سياحة وجدانيَّة في لوحة د. شوقي دلال (المرقد الحسيني)

د. علي رفعت مهدي

لم أفاجأ باللوحة الفنية الرائعة التي شاركت يدٌ من عالم الروح الرسالية في رسمها وتلوينها الى جانب يد الفنَّان المبدع صاحب الذائقة الفنية الخلاَّقة شوقي دلال ، حيثُ تحكي اللوحة / الرسالة فيضًا من الأنوار الربَّانية المنبعثة من مقام الحسين بن علي بن ابي طالب في كربلاء ، فمما لا شكَّ فيه ان النور الإنساني المنبعث من ذات الرسَّــــام شوقي دلال يتماهى مع النور الذي سعى الحسين لبثِّه في عوالم الدنيا من خلال ثورته التي لم تكن ثورةً ذاتية او شخصيَّةً او نسبيَّةً ، وإنما كانت ثورة على الظلم والظلام الذي ساد الواقع الذي رفضه الحسين والصفوة من اصحابه الذين خرجوا من ظلمات الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء الى انوار الاسلام ، انوار العدل والتسامح والحق والحرية والاباء …

رسم لوحة لمرقد الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء _ ريشة د.شوقي يوسف دلال .

 

ولعلَّ اللوحة التي انتهى الدكتور شوقي دلال من رسمها لمرقد الامام الحسين عشيِّة اربعينيته هي خير مصداق عمَّا شعر به الفنَّان المبدع من ” أنَّ الحسين ع يُرسَم ُ بالروح والوجدان قبل اليد حيث كانت يدٌ اخرى ترسمُ معي _والكلام لصاحب اللوحة _ فولِدت هذه اللوحة ” التي لم يكتفِ صاحبها من خلال ما حملته اللوحة من ايحاءات ودلالات ورموز بالإطلالة فيها على صورة الحسين ونهضته المباركة إطلالة تاريخية عاطفية ، وإنما استوحى من هذه الثورة / الحق ، رمزاً للنور الذي يبدد غياهب الظلم والفساد والقهر ، ومنارةً للأجيال التواقة الى الحرية ، والعدل ، والإصلاح ، والشجاعة ، والتضحية ، والفداء في سبيل المبدأ والعقيدة ، ورمزًا لحركية اسلامية انسانية نابضة بالفكر والنهج في دروب الأنبياء الذين امرهم الله تعالى ان يخرجوا الناس من الظلمات الى النور ، وان تكون مراقدهم وبيوتهم البيوت التي أذِن الله ان ترفع ، يسبِّح له فيها بالغدوِّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيعً عن ذكر الله يخافون يومًا تتقلَّب فيه القلوب والابصار … وهو ما يتبدَّى جليًّا في هذا العمل الفنِّي وهذه اللوحة السامية النورانية لمرقدِ الحسين في كربلاء والَّذي بات الملايين من النَّاس يؤمونه في كلِّ عام مستهدين قيمه وتعاليمه وانوار رساليته ، حيث استطاع د. شوقي دلال الرسَّام الذي يرسم بنبض القلب ويلّوِن بشغاف الروح ، ان يقدِّم لنا هذا المرقد صراطًا مستقيمًا ، وطريقًا للخلاص ، ودربًا للنور ، وقِبابًا تستقبل انوار السماء ، وتخفق عندها اجنحة الملائك ، وكأنَّ الريشة التي غمس شوقي دلال الوانها بنبض روحه وبصيرةِ رؤاه وجمالات عشقه لإنسانية الحسين قد استهدت ابيات السيدة زينب بنت عليّ شريكة الحسين في نهضته المباركة حين وصفت مقامه ومرقده وارض الطف التي استُشهِد عليها يوم العاشر من محرَّم الحرام سنة 61 للهجرة ، فقد توجَّهت الحوراء زينب لمرقد الحسين بالأبيات الشعرية_والشعر كالرسم من الفنون التي يرسمُ الشاعرُ آفاق روحه فيها بالكلمات ، كما رسم شوقي دلال رمزية انوار المرقد الحسيني بألوانه _ تقول السيدة زينب :
على الطفِّ السلامُ وساكنيهِ
وروحُ اللهِ في تلكَ القبابِ
مضاجِعُ فتيةٍ عبدوا فناموا
هجودًا في الفدافدِ والروابي
علتهُم في مضاجعهم كِعابٌ
بأردانٍ منعَّمةٍ رِطــــابِ
وصيَّرتِ القبورَ لهم قصورًا
مناخًا ذات افنيةٍ رِحابِ
إنَّ القراءة النقديَّة المتأنيَّة لأبيات زينب الكبرى بنت عليّ بن ابي طالب ع تجعلنا نتيَقن ان اللــــوحة التي رسمها شوقي دلال بالروح والوجدان قبل اليد تتماهى مع مضمون الأبيات الشعرية التي رسمت مرقد الحسين قِبابًا تحلُّ فيها روح الله وصلواته ونوره الذي هو كما في رمزية الآية الكريمة : ” مثلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباح المصباحُ في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبٌ درِّيٌّ يوقَدُ من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيَّةٍ يكادُ زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ نورٌ على نور …”
من هذه الشجرة المباركة ، والكوكبِ الدريِّ استمدَّ د. شوقي دلال رمزيَّة النور المنبعث من مرقــــد الحسين بن عليّ الإمام الذي كان عقله نورًا وروحهُ نورًا وصفاؤه نورًا وثورته نورًا وكان نورًا كلّه كما رسمت الرباب زوجة الامام الحسين هذا النور بأبياتٍ تنسبُ اليها قالتها بُعيدَ استشهاد الحسين على ارض الطف في كربلاء :
إنَّ الذي كان نورًا يستضاءُ بهِ
في كربلاء قتيلٌ غيرُ مدفون
سبطَ النبيّ جزاكَ اللهُ صالحةً
عنَّا وجُنِّبت خسرانَ الموازينِ
قد كنتَ لي جبلًا صلدًا الوذُ بهِ
وكنتَ تصحبنا بالرَّحم والدينِ ….

 

الفنان التشكيلي الدكتور شوقي دلال

 

إنّ السياحة في لوحة د. شوقي دلال الفنية الروحية الرسالية النورانية تجعل كل الدلالات والرؤى والرموز تتزاحمُ وتتسابقُ على الحضور للتعبير عمَّا تختزنه الوان هذه اللوحة الآســــرة ، وعمَّا في رمزية المرقد الحسيني من مضامين خلَّدتها أقلام الادباء والشعراء والرسَّامين والنحَّاتين ، وتكفي الإشارة السريعة الى قصيدة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله والتي وسمها بعنوان ( في المــــــرقد الحسيني ) لتكونَ اعظمَ تعبيرٍ وبرهـــانٍ عمَّا نقول ، حيثُ يقول السيد :
هنا يقف الخاطر الملهمُ ويسكت فيه ويستسلمُ
ويسترجعُ الطرفَ عن قصدهِ فيغشى فينهلُّ منه الدمُ
هنا حيث يرقدُ رمزُ الإبا وقطبُ الهدى المنقذُ الأعظمُ
يفيضُ على الكونِ من روحهِ حناناً متى راحَ يسترحِمُ
ويرسلُ أنوارهُ في الفضا فيشرِقُ عالمُنا المظلمُ
وينشرُ فينا تعاليمه ولكن بفيض الدَما ترقمُ
هنا حيث يرقدُ سر الالهِ وحيث الهدى من أسىً مفعمُ
ترى الحقَّ كيف ارتقى واستطال فتعلم ما لم تكن تعلمُ
وتلمحُ في جنباتِ الضريحِ دماءَ الشهادة اذ تلثمُ
وقد قامَ من حولهِ الزائرون ونار الاسى في الحشا تضرمُ
وقد عكف حوله النائحات فهذي تضجُ وذي تلطمُ
فتحسبه كعبة المسلمين وكلُّ فتى منهم المحرمُ
هنا سجلت للهدى صفحة من الحقِّ ما خطها مرقمُ
تلاها على الكون سبط النبي فشع بها المنهج الأقومُ
وأرسلها في الهدى دعوة تبين الصواب بما ترقمُ
وشيد صرح الهدى بعدما أزال قواعدَه المجرمُ
وعلمنا كيف تفدى النفوس وكيف يموت الفتى المسلمُ
وكيف تراق دماء الابيّ تجاه العقيدة اذ تُهضمُ
إنَّ الملاحظة السريعة للأفعال التي ساقها السيد محمد حسين فضل الله في تصويرِ المرقد الحسيني الشريف تنقلنا الى عوالم الملكوت والنورانية والسمو التي بثَّتها ريشة شوقي دلال في لوحته الفنيَّة للمرقد الحسيني الشريف ، حيث أورد السيد العديد من الأفعال الخاصة بحقل ( النور / الهدى ) ومنها : ” قطب الهدى ، يرسِلُ انواره ، الفضا ، يشرق عالمنا المظلِمُ ، ارتقى ، استطال ، تضرمُ ، للهدى ، مرقمُ ، شعَّ ، المنهج الأقوم ، أرسلها ، شيد صرح الهدى …” وكأنَّ شوقي دلال أراد إعادة رسم كلمات الحوراء زينب والرباب والسيد محمد حسين فضل الله بألوانِ ريشته الساحرة العابقة بالأنوار ، والمبدِّدة للظلمات .

إنَّ ما قرأتهُ في هذا الرسم الرسالي ، وهذه اللوحة الفنيَّة التي اتحفنا بها د. شوقي دلال وما اقرأه في أدبه وفنّه وكلماته بشكلٍ عام ما هو إلا روح الثورة / الخلود : الثورة على ما بلي من الموروثات الفكرية ، والخلود في ذمة الزمن وضمير الحياة .. ولعل صفاء البصيرة ، وحركية القلب ، وما امتاز شوقي دلال به من آلاء حدَّث بها _ ولا يزال _ ونذر وجوده لانطلاقتها ، شكل المعين الذي انطلق الإيمان فيه نبض صدق من قلبه ، ونور انسانيَّة من ذاته الأثيرية ، ولا غرابة في ذلك فشوقي دلال هو من الأفذاذ من أبناء الأمة الذين يتركون بصماتهم وحدةً واصلاحاً وابداعًا في زمن التشرذم والفساد ، لتلتقي دعوة شوقي دلال من خلال اللون في ركب الحسين(ع) الخالد الذي سنَّ في دنيا الوجود ثورة الكمال كله ، ليأتلف العالم ، ملوناً بإبتهال الدماء الزاكية ، وليثأر التاريخ على ركائز الإباء والكبرياء والشموخ .. فظلال الحسين ظلال الإسلام ، ومرقدُ الحسين مـــلاذ الأنوار وتاريخ الحسين ثورة رسالة لا يخمد أوارها ، وعبق أنوار لا تلين ، وعبقر شعر لا يعرفه إلا الرساليون الذين يأخذون الحسين كله واعظًا وثائرًا ومرشِدا ومصلِحا ونورًا ورشادًا وهدايةً وانسانيّةً قلَّ نظيرها . ويستوحون الحسين َ لونًا من نور ونورًا من عشق وروحًا من صفاء وودًّا لا يعرفه الا الانقياء ومنهم شوقي دلال .
د. علي رفعت مهدي
علي النهري 29 أيلول 2021 .

شاهد أيضاً

المكارثية السياسية والأقفاص المغلقة!

د. بسام  أبو عبدالله تعرف المكارثية السياسة بأنها سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون …