رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للأديب أحمد فقيه

الحلقة 18 والاخيرة بصيص من نور

    و بعد تلك الجلسة الشهيرة تكشفت أشياء كثيرة.. فلم توجد صحيفة محلية لم تتناول القضية في صبيحة اليوم التالي. و معظم هذه الصحف عمدت الى ازاحة الأقنعة عن كثير من الوجوه، و كشفت عن كثير من الحقائق التي هزت الجماهير   و ألهبتها. و معظم العناوين البارزة كانت تحمل اسم المحامي مسعود عبد الجليل:   “رجل القانون الذى لا يضاهى”، “الرجل الذى كرس جهده ووقته و عمله لخدمة القانون و الحق و العدل”، “مسعود عبد الجليل افضل حارس للقانون، و امين لقضايا الحق و العدل”، ” مسعود عبد الجليل.. من الاعدام.. للبراءة!..”.

    و كان لهذه الانتفاضة أكبر الأثر في تغيير مجريات الأمور و في تغيير الكثير من المفاهيم.

    و تقديرا للجهود الجبارة التي قام بها المحامي مسعود في سبيل اظهار الحق، أراد ذوو النفوس الخيرة في بعض الجهات أن توكل إليه مهمة الاشراف على تنظيم سير العمل في بعض النواحي الهامة في الدولة و غيرها من القطاعات الخاصة.. الا انه رفض هذا قائلا:

_ انني لست بأجدر و لا بأكفأ من اي من زملائي الأفاضل القائمين على هذه الأعمال.. و إذا اتيحت الفرصة لأى منهم، فسيعمل و يعمل و يعمل، و قد يعمل اكثر مما عملت انا بكثير.. المطلوب فقط ان نهيء لهؤلاء الفرص و المناخ الملائم للعمل كي يعملوا.. فالطير لا يستطيع الطيران و هو موثوق الجناحين، و البلبل لا يستطيع ان يشدو وسط عاصفة هوجاء، و لا المحارب، مهما بلغت شجاعته و جرأته و قدرته، يستطيع النزول الى ساحة الوغى و هو مغلول.. لذلك ارى بأنني استطيع ان أخدم حيث أنا اكثر مما لو كنت داخل الأقفاص..

    و بدأت الأيدى المخلصة تظهر و تظهر و تظهر و تعمل في كل اتجاه.. لم تعد تخشى الضياع.. فقد شعرت بالاطمئنان.. شعرت بأن هناك من يحميها و يساندها اذا تعرضت للانهيار.. هناك الجماهير.. هناك الرأى العام الذى استيقظ من غفوته على بصيص من النور..

    و هكذا أصبح المحامي مسعود مرشداً و مستشاراً اختيارياً ( غير رسمي) لمعظم المسؤولين عن الأعمال التنظيمية و الادارية و القانونية.. و جميع الهيئات العامة منها و الخاصة قد أخذت تستعين به لحل مشاكلها و تنظيم أعمالها.. فقد شعر الجميع بفضله و حبه لعمل الخير فأخذوا يتوافدون عليه من كل حدب و صوب..  و لم يبخل هو بجهده على احد ما دام النفع سيعود بالتالي على الجميع..

    و بما أن تخصصه في القانون و القضاء، فقد ذهب جل نشاطه و جهده لمساعدة زملائه في مهنته.. و قد أصبح و رئيس المحكمة العليا، القاضي الذى رأى” رائد” النور على يديه، زميلين لا يفترقان.. و كانت خدمات كل منهما تعود على القضاء و العدالة بفوائد جليلة.. فلم يعد هناك مظلوم او ظالم الا و نال ما يستحقه بالقسطاس..

اللغز

    الا ان هناك لغزا كان لا يزال يحير المحامي مسعود بشأن العلاقة الغامضة بين القاضي و اسماعيل، و ما شاهده منهما اثناء المحاكمة.. لذلك، بعد ان هدأت العاصفة، و استقر كل شيء، استغل اول فرصة ينفرد فيها بالقاضي سأله:

_ لقد سألتني ذات مرة ان كان هناك صلة ما بيني و بين”اسماعيل” والد “رائد”.. كما انني لاحظت اثناء المحاكمة مدى اهتمامكما ببعضكما.. فهل لي ان أعرف شيئا عن هذا اللغز المحير؟..

_ قد يكون هذا محيراً كما تفضلت.. و لكن هل انت تعرف اسماعيل منذ زمن بعيد_ منذ الدراسة مثلاً؟..

_ لا.. معرفتي به منذ ان تزوج فقط.. و لكن ما شأن هذا بالموضوع و ما الذى يحيرك؟.. اخبرني.. قد استطيع مساعدتك!..

_ الحقيقة انني أعرف شخصاً منذ زمن بعيد، بعيد جداً.. الا ان ما يحيرني هو ان هذا الشخص اسمه، كما أعرفه، هو “اسماعيل زاهر….” و لا ادرى ان كان صاحبنا هذا هو نفس الشخص ام لا، مع ان هناك شعوراً قوياً يوحي إلي بأنه هو  و يدفعني للتعرف عليه من جديد، فهل تعرف أين يسكن؟.. فمنذ وقت و انا انتظر الفرصة المناسبة لكي اسألك عنه، لأنه تتملكني رغبة ملحة لزيارته و الاطمئنان عليه و على ابنه الذى أخطأنا بحقه خطأ فادحاً و علينا أن نعوض عن هذا الخطأ الذي لابد أنه قد أضر به كثيراً كما أضر بوالديه و باقي أهله.

_ ما رأيك في أن نسهر عنده الليلة و تتعارفا من جديد؟..

_ صحيح!.. بارك الله فيك!.. هذا ما كنت اسعى اليه و أفكر فيه.. لا يمكن أن تتصور مدى شوقي للتعرف على ذلك الرجل!..

_ لا بأس!. لا بأس!.. الليلة يخلو لكما الجو و تتعارفان بإذن الله!..

    اما اسماعيل فقد كان لا يزال ملازماً لفراشه حسب ارشادات الطبيب، لأنه و ان كان قد عاد اليه وعيه، الا انه ما زال يشعر بدوار كلما رفع رأسه عن السرير  و عتامات كانت تغشى عينيه بين الحين و الحين.. أما بالنسبة لما حدث له في قاعة المحكمة لم يكن ليتذكر منه شيئاً، اذ كان بالنسبة له مجرد حلم عابر لم يتذكر منه سوى نتافات يكاد لا يفهم منها شيئا..

    أرسل المحامي مسعود من يخبر اسماعيل و رائد بأنه قادم لزيارتهم و معه بعض الأصحاب.

    و بعد العشاء مباشرة اصطحب المحامي مسعود القاضي و بكرا بالزيارة قبل وصول الآخرين. و كان رائد و أمه يقفان عند الباب تهيؤاً لاستقبال الزائرين.. و عندما علم اسماعيل بقدومهما هب من رقدته للترحيب بهما.. و اتخذ كل من المحامي و القاضي جانباً من السرير، بينما اتخذ رائد و امه الجانب الآخر.. و بدأ المحامي يقدم كلا من القاضي و اسماعيل و يعرفهما ببعضهما و يلاحظ ما على وجه كل منهما من تعبيرات.. و تسمر كل من رائد و امه في الجهة المقابلة يراقبان ما يحدث..

    و لاحظ الجميع مدى الاهتمام الذي بدا على وجه اسماعيل، و كأنه ينبش شيئاً من أعماقه.. ثم تغير لون وجهه و اشرأب بعنقه و كأنه يتهيأ للوثوب من مكانه… 

    و ما كاد المحامي يقدم القاضي، قائلا:” يرجع الفضل الأكبر في اخراج رائد من غياهب السجن الى…”، حتى كانت الصورة قد تمثلت أمام اسماعيل، فهتف بأعلى صوته:

_ يوسف!.. يوسف!..”جو”!.. يوسف!.. يا الله!.. لا أدرى لماذا صورتك تحوم في ذهني منذ أيام و لا تفارقني.. و بالأمس كنت و اياك في حلم غريب 

    و مع هتافاته هذه كان يقفز اليه و يحتضنه و يشبعه تقبيلا..

    أكدت هذه الكلمات للقاضي ما كان يجول يخاطره، و ذكرته من جديد بذلك الماضي البعيد، فتذكر زميله الذي كان يجلس الى جانبه على مقاعد الدراسة،  و الذي كان له الفضل الأكبر فيما هو فيه الآن، فعاد يضم صديقه، و هو يقول له:

_ لا.. بل يوسف!.. يوسف!.. يوسف!..

    فعاد الاثنان يتعانقان من جديد، و قد بدت دموع كل منهما تنهمر على خديهما و كأنها الندى الذى يرطب البراعم الجديدة، فيزيدها نشوة و حيوية.. و لم يستطع الحاضرون تمالك انفسهم ازاء هذا المشهد، فاختلطت عبراتهم بإبتساماتهم ابتهاجاً بلقاء الاحبة..

    و فوجيء الجميع وهم يشاهدون اسماعيل ينزل من سريره و يتأبط ذراع ضيفيه و يسير معهما باتجاه غرفة الجلوس.. و قد حاولوا جميعاً اقناعه بالبقاء في سريره، و يتولى رائد و أمه استقبال الضيوف، الا أنه رفض قائلا:

_ كيف تريدون مني ان اترك يوماً مثل هذا يمر هكذا ببساطة و أنا ممدد في فراشي و كأن شيئا لم يكن؟!.. ألا تعلمون بأن هذا اليوم يعادل العمر كله.. ألا تريدونني أن أتحدث الى صديق عزيز لم اره منذ ما يقارب الثلاثين عاما؟!.. أم تريدونني أن أجر الجميع الى فراشي الكئيب هذا؟!….لا! لا!.. كل الأوقات لكم و هذه الليلة لي.. هذه ليلتي.. ارجوكم ان تتركوني أحياها كما أريد!..

    و لم ينتظر حتى يسمع رأي الآخرين، بل وجه كلامه رأسا الى ابنه رائد طالبا منه الذهاب لدعوة جده و جدته، و الحاج جواد و أبو جميل و أولادهما، و كل من لهم به صلة في ذلك الحي.. و نزولا عند رغبته، انتقل الجميع الى الغرفة المجاورة.

حنين الذكريات.. و اللحن الأخير

    و في غرفة الجلوس التي أعدتها ام رائد لمثل هذه اللقاءات حيث اصطفت المساند في الزوايا حول الفرش المصنوعة من الصوف، و البسط العربية تغطي الأرض، جلس الجميع حول موقد الفحم يصطلون من برد كانون القارص.. و على الموقد ابريق القهوة النحاسي، و أمامهم الفناجين يملؤها لهم رائد كلما شعر باشتياقهم اليها.. و مع القهوة، في هذه الغمرة من الأنس و الفرح التي حضرها العديد من الجيران و الأقارب، انساب الحديث عذباً مشوقاً.. حكى كل من الصديقين قصته للآخر منذ ان افترقا.. و استمع الجميع بشغف بالغ.. و بما انهم يعرفون معظم جوانب قصة اسماعيل، فقد شد انتباههم اكثر فأكثر الى قصة القاضي” يوسف” التي قال فيها، موجها كلامه الى صديقه القديم:

    “… فوجئت بغيابك عن المدرسة.. و سألني الوالد عنك كثيراً.. و عندما طالت غيبتك، علمت بأنك تركت المدرسة بسبب ما كنت تعانيه من ضعف في مادة اللغة الفرنسية.. و على الرغم من ضعفك هذا في هذه اللغة التي كانت بالنسبة لي شيئاً عادياً كما تعلم، الا انني كنت أحسدك لطلاقتك و قدرتك في اللغة العربية.. و كنت دائما اتمنى ان اكون مثلك لأرضي الوالد الذي احبك بدوره لحبك للغة العربية و اهتمامك بها.. فقد كان دائماً يشجعني على النطق السليم و القراءة السليمة، و لكن وجود امي بجانبي دائما، و التي لم تكن ترضى ان تكلمني الا بالفرنسية، كان يثير الوالد و يضيع مجهوداته سدى..ووجودك بقربي باستمرار كان عاملاً مهماً في تقويم لغتي و تشجيعي على الحديث بالعربية، لذلك كنت أحرص على هذا إرضاء للوالد كما تعلم..

    ” و لكن بعد تغيبك الطويل هذا شعرت بافتقادك و تأثرت جداً عندما علمت ان اللغة الفرنسية هي سبب تركك المدرسة مع أنك كنت، كما عرفناك، ذكيا نشيطاً ومجتهداً.. و هذا بدوره جرني للتساؤل: (ما دمنا نحن عرباً.. و لغتنا الأصلية هي اللغة العربية.. لماذا اذن لا تكون دراستنا بلغتنا الأصلية؟!..) و هنا أيضاً تراءى لي اصرارك على مناداتي ب”يوسف” و ليس ب”جوزف” أو “جو” و قارنت هذا باصرار الوالد المماثل، فازداد حبي و تقديري لك؛ و منذ ذلك اليوم صممت على ألا يناديني أحد إلا ب”يوسف”.. حتى الوالدة، التي لم يكن يحلو لها الا اسم “جو” أو “جوزيف”، لم اعد ارضى ان تناديني بتلك الألقاب مما أثلج صدر الوالد و فرحه لدرجة كبيرة.. و لكن الوالدة ثارت ثائرتها، و أقامت الدنيا و أقعدتها، مما حدا بالوالد الى ان يرسلها الى اهلها في فرنسا ريثما تهدأ بعض الشيء.. و منذ ذلك التاريخ لم أشاهدها الا قبل بضعة أشهر حيث ودعتها الوداع الأخير..”

    و هنا قاطعه الجميع قائلين: “يسلم راسك!.. البقاء لحياتك!..”

فرد عليهم مكملا حديثه:

    ” حياتكم الباقية!.. لم يكن قصدى هذا، و لكن اردت ان اقول بأنه كان لسفر أمي هذا اثر كبير في تغيير شخصيتي كلية.. اذ عهد الوالد الى عماتي في تنشئتي،  و استكمال تربيتي، او بالأحرى اعادة تربيتي من جديد، حسب اصول جديدة و مفاهيم جديدة.. فاستقامت لغتي العربية تماماً بينهم، و هذا بدوره دفعني الى الغوص في المراجع و الكتب العربية القديمة الموجودة في مكتبة الوالد.. و بهذا عرفت الكثير عن مآثر العرب و أمجادهم، فزاد هذا من حبي و تقديري لهذه الأمة العريقة، كما زاد من حبي و تقديري لك.. و كان من نتيجة هذا ان اتجهت في دراستي نحو الأدب العربي و التعمق فيه بالاضافة الى دراسة القانون.”

    و هنا زاد وجه اسماعيل اشراقاً، و بدت عليه نشوة غريبة و هو ينظر الى صاحبه و ينصت اليه باهتمام و شغف بالغين..

    و يتابع”يوسف” حديثه، فيقول:

    “و لكن يبدو ان الزمن كفيل بان يغير كل شيء، و ينسي الانسان كل شيء حتى نفسه. و مع هذا، فمجرد ان لمحت اسمك اهتز كياني و احسست بان روحك التي ما تزال مائلة في الاعماق، تحوم حولي.. شعرت بأن شيئا يناديني من بعيد.. بعيد.. الا ان الاسم نفسه اختلط علي و لم استطع التأكد ان كان هو اسمك فعلاً.. اما شكلك فقد تغير كثيرا، و هذا ليس بالغريب، و ان كنت قد لمحت فيه ما يجذبني نحوك، الا انني لم استطع تكوين صورة كاملة عنك.. و كان لك فضل السبق في معرفتي، و هذا ليس بجديد عليك، فأنت دائما السباق الى المآثر الكريمة.”

    و كان قد علم اسماعيل اثناء الحديث بما حدث له بالضبط في قاعة المحكمة عندما شاهد القاضي، و بهذا تأكد له بأن مشاهدته له لم تكن حلماً بل حقيقة، و ان هذه المشاهدة كانت ذات اثر بالغ في اعادته الى رشده، لذلك اجاب صديقه القديم قائلا، و الدموع تترقرق في عينيه:

_ ان فضلك لأع..ظم و..أب..لغ ..اذ ان مشا..هدتي لك… كان لها.. الأ..ثر.. الأ..كبر في شفا..ئي.. مما كنت في..ه..كما..ترى..و.. بفضلك و فضل المحامي…. مس..عووود…تم اخخخرا…ج “رائد” من الظلا…م.. الى النووو……

    و كان اسماعيل و هو يتكلم يمط بكلامه و كأنه يتثائب، فاعتقد الحاضرون بأن هذا من اثر ما يجيش في نفسه من حنين الذكريات.. الا انهم فوجئوا بما طرأ عليه من تغير سريع اثر الانتهاء من تلك الكلمات.. فاصفر لونه و بهت، و ارتخت يداه، و مال برأسه على المسند، و أغمض عينيه.. الا ان الابتسامة ما زالت مرتسمة على محياه..

    و ما كاد الطبيب يصل اليه حتى كان قد فارق الحياة.

    و في اليوم التالي اجتمعت الحشود من المعارف و الأقارب من كل مكان،  و انتظمت الصفوف، و عزفت الموسيقا، و انتشرت أكاليل الزهور، و تناوب الجميع، شيبا و شبانا، على حمل اسماعيل الى مثواه الأخير، كما تبارى الشعراء  و الخطباء و المتحمسون لقضايا الحق و العدل في القاء ما تجود به قرائحهم في ذكر ما قام به الفقيد من مآثر، و ما عاناه في سبيل خير الانسان و سعادته..

    و فوجيء”رائد” بهذه الجموع الهائلة التي تعرف والده و التي تعرف عنه الكثير، و أحيانا أكثر مما يعرف هو.. و عندها اغرورقت عيناه بالدموع من جديد اكباراً و اجلالاً لذلك الراحل.. دموع غير تلك التي كان قد ذرفها على فقد والده العزيز، و التي يذرفها كل ابن على فقده لوالده، و انما دموع من نوع آخر.. فقد شعر برعشة تسرى في أوصاله و تفتح أمامه أبوابا جديدة و أفاقا رحبة..

    أما عفراء فقد هالها ما حدث.. فهي لم تكد تشعر بالسعادة تغمر بيتها حتى تفقدها ثانية، و الى الأبد.. فقد كانت التجربة مرة قاسية عليها لدرجة صعب عليها تقبلها على الرغم مما مر عليها سابقاً من تجارب. و لم تجد في النهاية من عزاء أفضل من ذلك الثوب الأسود القديم الذى كانت قد خلعته منذ حوالي تسعة عشر عاما، و ما زالت تحتفظ به لما يحمل اليها من ذكريات عزيزة.. ذكريات الصبا بمرها و حلوها.. و قد حاول “رائد” و أختاه و جده و جدته و معظم معارفهم ان يقنعوها بنزع ذلك الرداء بعد انتهاء فترة الحداد، و لكنها أصرت على التشبث به   و عدم التخلي عنه.. فقد كانت تجد فيه راحة و سلوى لا تجدهما في أى شيء آخر. 

    و كانت هي بينها و بين نفسها مقتنعة بأن اسماعيل ما زال موجودا بأفكاره و خواطره و آماله التي تجدها في كل من تشاهده من أصدقائه و أصدقاء رائد و في جيرانهم و معارفهم و كل من تعاطف معهم في قضيتهم التي اعتبرت قضية الجميع.. اما ابنها رائد فقد كان نسخة طبق الأصل عن والده في شكله و أفكاره و تصرفاته.. و كان هذا يخفف عنها الكثير من آلامها.. الا أن ما تحفل به مخيلتها من ذكريات مع ذلك الراحل ليجعلها تعيش أسيرة الحنين اليها و تغفو على الأجنحة السابحة في ملكوتها.. و على الرغم من أنها لم تنسى أبدا ما عليها من واجبات نحو بيتها و أولادها، و مسئوليات أخرى نحو الآخرين، فقد كانت تذهب مع كل غروب الى قبر زوجها، المجاور لقبر “ضياء” ابنتهما، حاملة معها الورود و البخور  و الرياحين، و تبقى بصحبتهما مدة من الزمن تبثهما خلالها ما يحمل قلبها من شجون و آلام.

    هذه اللحظات كانت هي الزاد الذى تتزود به عفراء كل يوم، و الذى عن طريقه تستطيع العبور الى ما يليه من أيام.. و هكذا قضت البقية الباقية من حياتها.

خطوة…

    و بعد رحيل اسماعيل تم الاتفاق بين القاضي يوسف و المحامي مسعود و بعض الزملاء الآخرين على ان يتقدموا الى الدولة بطلب لمنح عائلة اسماعيل تعويضاً عما لحق بهم من أذى بسبب خطأ لم يرتكبوه.. كما تم الاتفاق على ان يرعى الجميع رائدا حتى يكمل تعليمه.. و قد خصص له المحامي مسعود مكتباً يعمل فيه مساعداً و سكرتيراً خاصاً له في أوقات فراغه الى ان ينهي دراسته حيث يكون له عندها شأن آخر.. و قد تعاهد الجميع فيما بينهم كذلك على نصرة الحق و محاربة الباطل أينما وجد و كيفما كان.. و من أجل تحقيق هذا فقد تقرر أن تستمر الاجتماعات و اللقاءات عند رائد، و في نفس الغرفة التي شهدت الاجتماع الأول ووداعهم الأخير لاسماعيل، و ذلك لبحث ما يستجد لديهم من أمور و ايجاد الحلول المناسبة لها.

    لم يمض وقت طويل حين تم للقاضي يوسف وضع جميع الترتيبات اللازمة و ذلك بمساعدة المحامي مسعود و رائد و جميع المخلصين من زملائه القضاة و غيرهم.. و عندها بدأ محاكماته الجديدة بفتح ملف قضية “سبيطين” و ملابساتها ليظهر اولئك الذين كانوا يقفون خلفها، و يطلع على دوافعهم… و كان المحامي “مسعود” قد زود المحكمة بما حصل عليه سابقاً من أدلة تمسكها بأول الخيط.. فالصحفي الذى أوكل اليه مراقبة بيت “شاهين” يوم المحاكمة، قد شاهد شخصين يحاولان فتح الباب عنوة.. و قد استطاع تصويرهما عن بعد دون ان يشعرا.. و كذلك أقوال “شاهين” و ما يجر اليه من أمور و حقائق..

    و كان أول ما فعلته المحكمة في هذه القضية هو ان نظرت في أملاك “سبيطين” و ما له من ديون، و اطلعت من خلال ذلك على القصور و العقارات التي آلت اليه عن طريق الدين و الربا. و كل قصر أو عقار، مهما كان، تبين أن صاحبه الأصلي قد سدد قيمة ما كان عليه من ديون ل”سبيطين” و لو كان مدفوعاً كفائده، كانت المحكمة تعيد هذا الملك لصاحبه مع احتساب فائدة معقولة تقرها لجنة خاصة من المحكمة نفسها.. و اذا كان الدائن قد سدد قيمة الدين الأصلي و بقي عليه تسديد قيمة الفائدة أو بعضها حسب التقدير الجديد، فتلزمه المحكمة بدفعها بعد اعطائه المهلة الكافية لذلك.. و أما من سبقته المدة المحددة في العقود دون أن يستطيع سداد ما عليه، كان يعاد اليه ملكه بعد أن يطلب منه اكمال تسديد ما عليه على أقساط يستطيع دفعها.. و قد حررت بذلك عقود جديدة حسب ترتيبات جديدة..

    أما بالنسبة لاسماعيل فقد تبين بأنه دفع ل”سبيطين” خلال العشر سنوات الماضية، و بموجب ما لديه من ايصالات، ضعف ما عليه من دين. لذلك أمرت المحكمة بأن يعاد له قسم من المبلغ الزائد و يحسب القسم الباقي بدل فائدة حسب تشريعات المحكمة الجديدة بهذا الخصوص.. و بناء عليه تبقى سيارته و جميع ممتلكاته المرهونة له.. انها حقه الشرعي.. و ألغيت جميع العقود السابقة.

النهاية

شاهد أيضاً

أفرام: “اقتراح قانون مع زملاء لتأمين تغطية صحية واستشفائية فعلية ولائقة للأجراء من خلال إتاحة خيار التأمين الخاص”

كتب رئيس المجلس التنفيذي لـ”مشروع وطن الإنسان” النائب نعمة افرام على منصة “أكس”: “نظراً للآثار …