيد نسخ أخرى بأنه قرر الهرب فور معرفته السبب. لكن ما تتفق عليه جميع الروايات أنه تخلى عن حياته السابقة، فبدلا من الزواج من عروسه، انطلق إلى “جيرنار”، وهو جبل مقدس في ولاية غوجارات على بُعد 40 ميلا من بحر العرب.

 

تسلق الحجاج جبل جيرنار

بدأت صعودي إلى جبل جيرنار قبل الفجر متتبعا الإرشادات. كان علي أن أصعد 7000 درجة محفورة في الجبل نفسه لكي أصل بحلول الساعة التاسعة صباحا، حتى لا أتأخر عن الطقوس التي تُجرَى في معبد قديم بالقرب من القمة. كان الطريق يقع على بعد 50 ميلا فقط من محمية جير، حيث رأيت في اليوم السابق أسدين آسيويين لا يمكن تمييزهما تقريبا عن أسود أفريقيا. في الماضي، كان الأسد الآسيوي أشرس حيوان مفترس في المنطقة، لكنه مع ذلك كاد ينقرض أثناء الاستعمار البريطاني نتيجة اصطياد الحاشية البريطانية لهذه الأسود.

 

حتى يومنا هذا، ما زال يُصنف الأسد الآسيوي بأنه أحد أندر الحيوانات المفترسة الكبيرة، بل أكثر ندرة حتى من النمر الثلجي الذي يُعَد نادرا للغاية لدرجة أنه إذا لمح الحجاج أحدها في جبال الهيمالايا فإنهم يعتبرون ذلك علامة على إتمام طقوسهم الدينية هناك. بذلت ما في وسعي لأنفض عن ذهني فكرة انتشار الأسود مؤخرا في غابات جيرنار. بحلول النهار، ظهرتْ قرود “اللانغور” على جانب الطريق، راقب أحدها بائعا أقام كشكا لتقديم الطعام والماء للحجاج العابرين، وبمجرد أن أدار الرجل ظهره انطلق القرد سريعا لالتقاط موزة من الكشك.

 

في محمية جير الوطنية، رأيت غزلانا تستعين بهذه القرود باعتبارها نظام مراقبة على قمم الأشجار، إذ تجلس القردة عاليا تراقب الفهود والأسود التي تتخفى ببراعة بين تلك الأشجار. بمجرد أن ترصد هذه القردة الحيوانات المفترسة، تُطلِق على الفور نداءات مميزة تتعرف عليها الغزلان التي لم تكن الوحيدة التي تعرفت على هذه الأصوات، بل تعرف عليها أيضا جهاز تعقب الأسود الذي كان معي حينها.

 

في المسار الطويل إلى قمة جبل جيرنار، كنت أراقب النساء وهن حافيات، يرتدين الساري بألوان زاهية، وخلاخيلهن الفضية الرقيقة ترنّ أثناء سيرهم. وبمجرد أن وقعت عيني على لافتة تشير إلى أنه ما زال متبقيا ألف خطوة لأصل إلى المعبد، خلعت حقيبتي على الفور وقفزت لأجلس على حائط، تاركا ساقي تتدلى.

 

على مقربة مني، شاهدت راهبا مسنا برداء أبيض يحاول بصعوبة صعود الدرجات، بدا وحيدا يعاني من صعوبة في التنفس. عندما يتخلى الرهبان والراهبات عن الحياة الدنيوية، فإنهم يقطعون جميع الروابط الأسرية، يحتضنون أولادهم للمرة الأخيرة، ويتعهدون بعدم رؤيتهم مرة أخرى أبدا، ما لم تجمعهم الصدفة على الطرق الريفية، حيث يتجول الرهبان والراهبات لبقية حياتهم، حاملين جميع ممتلكاتهم على ظهورهم.

 

في لحظات قليلة جمعتني بهذا الراهب، خيّم الصمت على كل شيء حولنا باستثناء طنين دبور أسود كان يطير فوقنا. أثار مظهر الحشرة في نفسي شعورا بالفجوة السحيقة بين جنسينا، شكلها الممدد، وأعينها متناهية الصغر، وجسدها الخارجي يجعلها تبدو غريبة للغاية، لدرجة يستبعد فيها المرء أن تكون هذه الحشرة واعية. لكن أحيانا تكون المظاهر خادعة، إذ يعتقد الخبراء أن بعض الدبابير طَورتْ بالفعل عيونا كبيرة لمراقبة الإشارات الاجتماعية التي تُصدرها الحشرات الأخرى، فيستطيع البعض منها التعرف على ملامح وجه أقرانها في الخلية.

 

هل للنحل خرائط ذهنية ترشده؟

إن فصيلة الدبابير على غرار النحل والنمل، هي حشرات ذات أجنحة غشائية، تتميز بسلوكياتها المعقدة والمتطورة بشكل مثير للدهشة. نجد أن النمل مثلا يلتصق ببعضه ليبني جسورا بأجساده تسمح لجميع المستعمرات بعبور الفجوات الموجودة في التضاريس. أما النحل في المختبرات، فيمكنه تعلم المفاهيم المجردة مثل مفهوم “الشبه” و”الاختلاف”، وحتى مفهوم “الصفر”، بالإضافة إلى سرعة تعلمه من بعضه. فإذا ابتكر أحدهم أسلوبا جديدا لاستخراج الرحيق، فربما يحاكي أقرانه السلوك ذاته، فيؤدي ذلك إلى انتشاره في المستعمرة، أو حتى انتقاله عبر الأجيال.

 

في إحدى التجارب، انجذب النحل إلى قارب في وسط بحيرة وضع فيه العلماء أوعية بداخلها ماء مخلوط بسكر. عندما عاود النحل أدراجه إلى الخلية من جديد، أبلغ أقرانه بموقع القارب برقصات اهتزازية يتبناها النحل للتواصل. في العادة، بمجرد وصول معلومات كهذه، ينطلق باقي النحل على الفور بحثا عن الرحيق المكتَشف حديثا، لكن المفاجأة أنها في هذه المرة ظلت في أماكنها دون حراك، وكأنها استشارت خريطة ذهنية واستبعدت من خلالها إمكانية وجود أزهار في وسط بحيرة. لم يتمكن علماء آخرون من تكرار هذه النتيجة، لكن تشير تجارب مختلفة إلى أن النحل قادر بالفعل على تطوير خرائط ذهنية بهذه الطريقة.

 

قضى أندرو بارون، عالم الأعصاب من جامعة ماكواري في أستراليا، العقد الماضي في استكشاف الهياكل العصبية الدقيقة لأدمغة النحل. يعتقد أن ثمة هياكل عصبية في تلك الأدمغة تعالج المعلومات المكانية بطريقة مشابهة للدماغ البشري. قد يبدو ذلك مفاجئا، لأن دماغ النحل يحتوي فقط على مليون خلية عصبية مقارنة بـ85 مليار خلية عصبية في أدمغتنا. لكن أبحاث الذكاء الاصطناعي تفيد بإمكانية تنفيذ المهمات المعقدة أحيانا من خلال دوائر عصبية بسيطة نسبيا. يملك ذباب الفاكهة، على سبيل المثال، 25 ألف خلية عصبية فقط، ومع ذلك فإنه يُظهِر سلوكيات معقدة. في التجارب المعملية، عندما تفشل بعض عمليات التزاوج، تبحث بعض الحشرات عن الكحول، المادة التي تؤثر على وعيها وتوفرها الطبيعة في الفواكه المخمرة.

بالنسبة إلى اللافقاريات، فلم يمر العديد منها بأي تطور يتجاوز جهازا عصبيا بدائيا، لكن منذ أكثر من نصف مليار سنة بدأ الانتخاب الطبيعي (وهو عملية تطورية يتكاثر فيها الأفراد ذوو السمات المعززة للبقاء على قيد الحياة بمعدلات أعلى) في تحويل اللافقاريات إلى مفصليات بزوائد مميزة وأجهزة حسية متخصصة، استخدمتها للتحرر من حياة مبنية فقط على الاستجابة للمحفزات.

 

واجهتْ الحيوانات الأولى على سطح الأرض مجموعة جديدة من المشكلات التي قد يتمثل حلها في تطور الوعي. فلنأخذ الدبابير السوداء على سبيل المثال، فبينما تحوم فوق البتلات الرقيقة لنبات الجهنمية (من فصيلة القرنفليات)، يندفع قدر كبير من المعلومات إلى دماغها، مثل ضوء الشمس والاهتزازات الصوتية ورائحة الأزهار، إلا أن تدفق هذه المعلومات يصل إلى دماغها في أوقات مختلفة. لتكوين صورة دقيقة ومستمرة للعالم الخارجي، يحتاج الدبور إلى مزامنة هذه الإشارات، بجانب تصحيح أي أخطاء ناتجة عن حركاته، وهي مهمة صعبة؛ بسبب امتلاكه مستشعرات مثبتة على أجزاء متحركة من الجسم، ناهيك برأسه المتحرك أصلا.

 

لا يشبه وعينا

لو كانت أسلاف الدبابير المائية اختبرت أول وعي بدائي على سطح الأرض، فإنه بالتأكيد لا يشبه وعينا اليوم، ربما كان ذاك الوعي مقفرا وغير قادر على التعرف على كيانات محددة، أو لعله كان عرضيا، أي أنه ينشط في بعض المواقف ثم يعود إلى خموله في مواقف أخرى، وقد تكون قدراته محدودة قائمة على مشاعر بسيطة نابعة من تصنيف الأشياء إلى “سيئة” و”جيدة”.

 

عندما وصل الراهب إلى الحائط حيث جلست أستريح، انطلق الدبور محلِّقا بعيدا تجاه الشمس إلى أن اختفى، وكأنه ذاب بداخلها وأصبحا كيانا واحدا. كان الراهب يرتدي قناعا أبيض مثل القناع الذي يرتديه بعض الجاينيين حتى لا تنسل الحشرات والمخلوقات الصغيرة الأخرى إلى أنفه. أومأت إليه وهو يمر أمامي كنوع من التحية، ثم أسندت ظهري إلى الحجارة الدافئة للجبل من جديد.

 

بدا الراهب كنقطة بيضاء بعيدة تظهر فوق الجبل، بعدها قفزت من على الحائط وواصلت التسلق، وسرعان ما شعرت بتصلب في ساقيّ بعد تلك الاستراحة. وصلت أخيرا إلى مدخل المعبد ولم يتبقَّ أمامي سوى ربع ساعة قبل بدء الطقوس، لفت انتباهي ساحة الفناء الرخامية التي تتلألأ بلون رخام ناصع البياض، وكأن الشمس فوق الجبال صبغتها.

 

ولجت إلى الداخل، وكان أول ما قابلني هو صَفّا من الميداليات الذهبية الأنيقة. ثم انتقلت إلى الغرفة الداخلية للمعبد حيث ومضت عشرات الشموع المعلقة على حواف جدارية منحوتة نحتا معقدا في الحائط. وحينما نظرت للأعلى، وجدت السقف الحجري منحوتا على شكل زهرة اللوتس، التي ترمز بتلاتها الرقيقة إلى انبثاق الأرواح النقية من الأرض الموحلة.

 

جلس أربعون جايني على الأرض في صفوف مرتبة، مثبتين سيقانهم على وضع اللوتس. ارتدت النساء السواري الجديدة، وارتدى الرجال ملابس بيضاء بالكامل، لذا شعرت برغبة في الجلوس في مكان بعيد في الخلف. وبينما نجلس، وجدنا أمامنا مباشرة مساحة مظلمة تشبه النفق، تصطف على جانبيها مجموعتان من الأعمدة. في نهاية النفق، أنار ضوء الشموع تمثالا رخاميا أسود لرجل في وضعية الجلوس، وصدره مرصعا بالأحجار الكريمة، في حين بدت عيناه هائمة في الفضاء المظلم، باعثة فيّ شعورا بالتنويم المغناطيسي. قطع علي هذه اللحظة رجلٌ جلس بجواري وجذبني من قميصي مشيرا برأسه إلى التمثال وهو يردد: “نميناث”.

 

يُقال إن نميناث حقق حالة من الوعي الكامل في هذا الجبل، وتمكن من الوصول إلى إدراك الكون بأسره، بما في ذلك ما يجول بعقول الحيوانات. يعتقد الجاينيون أن البشر مميزون؛ لأننا في حالتنا الطبيعية أقرب إلى هذه التجربة التنويرية، إذ لا توجد مخلوقات على وجه الأرض يمكنها بسهولة إدراك وعي كائنات أخرى سوانا.

 

بدأ الحجاج بالغناء الذي اتخذ شكل همهمة منخفضة في البداية، ثم ارتفع فيما بعد، وبدؤوا بضرب الطبول بالمطارق، في الوقت نفسه الذي كان يؤدي فيه البعض طقوسهم عند النفق أمام التمثال. ارتفع صوت الغناء حتى وصل إلى درجة النشوة، ثم فجأة توقف كل شيء، هدأت الطبول والأجراس، وخيّم الصمت على المكان إلا من صدى صوتٍ لهذه الآلات تردد خارج المعبد. عندما تركت المعبد في النهاية، تساءلت عما إذا كان هذا المكان سيصبح شيئا آخر أكثر من كونه مجرد مكان عبادة لأتباع الديانة الجاينية. من يعلم؟! ربما سيصبح مكانا للاحتفال بتخليد لحظة تاريخية نستيقظ فيها من وهم الاعتقاد بأننا الكائنات الوحيدة في الوجود التي تملك وعيا.

————————————————————————-

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر: وكالات الكترونية

 

شاهد أيضاً

ابراج اليوم توقعات اسرار الابراج: #يسعد_اوقاتكم_بكل_خير #توقعات_الابراج_ليوم_الثلاثاء_والله_اعلم

  مواليد اليوم الثلاثاء 23 نيسان ابريل من برج الثور. مواليد اليوم من برج الثور …