بديعة مصابني.. من عميدة الرقص ومُطْلِقة النجوم إلى صاحبة محل للألبان والأجبان!!!

زياد سامي عيتاني
إعلامي وباحث في التراث الشعبي


بديعة مصابني عميدة الرقص الشرقي) ذكرى رحيليها ٢٤ تموز ١٩٧٤)، تزعمت وتسيدت المسرح الإستعراضي طوال مدة ٣٠ عاماً، دون منازع، وكان “الكازينو” الذي حمل إسمها زاخراً بالفنانين، ومنصة لإطلاق كبار النجوم، وقبلة للأثرياء وصفوة المجتمع.
وإستطاعت بديعة مصابني التي كانت في زمانها ألمع نجوم الفن، والفنانة الإستعراضية الأولى، خلال تلك الفترة أن تجمع ثروة طائلة، عندما عرفت العز والجاه، بعد أن عانت طفولة مؤلمة، مستفيدة من الحياة الفنية في مصر بدايات القرن الماضي، حيث كان شارع “عماد الدين” مكان صالتها يموج بالعديد من الفرق المسرحية، وبصالات الرقص التي تديرها أجنبيات ومصريات، فعمدت إلى إفتتاح أكبر “كازينو” في المنطقة مكان سينما “ليدو” أطلقت عليه إسم “كازينو بديعة”….


وكانت بديعة إنعكاساً صادقاً للعصر الذي عاشت فيه، فحياتها لا تخلو من الرقص والخمور، وكانت تعتبر فاتنة وخارقة الجمال وخاطفة القلوب، مما أتاح لها أن تنسج شبكة علاقات واسعة مع النافذين، جعل منها ذات كلمة مسموعة.
وتمكنت بديعة من خلال صالتها أن تخرج كثيراً من الفنانين، إذ كانت فرقتها أشبه بمدرسة تخرج منها عدد كبير من نجوم الفن الغنائي والمسرحي والسنمائي والإستعراضي، ممن لمعت أسماؤهم في مجال الفن.****
•طفولة مؤلمة وحادثة إغتصاب:
ولدت بديعة العام ١٨٩٢ في لبنان من أب لبناني وأم سورية، وعاشت طفولة حافلة بالأحداث الأليمة، إذ كان والدها يمتلك مصنعاً للصابون في سوريا، وسرعان ما تغيرت أحواله المادية بعد حريق المصنع. وعقب وفاة الوالد، إضطر أخوها للعمل في إحدى الحانات.


وفي السابعة من عمرها تعرضت لحادث إغتصاب على يد صاحب الحانة، التي كان يعمل فيها أخوها، كان له آثار عميق على حالتها النفسية.
أما في الثامنة سافرت بديعة مع والدتها وإخوتها إلى أمريكا الجنوبية، بعد أن رهنت الأم المنزل لتوفير نفقات السفر، وعاشت هناك ٧ سنوات، وإلتحقت بمدرسة داخلية تعلمت فيها العديد من الفنون واللغات، إذ اكتشفت الراهبات موهبتها في الغناء والتمثيل والرقص الإيقاعي، وفن الإلقاء فلعبت أدواراً عدة على خشبة مسرح المدرسة.

•البداية صدفة مع جورج أبيض دون أجر :
في العام١٩١٩، قررت الأم المجيء إلى مصر مع إبنتها لتعيش مع خالها، الذي كان يسكن بجوار مسرح حديقة “الأزبكية”، حيث يعمل الفنان اللبناني جورج أبيض، وبينما كانت بديعة تتنزه فى الحديقة، تعرفت إلى المؤلف فؤاد سليم، الذي فتح لها أبواب الفن عندما رأى فيها مقومات الفنانة المسرحية. وبدأت عملها الفني مع جورج أبيض لمدة ثلاثة أشهر بدون أجْر.
ومنذ اليوم الأول الذي عملت فيه برزت كفنانة وراقصة تجذب قلوب الرجال وأنظارهم، فقد كانت ذات مواهب متعددة في الرقص والغناء والتمثيل، وكان من بين نجوم الفن آنذاك الشيخ أحمد الشامي، الذي كان يبحث عن بطلة تتمتع بتلك المواهب المتعددة.
لما سمع الشامي عن بديعة سعى إليها ليضمها إلى فرقته ويسند إليها أدوار البطولة مقابل راتب شهري كبير.
وعندما إلتحقت بفرقة الشيخ أحمد الشامي في عام ١٩١٣ بمرتب شهري قدره ٦ جنيهات، قامت بتمثيل مسرحيات: “عواطف البنين”، “الإبن الخارق للطبيعة”، و”عائدة”.
بعد ذلك إنتقلت للعمل بفرقة (جامعة الفنون الجميلة) عام ١٩١٧، حيث شاركت في بطولة مسرحيتي: “الشريط الأحمر”، و”إبليس في الجنة”، لتنتقل عام ١٩١٩ إلى (تياترو الشانزليزيه) حيث كانت تؤدي بعض الأغاني، بجانب تمثيل محمد كمال المصري “شرفنطح.”



الزواج من نجيب الريحاني والشهرة:
في هذا الوقت تم اللقاء بين بديعة ونجيب الريحاني، ولأن بديعة، كانت ترقص وتغني وتمثل، وتضفي جاذبية، قرر الريحاني التعاون معها بعمل مشترك وأعدّ لها مع بديع خيري مسرحية “الليالي الملاح” التي نجحت فنياً وجماهيرياً، وأسهمت في تعريف الجمهور ببديعة مصابني، مما أتاح لها تأدية
دور البطولة لاحقاً في مسرحيات عدّة من خلال فرقة نجيب الريحاني.
وبعد نجاحهما الفني، إتفقا على الزواج، بعد أن أحب كل منهما الآخر. وعلى رغم ذلك الحب، إلا أن الحياة بينهما لم يقدر لها الاستمرار لاختلاف طباعهما، لذا قررا الانفصال، وفعلاً انفصلت بديعة عن الريحاني، لتؤسس بعد ذلك مسرحاً إستعراضياً لها.

إفتتاح “كازينو بديعة” وتطوير الرقص الشرقي:
بعد طلاقها، قررت بديعة مصابني عدم العودة للتمثيل، فقامت بشراء صالة “عماد الدين” بخمسة آلاف جنيه، ليصبح المبنى معروفاً ب”كازينو بديعة”، حيث قدمت فيه عروض راقصة وغنائية بالصاجات، والعديد من الأغاني التي تحمل روح الخفة، إلى جانب أداء أغاني التخت الشرقي، حتى كونت فرقة إستعراضية تضم أكثر من ٥٠ شاباً وفتاة.
وقد لمع نجم بديعة حينذاك، ليصبح “كازينو بديعة” أشهر “كازينو” في مصر، لا سيما وأنها لعبت دوراً ريادياً في تطوير مفهوم الرقص الشرقى، فأدخلت عليه بعض الحركات الإسبانية والتركية، لتكوّن مزيجاً مختلفاً في فنون الرقص، إلى جانب رقصة الشمعدان، التي لاقت رواجاً كبيراً. يذكر أن بديعة تأثرت كثيراً بالثقافة الغربية، إذ كانت تسافر كل عام إلى أمريكا لتتعرف إلى أنماط الفنون الغربية وكيفية تقديها بشكل جديد في “الكازينو”، إلى جانب شراء ديكورات وملابس متنوعة، لتضفي على فرقتها روح الإبهار على خشبة المسرح.

•مكتشفة المواهب ومطلقة النجوم:
كانت بديعة تمتلك قدرك على إكتشاف المواهب وتعرف قيمتها جيداً، حتى أصبح “كازينو بديعة” مدرسة تخرج فيها العديد من الفنانين، أبرزهم: “محمد عبدالمطلب، محمد فوزي، محمود الشريف، عبدالغني السيد، شكوكو، إسماعيل ياسين، سامية جمال، تحية كاريوكا، أبو السعود الإبياري، عزت الجاهلي، فريد الأطرش، وآخرون”…


الكازينو مكان ترفيه للإنكليز:
وخلال هذه الفترة تمكنت بديعة مصابني تكوين ثروة هائلة، خصوصاً بعدما إندلعت الحرب العالمية الثانية، ليتحول الكازينو إلى أداة للترفيه عن الجنود الإنجليز، الذين يخوضون حرباً ضد الألمان، حيث وصل “الكازينو” إلى قمة المجد والنجاح من الرقص والغناء والاستعراضات، بدلاً من تقديم المسرحيات.

•الضرائب ومغادرة النجوم وبداية النهاية:
أدت ظروف الحرب وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي بالتوازي مع صعود السينما، إلى أفول نجم الكازينو، حيث حاولت بعد انتهاء الحرب، إستعادة مجدها، إلا أن معظم المواهب التي رعتها، كانت قد ذهبت وإنخرطت في مجال السينما، وبذلك خسر مسرحها الإستعراضي بعدم عودة هؤلاء النجوم إليها.
وبالتزامن مع ذلك، بدأت الضرائب تطالبها بديون قديمة لم تسددها، كما بدأت تضيق عليها الخناق، وتهددها بالحجز والبيع، لتصبح بديعة مصابني التي كانت ملكة الليل، في مأزق شديد وحرج. الأمر الذي دفعها مرغمة إلى جمع ثروتها والهروب إلى بلدها لبنان.

الهروب خلسة إلى لبنان وفتح متجر الألبان:
وبالفعل هربت بديعة عام ١٩٥٠مع ثروتها، مع طيار إنكليزي متخفية بلباس راهبة وإستقلت الطائرة التي كانت رابضة في ميناء “روض الفرج” الجوي قبل إلغائه، بجواز سفر مزور لإحدى الأجنبيات، وكانت صورة السيدة وملامحها قريبة من ملامحها.
وقد دخلت إلى لبنان عن طريق سورية واستقرت في مدينة شتورة وأسست متجرها التجاري العام ١٩٥٢ في شتورة لبيع الألبان والأجبان، الذي أضفى على المنطقة نكهة مميزة، وتمتع بشهرة كبيرة، حيث كان محطة لا بد منها لعابري الطريق الدولية لتناول “عروسة اللبنة”، كما بنت أيضاً منزلها المعروف اليوم في لبنان بفيلا «عقل» لكنه هُدم وجرف.
أمضت بديعة مصابني ٢٣ عاماً في شتورة قبل أن تودّع الحياة الصاخبة في ٤٢ تموز ١٩٧٤، وبقي متجرها في شتورة (قبل إقفاله منذ بضع سنوات) يقصده كثيرون ليتذكروا هذه السيدة التي كانت لها صولات وجولات في ما مضى بالقاهرة مع الرقص.


شاهد أيضاً

أفرام: “اقتراح قانون مع زملاء لتأمين تغطية صحية واستشفائية فعلية ولائقة للأجراء من خلال إتاحة خيار التأمين الخاص”

كتب رئيس المجلس التنفيذي لـ”مشروع وطن الإنسان” النائب نعمة افرام على منصة “أكس”: “نظراً للآثار …