“ثورة ضد الاستحمام”.. هل يستحم الإنسان المعاصر أكثر مما ينبغي؟

منذ اللحظة التي يخرج فيها الإنسان من رحم أمه وهو لا يزال يتحسس هذا العالم الجديد من حوله، بجسد هش مغطى بالمخاط والدم، يُجبَر على الاستحمام قبل حتى أن يقابل أمه، وحتى في اللحظة التي يموت فيها الإنسان يُغسَّل بالماء قبل أن يُوسَّد التراب. وبين الحياة والموت، تتشكل علاقة وطيدة بين بني البشر وبين نشاط الاستحمام، حيث يعتبره البعض طقسا صباحيا منعشا يساعده على بدء يومه، ويعتبره آخرون نوعا من الوجاهة الاجتماعية، حتى إن المصريين يطلقون على الشخص المهندم على غير عادته لقب “مستحمّي”، وبالطبع يعتبر معظم الناس الاستحمام أهم طقوس النظافة الشخصية، بينما توجد فئة أخيرة اختارت طواعية أن تقطع علاقتها بالاستحمام نهائيا لأسباب متباينة.

 

الاستحمام ما قبل التاريخ

لا نعرف تحديدا متى بدأ البشر الاهتمام بالنظافة والاستحمام بالمياه لإزالة الأوساخ عن الجسم، ولكن ربما يعود الأمر لأكثر من 60 ألف عام مضت، حينما كان ابن عم البشر، إنسان النياندرتال، لا يزال على قيد الحياة ويجوب الأرض برفقة الإنسان المعاصر. في عام 2015، وجد مجموعة من العلماء الإسبانيين بالمعهد الكتالوني لعلم البيئة البشرية القديمة والتطور الاجتماعي ما يعتقدون أنه دليل على أن إنسان النياندرتال لم يكن مجرد كائن بدائي مغبر الشعر محنيّ الظهر يتحرك في بلاهة، ولكن بالإضافة للأدلة السابقة التي رجحت أنه صنع الأدوات البدائية والمجوهرات ودفن موتاه، تشير الأدلة الجديدة أيضا إلى أنه اهتم بنظافته ومارس الاستجمام بالماء الساخن داخل الكهف بعد يوم طويل من الصيد.

داخل أحد الكهوف في منطقة “ذا أبريك روماني (The Abric Romaní)” الإسبانية، والتي تترجم حرفيا إلى “معطف الغجر” باللغة الكتالونية، وجد العلماء كنوزا عديدة تفتح نافذة على حياة إنسان النياندرتال وكيف كان يعيش قبل مئات القرون من الآن. من ضمن ما وجدوه كان حفرة قرب الجدار الداخلي للكهف، محاطة بما يشبه بقايا موقد، لم يكن حجم الحفرة كبيرا بما يكفي لتكون حوض استحمام فاخرا، لكنه كان على الأقل كافيا لملئه ببعض الماء، فيستطيع الفرد منهم غمر أجزاء جسده بالحوض، كل على حدة. يعني هذا أن النياندرتال كانوا يمتلكون ما هو أكثر من مجرد حياة وحشية خالية من مظاهر التحضر(1).

هذا ما نعرفه تقريبا قبل التاريخ المسجل الذي بدأ قبل 5000 عام فقط، حيث كانت الأنهار والشلالات تعمل -ربما- بديلا طبيعيا خلابا للمغطس و”الدُش” اللذين نستخدمهما في عالمنا المعاصر. أما في التاريخ المسجل، تحديدا بين عامي 3300-1300 قبل الميلاد، ازدهرت حضارة وادي السند في ما يعرف اليوم بباكستان، وينسب إليهم اختراع أول مغطس عمومي للاستحمام، المعروف باسم حمام موهينجو دارو الكبير (Great Bath of Mohenjo-daro) الذي لا تزال بقاياه موجودة حتى اليوم. تبعتهم الحضارة الفرعونية القديمة التي كانت تهتم بشدة بالاستحمام والنظافة والتعطر، بوصفها وسيلة للتقرب إلى الآلهة، ثم جاءت الحضارة الإغريقية باختراع أول “دُش” في العالم، حيث تندفع المياه من ماسورة أعلى الرأس لتنساب المياه على الجسد كله، وذلك بين عامي 500-300 قبل الميلاد(2).

 

حمام موهينجو دارو الكبير

أن تكون أنظف من اللازم

ولكن مع اكتشاف الجراثيم وأهمية غسل اليدين والنظافة بصفة عامة في نهايات القرن التاسع عشر، أصبح الاستحمام طقسا أساسيا للمواطن العادي في الكثير من دول العالم، ومع تطور أساليب السباكة والتكنولوجيا المستخدمة في صناعة الحمامات وصولا إلى الشكل الحالي للدش الذي يمنحك ماء دافئا في خطوة واحدة، أو المغطس الذي تغمر جسدك فيه لتسترخي بعد يوم شاق، أصبح الاستحمام بصفة يومية عادة لدى العديد من شعوب العالم، وسمة أساسية للشخص المهندم الراقي. أما إن كان الاستحمام يوميا ضرورية مجتمعية تفرضها علينا الحياة المعاصرة أم مجرد تفضيل شخصي، فلا أحد يعرف الحقيقة، ناهيك بتأثير إعلانات الصابون والشامبو التي ترغب ببيع المزيد والمزيد من العبوات عن طريق دفعك لاستهلاكها كل يوم(3).

لا شك أن الاستحمام في حد ذاته يجلب العديد من الفوائد، ربما يكون أهمها أنك لن تنفر الناس من حولك بسبب رائحتك، كما أنه يعطي إحساسا بالانتعاش أو الاسترخاء تبعا لدرجة حرارة الماء الذي تستخدمه، ويحافظ على جسدك نظيفا، ولكن هل سألت نفسك يوما إن كنت ربما تستحم أكثر مما يجب؟ هل هناك ما يسمى استحماما زائدا عن الحاجة من الأساس؟

 

يبدو أن الأمر كذلك، فرغم فوائد الاستحمام التي قد تبدو بديهية، فإن المبالغة فيه تعرض البشرة للجفاف، كما أنها تنزع عنها الطبقة الواقية وتجعلها تتشقق، ما يُعرّضها للإصابة بالعدوى، هذا بجانب الآثار السلبية للزيوت والعطور المضافة لمنتجات الاستحمام والتي قد ينتج عنها المزيد من الجفاف وحساسية الجلد وتقصف الشعر، وربما بعض الأمراض مثل الإكزيما أو الصدفية.

 

الأمر الآخر هو أن الصابون المضاد للبكتيريا كما يقتل البكتيريا الضارة، فإنه يقتل أيضا البكتيريا التكافلية النافعة التي تعيش على الجلد في أمان، بل وتُسهم أحيانا في الدفاع عن الجسم ضد البكتيريا المسببة للأمراض. يُخِلّ غياب البكتيريا النافعة بتوازن هذه العملية، ويسمح بازدهار سلالات أكثر شراسة من البكتيريا الضارة، ما يتسبب في كارثة أخرى، هي مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية. بالإضافة إلى كل هذا، فإن التعقيم المبالغ فيه يحرم جهازك المناعي من التعرض لمستويات منخفضة من الميكروبات والأتربة التي يحتاجها الجسم لبناء الذاكرة المناعية التي ستحميك في المرة القادمة التي تتعرض فيها للميكروب نفسه، لذا فالاستحمام بكثرة قد يُفقد جهازك المناعي قدرته على أداء وظيفته تلك كما يجب(4).

ميكروبات صديقة

تشكل الميكروبات التي تعيش على جلد الإنسان ما يسمى “بميكروبيوم الجلد (Skin microbiome)”، والذي يرتبط بميكروبيوم الأمعاء (Gut microbiome)، ويشكلان معا محورا يرتبط بالمخ مباشرة يسمى محور الأمعاء-الدماغ-الجلد (Gut-Brain-Skin Axis). تتجلى أهمية هذا المحور الفريد في العلاقة المتشابكة التي تربط الأمراض الجلدية بالأمراض النفسية وأمراض الجهاز الهضمي. على سبيل المثال، فإن مرض الصدفية وهو مرض جلدي، قد يتسبب في حدوث الاكتئاب لدى المصابين به، وفي الوقت ذاته فإن الإصابة بالاكتئاب تزيد من سوء حالات الصدفية، في دائرة مفرغة لا تنتهي(5). بالمثل، فإن التوتر العصبي الذي يؤثر على الدماغ، يتسبب في حدوث تغيرات في ميكروبيوم الأمعاء، ونتيجة لذلك، تتأثر البشرة وتزيد فرص الإصابة بحب الشباب، الذي بدوره قد يزيد مستوى التوتر لدى المراهقين، ما يرفع من مستوى هرمونات التوتر التي تؤثر على الأمعاء، وهكذا(6).

 

إبان سعيهم للتأكد من أهمية ميكروبيوم الجلد في الحفاظ على الصحة، قام ديفيد ويتلوك بالتعاون مع زملائه في شركة (AOBiome) بإجراء دراسة باستخدام سلالة من البكتيريا تسمى “نيتروسوموناس إيوتروفا (Nitrosomonas eutropha)”، والتي تقوم بأكسدة الأمونيا، المادة التي يفرزها الجسم مع العرق. استلهم ديفيد ويتلوك الفكرة من الأحصنة التي تتدحرج في الطين، حيث تبين أنها تسعى وراء تلك البكتيريا المؤكسِدة للأمونيا، ما ألهم الباحثين إلى فصل هذه السلالة البكتيرية من الطين. وبحضور 24 متطوعا، قام نصفهم برش البكتيريا الحية على الوجه وفروة الرأس، بينما النصف الآخر قام برش مادة وهمية، لمدة أسبوع، وتم تقييم الجميع بعد أسبوعين(7).

 

أبلغ المشاركون الذين استخدموا البكتيريا الحقيقية عن تحسن ملحوظ في البشرة مقارنة بالعينة الأخرى، ورغم أن عينة البحث صغيرة، فإنها تلقي الضوء على هذا النطاق الواعد الذي يمكن تطويره أكثر مستقبلا. بيد أن ديفيد ويلتوك لم يتوقف، وأخذ الأمر إلى مستوى أعلى، حيث قام بتجربة البكتيريا على جسده شخصيا، وحينها توقف جسمه عن إصدار رائحة العرق.

 

من هنا بدأت شركة هذا الفريق الرائدة في مجال مستحضرات البشرة في إطلاق البكتيريا المعبأة في عبوة الرش ذات الاسم الموحي (Mother Dirt AO+ Mist) بهدف مساعدة الناس على استعادة البكتيريا المنتجة للأمونيا والتي فقدناها بسبب الإسراف في الاستحمام بالصابون، وتباع العبوة الواحدة منها بـ70 دولارا أميركيا. لم يكن هذا هو المنتج الوحيد من نوعه، حيث يبدو أن سوق المنتجات الحيوية الداعمة للبشرة في ازدياد مطرد، حيث زاد بنسبة 300% خلال 4 سنوات فحسب(8).

لا للاستحمام

على صعيد آخر، هناك من يغرد خارج السرب تماما، وبدلا من الاستحمام بانتظام بدون مبالغة، قرر التوقف عن الاستحمام نهائيا، مع الاكتفاء بتنظيف أجزاء الجسم التي تتسخ فقط إذا استدعى الأمر. لا نتحدث عنها عن أشخاص عاديين مثلي ومثلك فحسب، بل إن بعض المشاهير أعلنوا صراحة أنهم لا يستحمون مطلقا، مثل الممثلين المحبوبين أشتون كوتشر وميلا كونيس، وحتى الممثل الأميركي جيك جيلينهال الذي زعم في حواره مع مجلة فانيتي فير أن أجسامنا تستطيع تنظيف نفسها بنفسها، وهو أمر غير صحيح بالطبع(9).

 

أما عن الأسباب الصحيحة والحقيقية وراء الاتجاه الجديد نسبيا للاستغناء عن الاستحمام كليا، فيمكن تلخيصها في ثلاثة محاور: الحفاظ على صحة الجلد، والتوفير في استهلاك المياه، وأخيرا توفير نفقات شراء مستحضرات الاستحمام.

 

لتجربة الأمر على أرض الواقع، قام “د.جيمس هامبلين”، طبيب الصحة العامة والمحرر العلمي، بالامتناع عن الاستحمام لفترة من الوقت، ووثق نتائج تجربته في مقال طويل نُشر في جريدة ذا أتلانتيك (The Atlantic) عام 2016. يشير جيمس إلى أن أحد الأسباب التي دفعته لذلك أنه عليك، بعد أن تنزع كل الزيوت الطبيعية من على جلدك باستخدام صابون الاستحمام أو اللوفة (الليفة)، أن تعيد الترطيب لجلدك من جديد باستخدام الزيوت وكريمات الترطيب التي لا حصر لها، وهي مهمة بدت -من وجهة نظره- عبثية بعض الشيء، ومكلفة أيضا(10).

 

مع استمراره في التجربة، وجد جيمس بعد فترة من الوقت أن جسده توقف عن إصدار رائحة العرق؛ لأنه منح جلده الفرصة ليستعيد التوازن الطبيعي بين البكتيريا المسببة لرائحة العرق وسلالات البكتيريا الأخرى التي تعيش على الجلد، يستثني من ذلك يديه، هذه تحديدا لا بد من غسلها بالصابون باستمرار للوقاية من الأمراض. لم يتوقف هنا، بل نشر كتابا مفصلا عن الأمر تحت عنوان “Clean: The New Science of Skin and the Beauty of Doing Less”.

قد يبدو هذا التوجه مثيرا ومغريا للغاية، لكنه لا يحصل على دعم كامل من أطباء الجلدية والمواطنين على حد سواء، كما صرّح العديد من المشاهير أنهم يستحمون يوميا، بل وعدة مرات في اليوم، مستنكرين أن هناك مشاهير آخرين يدعون لعدم الاستحمام.

 

يميل أطباء الجلدية في المجمل إلى روتين يتضمن الاستحمام مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا، على ألا تزيد المدة عن 3-5 دقائق فحسب، مع التركيز على المناطق الأكثر تعرضا للعرق، ما يحقق التوازن بين النظافة وترطيب الجلد ويمنع الجفاف. الأمر ذاته بالنسبة إلى غسل الشعر، فمن أجل الحفاظ على الزيوت الطبيعية التي تفرزها فروة الرأس، يجب الاعتدال في عدد مرات الغسل بالشامبو. بالطبع لا يوجد روتين واحد مناسب للجميع، فكما تختلف طبيعة أجسامنا ومدى ما تفرزه من عرق، تختلف أنماط حياتنا بين حياة نشيطة وأخرى متراخية، لذا عليك أن تجد الروتين المعتدل المناسب لحياتك أنت(11).

 

علينا أن نضع في الاعتبار أيضا أزمة المياه العالمية، خاصة في قارة أفريقيا المهددة بالجفاف بالفعل. بحسب وكالة حماية البيئة الأميركية، يستهلك الفرد في المتوسط 9.4 لترا من المياه في الدقيقة الواحدة أثناء الاستحمام بالدُش، هذا يعني أنك تستهلك 47.3 لترا إذا كنت تستغرق 5 دقائق فقط لتستحم، ولكي تتخيل معي ما يعنيه هذا الرقم، عليك فقط أن تنظر إلى سخان المياه في حمامك، إن كانت سعته 50 لترا، فهذا يعني أنك تستهلك ما يحتويه خزان السخان كاملا في كل عملية استحمام(12). يزيد هذا الرقم أو ينقص حسب طول مدة الاستحمام ومعدل اندفاع المياه من مرشة الدُش، ولكنه يبقى رقما مخيفا للغاية. هذه كمية مهولة من المياه للفرد الواحد، والأدهى أنك لا تدرك إطلاقا قدر المياه المهدرة أثناء استمتاعك بحمامك الدافئ.

 

كما يجري على لسان العرب أن خير الأمور أوسطها، فإن هذا المثل ينطبق على الاستحمام كذلك، بما أن كثيرهُ وقليلهُ يسبب المتاعب، فربما علينا فقط أن نختار روتينا مرنا للاستحمام، حسب طبيعة الجلد وتغير المواسم ونمط الحياة، وأن يقتصر الأمر على مرتين أو ثلاث أسبوعيا، بدون استخدام الصابون القاسي على البشرة أو المبالغة في استخدام اللوفة لدعك الجسم. أو ربما عليك -لو كنت تمتلك بعض الجرأة والمال بالقطع- أن تستبدل عبوة مزيل العرق الخاصة بك بإحدى عبوات البكتيريا المؤكسدة للأمونيا، وبهذا يمكنك توفير نفقات شراء مستحضرات الاستحمام وفاتورة المياه في الوقت نفسه.

 

 

 

شاهد أيضاً

بعض الأنظِمَة “العربية” أكثرَ إخلاصاً للصهيونية العالمية من الأميركيين والأوروپيين، وغزة تهُز ضمير الشارع العالمي ولَم يَرِف جفن لمسؤول عربي،

كَتَبَ إسماعيل النجار هيَ الحكاية نفسها والسرَدِيَة ذاتها نقولها كل يوم ونُكَرُر حكايتها غَزَّة الجريحة …