“الأضحى” عبر العصور (٢/١):

مواكب باهرة للسلاطين والخلفاء وعيديات من ذهب وموائد عامرة

زياد سامي عيتاني*


عرف المسلمون الأعياد وكانت عندهم مواسم للبهجة والمرح والتلاقي الاجتماعي، كما كانت عبادةً وقُرُبات ونُسُكاً، كما كانت الأعياد دفعة أفراح وإبتهاج غامرة في حواضر العالم الإسلامي، حتى لكأن المسلمين في أيام أعيادهم لا يشغلهم سوى المفاكهة والحياة السعيدة.
وقد كان رائد المسلمين في هذ السلوك البهيج هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرشد أمته لطرائق البهجة النبيلة، وكان يحرص على أن يكون هو ومن حوله أشدَّ الناس فرحا بالأعياد.


وكان عيدُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه متواضعا بسيطا، لكنّه أخذ من المَسرّات حظا وافرا ليكون يوم الجمال التامّ في كل شيء بأمر من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخرج الحاكم في “المستدرك” أن الحسن بن عليّ قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجودَ ما نَجِدُ، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد”.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم “يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، فإذا رجع رجع من الطريق الأخرى”، كما روى الشافعيُّ.
ولم يخلُ العيدُ في الزمن النبويّ من اللهو واللعب، إذ أخرج البخاريّ عن عائشة أنها قالت: “دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث (آخر معركة بين الأوس والخزرج 617م)، قالت: وليستا بمغنيتين؛ فقال أبو بكر: أمزاميرُ الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا!»”.


•صلاة العيد:
مع تطور مراسم الدولة الإسلامية؛ صارت لصلاة العيد (وكان السلاطين هم أئمتها)، حتى روى القاضي التنوخي في “نشوار المحاضرة، أنه “كان يقال: من محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطَرَسوس”! فيما المقريزيّ يصفُ لنا في “اتِّعاظ الحُنَفا” التجهيزاتِ لصلاة العيد زمن الخليفة الفاطميّ العزيز، فيقول: “وبُنِيَتْ مَصاطِب (جمع مَصْطَبَة: مكان مرتفع قليلا) ما بين القصر والمصلى، يكون عليها المؤذنون والفقهاء، حتى يصل التكبيرُ من المصلى إلى القصر، وركب العزيز فصلى وخطب”…
وكانت الصلاة تُعقد في أماكن مفتوحة ومحددة وبعضها معيّن بأسماء غير بعيدة من أسماء الساحات العامة بمدننا اليوم، ففي “المسالك والممالك” للإصْطَخْري أن مصلى رسول الله الذى كان يصلي فيه الأعياد (يقع) في غربي المدينة”، وفي بغداد يخبرنا التنوخي أن مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام، وفي مصر يقول المقريزي في “الخطط والآثار” أن مصلى خولان (كان هو) مشهد الأعياد ويؤم الناس ويخطب لهم؛ في يوم العيد خطيب جامع عمرو بن العاص، وفي دمشق كانوا يصلون بساحةٍ تُدعى “الميدان الأخضر”، ذكرها ابن تَغْرِي بَرْدِي في “النجوم الزاهرة” حين وصَف صلاة العيد فقال: “وأطلعوا المنبر إلى الميدان الأخضر”.


•المواكب:
كانت المواكب الرسمية من أهمّ مشاهد العيد التي كانت الدولة تحرصُ عليها، وتظهر من خلالها هيبتها وقوتها واعتداد حكامها بأبهة سلطانهم، وفي تفاصيلها العجبُ العجاب.
أورد ابن الجوزي في “المنتظم” ضمن رصده لأخبار الخليفة العباسي المقتفي أنه خرج يوم العيد الموكبُ بتجمُّل وزِيٍّ لم يُرَ مثله من الخيل والتجافيف (ما تُلبَسُه الخيل ليقيها الجراح) والأعلام وكثرة الجند والأمراء”!
وكانت للعباسيين طقوسٌ في العيد سبق منها حملُ الحربة التي تُنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتشبهه أيضا “البردة” المنسوبة إليه والتي “توارثــها بنو العباس، خلَفًا عن سلف، فكان الخليفة يلبسها يوم العيد على كتفيه، ويأخذ القضيب المنسوب إليه (النبي) في إحدى يديه، فيخرج وعليه من السكينة والوقار ما يصدع به القلوب ويبهر به الأبصار، ويلبسون السواد (وهو شعارهم) في أيام الجمع والأعياد”…


أما الخليفة الفاطمي في أول أيام عيد الأضحي كان يتجه إلى صلاة العيد وبعد الانتهاء منها يمتطي جواده المزين ويخرج في موكب مهيب وهو يرتدي ملابس العيد الجديدة المزكرشة ويخرج معه الوزير وحراس الخليفة وأكابر الدولة، ويتجهون إلى “المنحر” و هو دار النحر الخلافية وكانت تقوم في ركن خارجي من القصر. وكان يشترك في هذا الموكب الأفيال والزراف والأسود المزينة بالأجلة وعليها قباب من الذهب.
وكان الخليفة يشترك بنفسه فى اجراءات النحر، و قد جرت عادة الخليفة الفاطمي على نحر 31 أضحية أول ايام العيد، في اليوم الثاني ينظم نفس الموكب الخلافي إلى المنحر وينحر الخليفة 27 أضحية، وفي اليوم الثالث أيضا يخرج بنفس موكبه المهيب وينحر 23 أضحية.
في العصر المملوكي كانت مظاهر الاحتفال بالعيد في صباح اليوم الاول تتمثل في اجتماع اهالي الحي امام منزل الامام الذي سيصلي بهم صلاه العيد في المسجد فاذا خرج اليهم زفوه حتى المسجد وبايديهم القناديل يكبرون طوال الطريق.
وبعد انتهاء الصلاه يعودون به الى منزله علي نفس الصوره نفسها التي احضروه بها.


من أمتع مشاهد تقاليد العيد في المجتمعات الإسلامية تلك التي رصدها بدقة الرحالة ابن بطوطة في مختلف بقاع الإسلام وضمّنها رحلته الشهيرة، ومنها مشهد العيد في إحدى سلطنات بلاد الروم (تركيا اليوم)، حيث يقول: “وأظلنا بهذه البلدة فخرجنا إلى المصلى، وخرج السلطان في عساكره والفتيان الأخِية (جماعات الفتوة) كلهم بالأسلحة، ولأهل كل صناعة الأعلام والبوقات والطبول والأنفار، وبعضهم يفاخر بعضا ويباهيه في حسن الهيئة وكمال الشِّكة (السلاح)، ويخرج أهل كل صناعة معهم البقر والغنم وأحمال الخبز، فيذبحون البهائم بالمقابر ويتصدقون بها بالخبز، ويكون خروجهم أولا إلى المقابر ومنها إلى المصلى. ولما صلينا صلاة العيد دخلنا مع السلطان إلى منزله، وحضر الطعام فجُعل للفقهاء والمشايخ والفتيان سماطٌ على حدة، وجُعل للفقراء والمساكين سماط على حدة، ولا يُرَدُّ على بابه في ذلك اليوم فقير ولا غني”!


-يتبع: الموائد والعيديات.
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

شاهد أيضاً

احتفال في عيد العمال في ثانوية الصباح

مصطفى الحمود رعى نائب رئيس الاتحاد العمالي العام حسن فقيه الاحتفال الذي نظمه الناديان الثقافي …