أوراقٌ بلا ضوء ..

 

أحمد وهبي ..

ليست تلك الأوراق خارج الجاذبية، وقد أسندَ حِبرُها لجدران وزوايا الدِرج، وانصرفَ كاتبُها لأوراقٍ أخرى، سوف تلقى نفس المصير.
في مكانه، أزمنةٌ استحضرَها من غيابات التاريخ، ولأنّهُ يحفرُ هوُيَّتَهُ، تفتح عليه أعراق الأوائل واللواحق، يحارُ فيها، عنها يكتشف أجزاءَهُ؛ فلا يرتاح لفكرةٍ ورأي، ثمّ يفتعل تمزيقها، حتّى يصيرَ كأنّما بلا أصلٍ وفصل، لاعناً شجرةَ الأحساب والأنساب، مُعيداً، مكرّراً، ما لي وهذي الحكايات الغريبة، أوَ لسنا .. جموع البشرية من آدمَ وحواء ..!!؟
*
بعد فترةٍ وجيزة، تعودُهُ أفكارُهُ، حيث أودَعَها أوراقهُ، طبيعتها، تختلف من وقتٍ لآخر. يعانقُ فيها صديقه الذي غاب، يبكيه حتّى يطلعَ الضوء، ثم ليلٌ آخر، وبعض أفكارٍ يورايها في كأس ليله؛ فلا يسكن له ظمأْ، يتابع فوق صهوِ خياله رحلاته، ويكون، كلّما عاد ممتلئَ الحكايا، بِحِفظِها هنا بخطّ يدي، أتُراهُ نالَ منّي، يا للهول إن فعَل ..!!
*
هو حنينٌ أزليٌّ يسكنُهُ، لا عِتقَ عنه، فختمتُ الصفحةَ بكلمةٍ مُشفّرة، وذهبتُ لعملٍ آخر، نسيتُ ما كان، لكنّ شيطانَهُ، أخرجني عن صوابي، فرُحتُ أهذي بتلك الذكريات، وقام ما بيني وبين كثيرين كلامٌ وحوارٌ، وجوهٌ لستُ أدريها .. كيف حضرَتْ، ومن أين، وأقول لا أجهلها؛ فتزداد المسألة تعقيداً، عنيداً أقمع استنطاقَهُ لي، وقد تجاوزَ حدودَه، وقد تجاوزتُ عقودي .. شاغلاً نفسي بعالم الكتابة، كلّما أفعل، يطلعُ عليَّ بخُرافاته، وقد قرأت الألياذة .. هوميروس وغلغامش، نيرون، الماديات، المعلّقات، كربلاء والثورات، عن شعوبٍ بلا ماء .. وهي عند ضفافه بكلّ أربابها وأسبابها، بلا إضاءة .. وهي تلعب فوق آبار النفط، بلا قمحٍ .. ولها السُّهوب أربع رياح المعمورة، بلا أمرٍ قبضتُ على عُنقِهِ تلك الليلة، ودفعتُهُ في دُرجٍ من أدراجي الصفراء ..
*
أعرفُ، يظلُّ يتسلّلُ، كأنّي لا أعلم. أعرف كم هو ماكر، يأبى أن يعودَ بخفيْ حُنَيْن، أدّعي أناةً، ربّما بسبب تأثير المهدّئات، لا بأسَ أقول، وأنظر في المرآة، لعلّي أطّلع على أسبابٍ أخرى؛ فأعود خائب الوفاض، ولستُ مقطوعَ الرجاء، فكلّ العبادات ومشتقّاتها صارت مُعلّبة، فمن لم يصُمْ، لم يُصلِّ، لم يدعٌ ويَزُر ويحِجّ، كلّه موجودٌ وجاهزٌ بثمنه.
نعم، أفكارٌ مريحة، عملية، وتطوّرٌ مدهش في الإفتاء، ولا أفتي. فأشرتُ عليه أن نخوضَ في غير حديث، كما درَجْنا عليه والعادة .. في ما أكتب.
أشاحَ بوجهه عنّي، حين حانت منّي التفاتةٌ لزهرةٍ تتفتُحُ للتوِّ من كلمة حُبّ، وأدار لي ظهرَهُ مبتعداً، ماذا .. أندهُ عليه، أسمعُهُ يهمهم ببضع كلماتٍ همايونية، أو ثورة مليونية، أنعمتُ النظرَ وأمعنت، كنّا اثنين على سفرِ اليدين، تحملنا الكلمات ..!!
*
هي كلمات، ابنة الحياة، لا تعترف بالموت، تشدّنا معاً إلى جمالها وحبائلها، لا يرتاح صاحبي، يُجهِدُني وقلمي، مِدادٌ أرجوانٌ يحثُّ على الغَرْفِ من فيوضاته. أرومُ غير ملاذ، وهي ملاذي. كمن ينهض ثمِلاً من أرشيفٍ بعيدٍ قديم، وقد اعتقدتُ نسياناً، لكن، لا نسيانَ للذاكرة،  هي كما الدّنيا تُلاعبنا؛ فلا أبرحُ اندمالَ الجراح، أهيلُ عليها ما لا يجعلها تلتئم. ولمرّةٍ على مائدةِ القلب، انقلبت مجرّاتٌ بألوانها، وبحورٌ في الدِنان، وألسِنةُ شموعٍ تتراقص، ونفثات سيجارٍ أخذتُهُ بعد شِجارٍ مضطربِ الكلمات، مضرم اللكمات.
كان، كيف سكن عنّي، وعلى يدي مذاق فودكا روسية، على يده مذاق جِنْ، فانهمر مٍدادُ السّماءِ نبيذاً من تلك الجِنان، وملائكُ حملوا لي عسلاً مُصَفّى، ولبناً خالصِاً، وسلالَ فواكه من عنبٍ ورُمانٍ وتين.
ونحن في موسم قطاف الزيتون، شجرةٌ، وجدتها أمامي، كنتُ رسمتها في دفتري الطفوليّ، تبادلنا التحايا، لا أحدَ يدري عن أمرنا شيئاً، وإلّا، لكَانتْ عتِبَتْ، ومحَتْ حرفيْ عاشقيْن. بعد أيامٍ في هاتي العزلة الرائعة، يشدّ بي الرِحالُ إلى مدينة العشق، معها قلبي، وقد أرهقَها الفاسدون، أُرهِفَ لها مشاعري، تعود وجعاً هائلاً في عقلي.
هو وجعي الأبديّ، أتبَيَّنُهُ في البطون الغرثى، في المعاقل، في القتل .. في الأفكار والأحلام والأيام والأعمار، في الشّمس، في القمر، في الأرض، في الأموات والأحياء، في التعبٌّدِ، في الفِتية، في القبائل والعشائر والعصبيات، في الأحزاب والشعارات، في الأديان، في أولي الأمر والطاعة، في هذا الصّمتِ المواتِ، لعلَّ يُسعِفَ النسيان  ..!!
*
وقلتُ هي دردشةٌ عابرة، وأصحو ليومي شاكراً حامداً.
فكان إن نهضتُ نهض، وإنْ .. وإنْ وإنْ، فلعنتُ وشتمتُ، ثمّ ضحكتُ من أمري، وعاجلتُهُ أستبِقُ الوقتَ، فحدّجني بنظرةِ عُقابٍ .. عِقابٍ، كأنّي ظِلُّهُ، وليس ظِلّي.
مَن ظِلُّ مَن .. ؟ خاطرةٌ صعقتني بقوّة ألف فولت، احترقتُ أم جمدتُ في وقتي، بيْنا رأيتُني عابراً أبعاداً ليست في دُنيانا، ونفسي تُحَدِّثني كيف ذلك ..؟ أهي تهيؤات، فرُحتُ أخبطُ بقدمٍ، هيهات، أضربُ على مهمهٍ ضبابيٍّ لا يحمل وزن ذبابةٍ أو ريشة، لولا معادلات الفيزياء، لهويتُ في قاعٍ بلا قرار، لذا، قرّرتُ إخضاع تجربتي لمعادلة عقلي، فكّرتُ مُغمِضاً عينيَّ، قاطعاً دهاليزَ الأنفاق الماورائية، كان ورائي طريقي المعتاد وطوابير السيارات تُطلق أبواقها بلا توقّف. نادرةً صارت المحروقات ومشتقّاتها.
وأنا في دهشتي، فرِحْتُ حين رأيتُهُ حاملاً لي غالونين بلغة العصر، الغالون أو المستوعَب ضرب عشرة ليتر لكلّ واحد، ولليل حديثٌ آخر ..

شاهد أيضاً

جهاز أمن مطار رفيق الحريري في بيروت يوقف طائرة تحمل عبارة “تل أبيب”

المديرية العامة للطيران المدني في لبنان تطلب من طائرة تابعة للخطوط الجوية الأثيوبية إزالة عبارة …