تحية إلى الفنان المبدع حسام الصبّاح 

بقلم البروفسّور طلال درجاني


ليس كلّ ممثل مبدعاً

سهر حسام الصبّاح على اعادة بناء وتركيب وخلق الادوار التي قدّمها له سوق الادوار وتجارة الفن، ومهما كانت متواضعة حوّلها بإبداعه والتزامه الفنيّ الى شخصيّات مركّبة ترتوي من فكره الانساني الاصيل وان مقابل قروش الخبز الزهيدة.
جريمة بحق الابداع والحضارة العالمية، ان يكون المثقف الاكاديمي في وطننا منسيّاً، ثم تتم المتاجرة به حتى على مناشير النعوة، بما يسمّى شعراً او نصّاً او كلاماً تقليديّا في حدث الموت..
محاكمة النظام الثقافي والسياسي المتخلّف حتميّة تاريخيّة..
كارثة فنيّة ان يكون الممثّل الجاهل، مهمن كان، وان كان خريج جامعات او معاهد فنيّة، حاكماً مصطنعاً على كرسي الشاشات المناهضة للفن الانساني.
في الاساس، لا وجود لمناهج لاعداد ممثل او مخرج في جامعاتنا، وهذا منذ النشأة حتى اللحظة. لم يحاول القيّمون واصحاب القرار المساهمة في ايجادها، وامّا السبب الرئيس فهو غياب الاختصاصيين القادرين على تغطية كامل المتطلّبات الاكاديميّة وتطبيق المناهج العالميّة واكتشافاتها وتطويرها من خلال الابحاث العلميّة والتطبيقية. وطبعاً، لم تنتج جامعاتنا ومعاهدنا الفنية مناهج خاصّة بها.
اذا، ايّ ممثّلٍ تعدّ هذه الجامعات؟ واي مستوى من الانتاج الفني نشهده؟
اين مسارحنا وشاشاتنا من الاعمال الابداعية العالمية، التي اسّست مدارس وطوّرت اخرى؟
جامعات تفتقر الى المناهج الاساسية في اعداد الممثل والمخرج، الا انها تتطاول على القوانين الأكاديمية وتوزّع شهادات عليا، ماجستير ودكتوراه في اختصاصات الاخراج والتمثيل الغائب عنها المناهج الخاصة بها وكذلك الاساتذة مستوفيو الأهلية العلمية والبحثية لملء شواغرها، اذن، الغائبة اساساً بصيغتها العلمية الاكاديمية، والحاضرة للسماح بتصدير عدد من النماذج الشاذّة من الخريجين الفالحين في العهر والفاشلين في الفن والثقافة والحضارة، يسرقون ويشوّهون نظافة وجهود الخرّجين الطامحين لبناء وطن حضاري.
الملاهي التجارية والحانات الليلية ومدن العالم شاهدة على ذلك.
يكفي عهراً وتخلّفاً وفسادا ثقافيا.. حان الوقت كي ننظر الى مسارح ومتاحف ومكتبات العالم ونقيّم واقعنا، ونضبط اقسام كلياتنا الفنيّة..
على القيّمين على الاختيار ان يتواضعوا ويعترفوا بإمكانياتهم العلمية المتواضعة وسياساتهم الاداريّة الفاشلة، فيطردوا الطلاب الفاسدين ويبقوا على الشباب والشابات الملتزمين بالتربية والاخلاق والفكر النيّر..
بات من الملحّ فضح شهادات واختصاصات عدد من الاساتذة، والكشف عن حقيقة ما يُسمّى بأبحاثهم العلمية ولجان تقييم تلك الابحاث الزائفة..
ما نشهده من مستوىً متدنٍّ جدا على صعيد ساحتنا الفنيّة ما هو الا حصيلة ما زُرع منذ التأسيس من طرق واساليب التدريس من جهة وسياسات الانتاج من جهة أخرى والممارسات المدمّرة للفن والثقافة والحياة اليومية، حيث ان ممثّلا مثقّفا جريئا عنيدا كأبي نبيل (حسام الصبّاح) لا يأخذ حقّه في بازار الشاشات في ادوار تكون على قدر ثقافته ومهاراته التي اكتسبها وطوّرها يوماً بعد يوم وبجهده الخاص بعد تخرّجه من المعهد.
هو حال الكثير من الطلاب والخرّيجين والفنانين الجادّين المحرومين من الفرص الحقيقية.
الى ان تحقّق الحلم الاكاديمي: “حلم رجل مضحك”، سنة وشهر من التمارين اليوميّة والصبّاح يبحث من خلال الرؤية الإخراجيّة تحت النص وفي خفايا وأسرار الشخصيّة.
انا اعترف انه كان عملاً مميّزاً بتعبه بالنسبة لنا.. اذ كان مجرّد الهمس باختيار رواية لدوستويفسكي وتحويلها الى عرض مسرحيّ، شهادةً عالميّة بمشقّة التحدّي الفنيّ على حلبة خشبة المسرح وتحديداً في تطبيق الحالات النفسية في الشخصيّة الدوستويفسكية النادرة في بنيانها الإنساني والشاقّة جدّاً في طرق واساليب البحث في اعماقها من خلال قوانين علم النفس البشريّ وما تقتضيه من شروط صارمة ودقيقة لتنفيذ حذافيرها. وهو تنفيذٌ يقتضي أضعاف ابعاد ما كُتب حتى يتحوّل الى حياة نابضة ومشهديّات وجماليّات مسرحيّة على الخشبة تجسِّد بحرص كامل وخلّاق، كل الافعال والأحداث والشخصيات وتحصّنها ضد التزوير.. لأن شخصيّات دوستويفسكي هي التي علّمت العالم من بعده وحتى كبار الفلاسفة وعلماء النفس، حقائق النفس البشرية، هذا ما غمز به نيتشيه لصديقه فرويد احد اهم روّاد علم النفس على الاطلاق.
يكفي ان الصبّاح قد نفّذ في شخصيّة الرجل المضحك تسع محاولات انتحار مختلفة في الزمان والمكان والاهداف وخلال ساعة وتسع دقائق في نص فلسفي بجماليات فنية مرهقة للغاية. وكل محاولة انتحار كانت تكبر وتتعاظم اكثر من سابقاتها لتحقيق الموت الذي لم يأتِ قط!
كُتِبت ابحاث ودراسات عديدة عن عرض مسرحية “حلم رجل مضحك”، وهي تُدرّس اليوم في جامعات لبنان والخارج، ومنها ما قرأها حسام بعينيه وشهد مفاعيلها بنفسه عبر مشاركاته في ندوات ومهرجانات مسرحيّة جادّة حول ثورة العرض، ثورة فضحت الخشبات التي تدّعي صناعة المسرح…
بعد كل عرض كنت انتظر حسام خلف الكواليس كي استمتع بمشهد فني نادر لا يراه المشاهد ابداً، وكان الهديّة الصادقة التي يقدّمها حسام لي من دون علمه ولا اذنه: ذقنه الطويلة تقطّر عرقاً تفوح منه رائحة الابداع الصافي، وهو ينشّف شعره ورقبته بهدوء ومن ثم يعلّق المنشفة، فيتسارع طعم عرق آخر بالسقوط، ويسرح خيوطاً من الفن الملتزم بالانسانية ويتجمّع في بحيرة حول ساقيه المرتجفتين بهدوء ثابت وطويل الأمد، بفعل ثقل المجهود المبذول تحت الأضواء وبين السينوغرافيا واكسسواراتها المالئة فضاء الخشبة.. يخلع قميصه، يعصّره بين اصابعه فنسمع ايقاع موسيقى المياه التي فرزها جسده المتفاني تمثيلاً وبحب واحساس وابتسامة لا وصف لها.. يجلس على كرسيه ويحاول بصعوبة ان يحرّر رجليه من جزمته الضخمة فتظهر جواربه الغارقة في جوف بحيرة الحذاء الذي طبع بصماته الخالدة في حقيقة معاناة الانسان والممثل الحقيقي على الخشبة الكلاسيكية المعاصرة، بصمات لا تزول الا بزوال امجاد التاريخ الفنيّ الصادق.
كان من ازياء الدور معطف سيبيريّ بفروته الضخمة يكاد يفوق بوزنه وزن حسام نفسه، الا ان ذلك لم يمنعه من أداء الحركات والميزانسينات بليونة خارقة..
يعلّق المعطف في جنزير من جنازير الانتحار فتسيل المياة لتصبّ في ساقية خارج قاعة المسرح وتتجمّع في بركة في وسط بيروت تعلو منها نافورة لعلّها تلمس مشاعر واحاسيس الفن الصادقة في اجيال قادمة. .
هذه المياه المقدّسة التي تنزف بعد كل عرض “حلم رجل مضحك” هي من صميم نص المسرحية: “[…] هذا ما حصل لي في حلمي، لم اشعر بألم، ولكنني تصوّرت بأن كل شيءٍ فيّ قد اهتزّ بالرصاص، وسكن كل شيء فجأة، وصار كل شيء حولي مظلماً بشكلٍ رهيب. وكأنّني عميت، وتخدّرت وها انا منطرح ممدّد على شيء صلب، لا ارى شيئاً، ولا استطيع ان اقوم بأقل حركة، وحولي يسير الناس ويصيحون، ثم ها هم يحملونني في تابوت مغلق، واشعر كيف يهتزّ التابوت، وفجأة وللمرّة الأولى تصعقني فكرة انني قد متّ، متّ كليّاً.
ويدفنونني في الأرض. وينصرف الجميع، وانا وحيدٌ، وحيدٌ كليّاً ولا اتحرّك.. كنت اقرن القبر بإحساس واحد، الرطوبة والبرد. كنت منطرحاً، والغريب انني لم اكن انتظر شيئاً، متقبّلاً دون جدال أن الميت لا ينتظر شيئاً.. فجأة سقطَت على عيني اليسرى المغمّضة قطرة ماء شحّت من خلال غطاء التابوت، وبعد دقيقة تبعتها أخرى، ثم ثالثة بعد دقيقة وهكذا دوليك كلّ دقيقة، واحتدم في قلبي غيظ عميق، وفجأة شعرتُ فيه بألم عضوي.”
نعم.. او يكون مسرحاً حضاريّاً ركيزته الكُتّاب العظام وبرؤى ابداعية منهجيّة واكاديمية في الاخراج والتمثيل وجميع فنون العرض، او لا يكون.. لأن التاريخ، سيحذفه تلقائياً كما حذف كل من ليس له علاقة بالابداع والبحث الفنيّ.
غداً المحاضرة في جامعة “الحلم” عن تفاصيل اعداد وتربية الممثّل واسس بناء السينوغرافيا في تكامل الرؤية الاخراجية من خلال فكر دوستويفسكي لمسرحية “حلم رجل مضحك”، تمثيل حسام الصبّاح.

شاهد أيضاً

ممثلة لبنانيّة تكشف: “خنت وتعرضت للخيانة”

كشفت الممثلة ريتا حايك، عن تعرّضها للخيانة، وقالت “خنت وتعرضت للخيانة”. وعن سبب إقدام الشخص …