قراءة في لغة الجسد للوحة الموناليزا – الجوكندة

للرسّام والنحّات العالمي ليوناردو دافنتشي
(1452 -1519)

بقلم الدكتورة بهية أحمد الطشم

“انّ الجسد هو آلة النفس” هي العبارة الذّهبية لابن سينا ,صاحب كتاب الاشارات والتنبيهات,والتي آثرنا الانطلاق من حناياها للامعان في تأملّ أشهر اللوحات العالمية على الاطلاق الموناليزا.

ولا غرو, فغالباً ما يسكب الرسّام احساسه تحت رأس ريشته في أيقونة تُحاكي الجمال بكل أبعاده,ذلك أنّ النفس هي مخزن الانفعالات الشّعورية والنفسية المتمظهرة في معالم حركات الجسد, والمعاني المنضوية في أبجدية اشاراته ,حيث تتلقّفها أنظار رسّام البورتريه وتترجمها ريشته بالخطوط والألوان.
فالرسّام ليس طَليق من ظروفه النفسية والاجتماعية بالاجمال لأنّه ابن تلك الظروف ,والتي غالباً ما تنعكس أبعادها كأبرز اسقاط نفسي- متسامي ,وكأهم عُقدة ايجابية للنفس الانفعالية وفقاً لترتيب رائد التحليل النفسي فرويد الذي صنفّ وجود 4 عُقد نفسية عند كل انسان وتتفاوت بشكل نسبي وتتمظهر في أحلام النوم,أحلام اليقظة,االغضب,والتسامي:, وفي العقدة الأخيرة(التسامي) يتجلى الابداع عند المبدع سواء الرسّام أو الشاعرأو الفيلسوف.
واذا ما استقرأنا في الابداع الفائق للوحة الجوكندة بريشة الرسّام الايطالي دافنتشي رائد المدرسة الفنية الكلاسيكية,الذي عاش ابّان عصر النهضة, فنلتمس فكراً ثاقباً وفناً عملاقاً يُحاكي عالم المفارقات على مرور الارهاصات الزمنية.

ذلك أنّ اللوحة المُفارٍقة التي نحن بصددها تنطوي على قيمة أيقونيّة لرجل صنعها بفضوله النّهم وخياله المُغرم بالابتكار.
وهو الذي عاش في ربوع قرية مطلّة على نهر أورنو,حيث تأثّر بانسيابيّة النهر وعذوبته,وفي الآن عينه ,كان شديد التأثّر بوالدته,حيث عاش في كنفها لفترة يسيرة من الزمن,لأن والده كان مهووساً بالزواج المتكرر وبتعدد الزوجات.
لقد بدأ دافنتشي برسم اللوحة في عام 1505 في ايطاليا,وأنهاها في فرنسا ,وكان قد رسمها على قطعة خشبية ,وتجدر الاشارة الى أنّ كلمة مونا هي ايطالية وتعني سيدة ,فالموناليزا هي السيّدة ليزا,وكان الرسّام قد رسمها نزولاً عند رغبة طلب زوج السيدة ليزا وهو فرانشيسكو ديل جوكندة ليقدّمها كهدية لزوجته,وهذه الهدية الفنية ما زالت موجودة في متحف اللوفر وتحقق ملايين المشاهدات حتى الراهن المعيوش.
وفي سياق استقراء تحليلي للغة الجسد حِيال أبرزمعالم الأيقونة النادرة, والتي تنطوي على أسرار عظيمة,تُلفت انتباهنا العيون والتي يُخيّل الينا ولكل من يتأمّلها بأّنّ نظراتها شاخصة الينا بطريقة مباشرة دونما فواصل البتّة ,حيث تعكس شخصية مركّبة ذات أبعاد سيكولوجية جمّة.
ولعلّنا نستذكر بهذا الصّدد قول لأرسطو صانع علم المنطق :” العيون هي أقوى الحواس واصدقها وأكثرها اكتشافاً للفوارق.”
ولا غرابة,فالعيون هي مرآة النفس ونافذة على الروح الجائبة في اختلاف المواقف وتباينها,وفي الاطار عينه ,تبرز ابتسامة “ليزا” نجمة الأيقونة التي حيّرت علماء النفس وبخاصّة سيغموند فرويد رائد التحليل النفسي ,وأيضاً حيّرت أبرز أساتذة جامعة هارفرد.
اذاً,تجلس امرأة اللوحة على كرسي ثابتة بثقة بالغة ,وذراعيها مغلقتين ونظرتها ثابتة على المُراقب,وتشير هذه الحركة لليدين المتعانقتين الى المسافة الفاصلة مع الآخر,أو أنّها الفاصل الرمزي من نجمة الأيقونة ازاء الرسّام ابّان ديناميّة ممارسة فن الرسم .

وتنمّ وضعية الجلوس للمرأة عن ثقة فائقة بالنفس تتجلّى في استقامة الجلوس والجبين الفتّان ,وكذلك سِمات الوجه المقسوم الى نصفين متعادلين,والذي لا يتوسّط اللوحة ,لكن يميل قليلاً الى جهة اليسار,مع الاشارة الى أن دافنتشي قد استخدم هذه التقنية الفنية لابراز الوجه مباشرةً الى المشاهد,ممّا أعطاه تأثيراً أكبر.
وكذلك تبرز الجبال الجميلة الشامخة في الخلفية بمُحاذاة الكتف الأيسر لمونا (أمرأة اللوحة),ويطغى بمحاذاة الكتف الايمن منظر جسر جميل ,وأيضاً الطريق المؤديّة الى البحر ,ولعلّ المزج بين الجبل والبحر في هذه الأيقونة يُضفي عليها ألَقاً أسطورياً واستثنائياً.
وفي اطار استقراء فلسفة الالوان الدافئة التي تزدان بها اللوحة….فقد عكست بدفئها التناغم بين العمل الفني وصاحب الريشة ,اذ أمسك بزمام الحِس الأنثوي الطافح من حنايا الأيقونة سيّما في تداخل الألوان والظلال والخطوط الفنية في هندسة فنيّة بهيّة,لتترك قدرة تأثيرية بصرية بالغة وباهرة عند المتأمّل.

وفي الخلاصة, ما أجمل التماس الخلود في اللحظات الاستثنائية التي تسري ابّان نبض الزّمان, فلكلّ أيقونة حكاية….وحكاية الموناليزا تُوجِز ابداعاً مُفارِقاً يتحدى النسيان!

شاهد أيضاً

ضاهر:” تمنى على الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة وقف السجالات العدائية “

تمنّى النائب ميشال ضاهر على “الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة”، وقف “السجالات العدائيّة في ما بينها، وإيلاء …