سوريا تحتضن أيتامها

محمد عيد

برزت ظاهرة اليتم كإحدى أهم نتائج الحرب في سوريا على الصعيد الاجتماعي، بعدما أفرزت أعدادًا كبيرة من الأطفال الأيتام الذين سعت دور الرعاية إلى ضمهم بداية قبل التفرغ الجاد والمسؤول في عملية إعادة تأهيلهم نفسيًا تمهيدًا لإعادة انخراطهم في المجتمع على النحو البعيد عن تداعيات سطوة اليتم.

أيتام ليسوا على موائد اللئام

لا إحصائية دقيقة لعدد الأيتام في سوريا، لكن التقييم يشير الى أعداد كبيرة بعدما عاث الإرهابيون طويلاً في البلاد وبات السقوط اليومي للضحايا سمة أيامها المتواليات. ورغم اشتداد المعارك واقترابها من بعض أحياء العاصمة دمشق فإن قرار احتواء الأيتام وعدم تركهم لمصيرهم أو للتشرد بقي مصانًا ومرعيًا على أعلى المستويات في سوريا.

قصدنا دار الرحمة للأيتام في دمشق، حيث بدا الأطفال “أصحاب بيت” يهمون باستقبال ضيوفهم بعيدًا عن لغة “التكلف” التي غالبًا ما يبيحها وجود وسائل إعلامية. كان الود ظاهراً وعفويا بين الأطفال اليتامى ومن تولّين رعايتهم من المشرفات على الدار. وحدها عائشة الطفلة الصغيرة كان ثمة حزن في عينيها، فعهدها بوفاة أمها قريب ويبدو أنها لم تشف بعد من ألم الغياب. كانت المديرة ومعها المشرفات وبقية اليتيمات الأكبر سنا يبذلن جهودًا مضاعفة لإخراج الطفلة ذات السنوات الثماني من الحزن الذي وقعت فيه.. كان الأمر عسيرًا في البداية لكنه استحق المحاولة.
 
القرار لليتيم

تحدثت مديرة الدار السيدة براءة الأيوبي لموقع “العهد” الإخباري عن آلية استقبال الأطفال اليتامى في الدور “لا يمكننا تجاهل رأي الطفل، إن كان يرغب في الانضمام إلينا أم أنه يفضل أقاربه. لا يمكننا قهره على ما لا يريده، وفي حال أصر على البقاء مع أقاربه نراقب وضعه وكيفية تعاملهم معه”.

تحرص الدار على عدم حصر نشاطاتها داخل الجغرافيا الخاصة بها “فالأطفال يتعلمون في المدارس القريبة وفي نهاية الدوام يعودون إلى الدار وكلما اتسعت دائرة نشاطهم كان ذلك أفضل لهم ولنا” تؤكد الأيوبي.

تسمح إدارة الدار للأيتام باستقبال أصدقائهم في المدرسة والاحتفاء بهم كذلك “وهذا يرفع من معنويات الأيتام أمام أصدقائهم، وتتواصل الدار كذلك مع أقربائهم لزيارتهم في الدار أو إرسالهم إليهم وقت العطلة لقضاء يومين بحيث تبقى صلة القرابة قائمة وقوية”.

لإطلاق النشاطات

الأهم أن الأطفال وفق ما تقول السيدة براءة يقومون بنشاطات عديدة داخل الدار، ففضلا عن دراستهم يقومون بتعلم العديد من المهن مثل التطريز بالخرز وصناعة الدمى والخياطة. والدار تحرص على تسويق هذه المنتجات في المعارض الخاصة التي تقيمها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بالتعاون مع وزارة السياحة والتي يحضرها الأطفال في جو احتفالي لبيع منتجاتهم وقبض ما يدره عليهم ذلك من مال. شعور جميل يعيشه الطفل حين يتحصل على ثمار تعبه ويشعر بالمسؤولية. في الدار كذلك صالات للرياضة واللعب يمارس فيها الأطفال هواياتهم ويفرغون من شحناتهم النفسية. والدار تحرص على إشراكهم في مهرجانات ومسابقات وزجهم في مسابقات ثقافيه خارج إطار البرنامج الدراسي اليومي ولعل هذا ما يفسر سلامة لغة الكثيرين منهم ممن استقبلونا بأشعار الترحيب الجميلة والقصائد الوطنية التي حاكت موقفهم الطفولي من الأزمة في بلادهم.

مساهمات سخية  

في دار الأيتام كذلك هناك صالة للأفراح تعقد فيها المناسبات السارة ويعود ريعها للأيتام. ويوجد كذلك محل لبيع الملابس يحرص تجار الجملة على بيع القائمين عليه بأسعار قريبة جداً من أسعار التكلفة فيما يقبل الناس على الشراء منه بشكل كبير إيمانا منهم بأن عائداته ستعود للأيتام.

تبدو الطفلة سوسن سعيدة بأساور الخرز التي جهدت المشرفة فاطمة على تعليمها كيفية صناعتها. تراكم سوسن النقود التي جنتها من بيع الأساور في المعرض الذي أقيم على شرف الأيتام من أجل شراء هدية لجدتها التي اعتادت زيارتها نهاية كل أسبوع. بتحفظ شديد سألنا مديرة الدار إن كان القائمون عليها يقفون عند جنسية أو مذهب أو دين الأطفال فأجابت بالنفي القاطع “كله على حب النبي المصطفى لا نميز بين أحد كلهم أبناؤنا”.

اللافت في الدار أن العديد من أطفالها قد كبروا خلال عقد الأزمة وبعضهم أصبح طالبا في الجامعة ضمن فروع مميزة وبعضهم الآخر قد تزوج وعاد إليها أبا أو ليزور القائمين على الدار محملاً بالحب لإدارتها والكثير من الامتنان كذلك.

جمعيات مساندة

الكثير من الجمعيات الإنسانية تراقب الأطفال في دور الأيتام في سوريا وتحرص على بناء الشخصية القوية والواثقة للأطفال من خلال رسم مشاريع “تعزيز الثقة” وإطلاق المواهب “وتبنيها” كما تؤكد السيدة خلود رجب مديرة جمعية “جذور” لموقع “العهد” الإخباري.

السيدة رجب أشارت إلى دور الجمعية في حث وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ووزارة السياحة وغيرها من المؤسسات الحكومية في سوريا على إعطاء كل “قيمة مضافة” للأطفال من خلال استضافتهم للوقوف على أمنياتهم ومشاكلهم ومساعدتهم في تلمس آفاق المستقبل ودخول سوق العمل مزودين بالشهادات العلمية أو الحرف المناسبة: “نقوم بكل ما هو مفيد لاشغال الأطفال عن شعورهم المرير باليتم، هذا هو واجبنا الأخلاقي تجاههم”.

 في نهاية يوم طويل داخل دار الرحمة للأيتام كانت عائشة الصغيرة قد وجدت في الأيادي التي مسحت على رأسها والابتسامات التي تلقتها من المشرفين والأطفال على السواء العزاء المطلوب، حينها بدت أقل انقباضًا وأكثر رغبة في الابتسام للحياة التي لا تزال تحبو خطواتها الأولى على دربها الطويل.

شاهد أيضاً

طرابلس عاصمة للثقافة العربية

المرتضى اطلع من بيار عازار على الوضع الثقافي والانمائي لمنطقة كسروان بحث وزير الثقافة القاضي …