عبداتي بوشعاب «ما ذنب فاطمة گول»

واقعيّة دْرامَا الأناضُول  تنتصر على مبالغَات الدرامَا الغربيّة

عبداتي بوشعاب

كيف انتقلت دراما الأناضول من مرحلة الإبداع الفني إلى مرحلة الصناعة الفنية التي تُدر أرباحا بالملايين؟ كيف تحقق النجاحات المتواصلة وتستحوذ على فئات عريضة من الجماهير؟ ما هي عوامل استقطابها المتزايد للجمهور العربي واستمرارها في التربع على نسب المشاهَدة ؟ البحث عن أجوبة لهذه التساؤلات؛ يدفعنا إلى التفكير في طبيعة هذه الدراماǃ

في آخر تقرير سنوي لمؤسسة يوتيوب، والذي أصدرته نهاية سنة 2020 (يمكن الاطلاع عليه من خلال الموقع الرسمي للمؤسسة)، ذكر تْ فيه أنه خلال هذه السنة عُرضت الدراما التركية متمثلةً بــــ 150 مسلسلا في 146 دولة، وما مجموعة 700 مليون مُشاهِد في كل قارّات العالم، بما فيها منطقة الشام والعراق والخليح العربي وشمال إفريقيا.

منافسة الدراما العالمية

قبل أن تدخل الدراما التركية المنطقة العربية، ظلت الدراما المكسيكية مهيمنةً –كدراما أجنبية على التلفزيون العربي من المحيط إلى الخليج لفترات طويلة إلى جانب الدراما الأمريكية والفرنسية، حسب النظام الثقافي للبلدان العربية (أنكلوفوني/فرونكفوني)غير أن هذه الدراما الغربية والأجنبية لغةً وثقافةً، ظلت بعيدة عن تقاليد المجتمع الشرقي، فهي لا تعكس اهتماماته وهمومه، إضافة إلى كونها متحررة جدا، والكثير منها لا يصلح للمشاهَدة العائلية لأنه يتسم بالمبالغة الواضحة في المشاهد الحميمية والإغراق في الخيال. لهذه الأسباب وغيرها تراجعت نسب متابعتها من لدن الجمهور العربي، خاصّة وأن هناك دراما جديدة بدأت تنافسها في اجتذاب مجموعات واسعة من المشاهدين ،  كما استحوذت على اهتمام القنوات العربية إلى أن تبوّأت الصّدارة في نسب المتابعة والاستقبال، إنها دراما الأناضول.

هكذا ومنذ سنة 2007، بعد عرض مسلسليْ «سنوات الضياع» و«نور» على شاشة ال Mbc الخاصة، وعرض مسلسل «وادي الذئاب» سنة 2009، على قناة Abu dhabi الإماراتية. غزت المسلسلات التركية معظم الفضائيات العربية. وقد مثّلت هذه الأعمال آنذاك الإرهاصات الأولى لتشكُّل ما يمكن أن نُسمّيه «ظاهرة تلقي الدراما التركية في الوطن العربي». ظاهرةٌ ساهمت فيها عوامل فنية وجيهة، من أجلّها: ذبلجةُ المسلسلات التركية باللهجة العربية الشامية السورية، وهي اللهجة الوسط في اللغة العربية؛ مفهومة في الخليج العربي وفي البلدان المغاربية. كما أنها أُنتِجت في بيئة ذات عقلية شرقية قريبة من الجمهور العربي، بيئةٌ مشابهةٌلنــا من حيث العقيدة الدينية وبعض التقاليد الاجتماعيةفضلا عن كثرة شركات الإنتاج الرائدة وتنوع الرؤى الإخراجية ووفرة الممثلات والمُمثلين الأتراك المميَّزين والمحترفين في تقمص الشخصيات وأداء مختلف الأدوار التي تُسند إليهم. هي دراما مرتبطة بالواقع بل متزوّجة به، هذا ما يجعل المتلقي يحس أنه يتابع ما يحدث في السياق الاجتماعي والإطار التاريخي الذي يعيش فيه، بطريقة فنية تمثيلية مُبهرة لا تكاد تخلو من المفاجئات في قالب إبداعي حقيقي يدفعه إلى طلب المزيد.

من بين النجاحات الملحوظة للدراما التركية في الوطن العربي؛ مسلسل «ما ذنب فاطمة گول»  في موسمين، عُرض في تركيا على التوالي سنتي 2010 و 2011، على قناة Canal D، وعُرض سنتا 2012 و2013، على قناة Mbc السعودية وقناة Cbc المصرية. السيناريو  مشترك بين المؤلِّفتين “إيجة يورانتش” و”ملك جينتش أوغلو”، أما الإخراج فكان للمخرجة”هلال سارال”، بينما تم الإنتاج من قِبل «مؤسسة آي ياپيم». هو من بين المسلسلات التي لا ينساها المشاهد إذ عرض في العالم بأسره. 

أصل قصة المسلسل:واقعة حقيقية وفيلم سينمائي

قبل أن نركز على المسلسل التلفزيوني، نعود بالزمن من سنة 2021، ستّةً وأربعين سنة، لنعلم أن هناك كاتبا روائيا تركيا يدعى “وِدَاد توركاللّي Vedât Turkalli” كان ممن عايشوا الواقعة الحقيقية عام 1975، والتي اقتُبِس منها المسلسل الشهير، جريمةُ الاغتصاب الجماعي التي كانت ضحيتها الفتاة “فاطمة ول” حيث تم انتهاكها من خمسة شُبّان ستبرئ هي أحدهم لأنه لم يقترب منها. 

قرر “توركاللي” أن يوثق الحادثة المريعة في نص طويل لم يُنشر آنذاك، لذلك فالفيلم مبني على سيناريو جاهز كتبه هذا الأديب  -الماركسي الشهير في تركيا وأوروبا الشرقية- وعنونه بـــــــــ «ما ذنب فاطمة ﮔول» ثم قدّمه للمخرج “صوريا دورو  SÜreyya Duru” الذي أخرجه سينمائيا عام 1986، عَرض فيهِ ما حدث بالفعل للفتاة “فاطمة كيتانجي ﮔول” وكيف ينتهز محامو المُغتصِبين بندا في قانون جريمة الاغتصاب؛ إذ يحكم القاضي بالبراءة للمغتصِب ما إن يُقرّر الزواج من المغتصَبة، الثغرة التي استغلها دفاع المتهمين وعملَ على إشراك الشاب الخامس في الجريمة زُورًا وبموافقته. فقد كان عاطفيا وليس غنيا كالمدلّلين الأربعة، ما سيسهّل مسألةَ موافقته على الزواج من المغتصَبة، وهو الذي أحسّ بالذنب بعد الجريمة وتأثر تأثرا بالغا لأنه لم يخلص الفتاة من رفاقه المستهترين أثناء الواقعة، إلا أن ما قد يستغربه مشاهدو الفيلمǃ تلك المعاملة السيئة التي عامل بها “فاطمة”، فلن يتجاوز الوساوِس التي تُزعجه لأن أصدقاءه اغتصبوها وهو تزوجها، فيستمر الوضع بين رفضٍ تارة وقبول تارة، إلى أن ينتهي الفيلم بقتله ثلاثةً من منهم. وهذا اختلاف جذري بين العملين السينمائي والتلفزيوني، فالفيلم يُمجّد التقاليد الاجتماعية البالية، الناتجة عن الجانب المتخلّف في العقلية الذكورية الشرقية،إذ يزيد مأساةَ الفتاة حِدَّةًوألما، بينما المسلسل يُكرّمها ويعيد لها الاعتبار.

واقعية الدراما التركية وحبكة المسلسل

عندما تم الاتفاق بين شركة إنتاج المسلسل والكاتب “وِدَاد توركاللي”على تحويل سيناريو الفيلم إلى مسلسل تلفزيوني سنة 2009، قامت كاتبتا السيناريو “إيجة وملك” بالتعديلات الفنية اللازمة حتى يتم تيسير الحكاية الأصلية تلفزيونيا. وقد أدّت الممثلة اللامعة “بيرين سات”، دور الفتاة اليتيمة المُستضعفة“فاطمة ول كيتانجي” المتحدرة من قرية «ديالر»التابعة لمدينة «إزمير» مع شقيقها “لمعي” الرجل الطيب الحنون إلا أنه ضعيف الشخصية، وزوجته “مْيَسَّر” المتسلّطة. 

أتقنت “بيرين سات” تمثيل دور ضحية الاغتصاب ببراعة كبيرة وتقمصٍ مُدهشٍ، نجحت من خلاله في جعل الجمهور يتعاطف مع الشخصية الحقيقية التي تعرضت لأبشع ما قد يحدث مع فتاةٍ ريفيةٍ، سعيدةٍ بحياتها الهادئة وتنتظر زواجها من خطيبها الصياد “مصطفى نالجي”. والذي سيتخلى عنها بعد الحادثة التي ستضع كل شيء عكس ما كان يجب أن يكون عليه. لقد حوّلوا حلمها الجميل إلى كابوس مفزع.

تمًّ الاعتداء على الفتاة من ثلاثة شبّان طائشين، هم:”سليم رشدان” و”عثمان رشدان” و “مراد ناملي”. صادفوها في طريق عودتهم من حفل خطوبة “سليم” و”مرام” في الضاحية وهم في حالة سكرٍ حدّ الثمالة، أما هي فقد كانت في طريقها إلى توديع خطيبها المتأهّب للإبحار على المركب مع زملائه في رحلة صيد جديدة. 

تناوب الثلاثة على اغتصابها بكل حقارة وفظاعة مستسلمين لنزوةٍ عابرة لن يخسروا شيئا لو أنهم أهملوها؛ كان مشهد الاغتصاب مروِّعا جدّا؛ فانتهاك براءة “فاطمة” وترويعها وإلحاق الأذى وأسوأ الآلام بها ليس هيّنا على المشاهِدين، وهم يتابعون لقطات يُنتهَك فيها شرف إنسانة مثل الذّهب، لقطاتٌ مؤثّرة أَدّتها “بيرين” أداءً واقعيا يندمج معه المتلقي بكل جوارحه ومشاعره… إنها مشاهِد فظيعة شرحَتْ الكارثة كما لو أنها حقيقية. لتنتاب المتلقي أحاسيس مختلطةغضب/يأس/غيظ/إهانة/شفقة/دموع. ولأن الأوغاد الثلاثة ينتمون إلى عائلتين من الطبقة الثرية في «إزمير»سيلقون الدّعم في هذه القضية من لدن جهات وشخصيات كثيرة، من أبرزها المحامي “منير تالجي” الذي هو في الأصل قريب العائلة.

رابع المعتدين على البنت شقيق الحكيمة “الست مريم”، الشاب “كريم أولجاز” الذي حضر الواقعة، غير أنه لم يلمسها وندم صباح اليوم التالي ندما شديدا انفجر  على إثره باكيا بكاءً هستيريا. وبدأت الأسئلة تنهال عليهǃ لماذا لم أمنعهم؟ لماذا طاوعتُهم؟… هو رفيقُ المجرمين الثلاثة، ولكنه ليس من طبقتهم ولا قريبهم، شابٌّ متوسط الحال، يعملُ حدّادا في ورشة الأُسطى “غالب”. تنقلب مشاعره تجاه “فاطمة” فيبدأ في الاهتمام بها ومساعدَتها لتجاوز المِحنة النفسية المريرة وأيضا الوقوف بجانبها لمقاضاة رفاقه السابقين، سيّما وأنهم خططوا إلى الإيقاع به ليتحمل تبعات القضية لوحده وهو الذي لم يشاركهم في الجريمة.

يَستغرق الأمر العديد من الحلقات لتثق “فاطمة” بــــ “كريم”. ففي الجزء الأول يركز المسلسل على: كيف يمكن لهذه الفتاة أن تتغلب على هذه الصدمة وكيف تستعيد توازنها وتكون امرأة قوية؟ أما في الجزء الثاني فاتجه المسلسل من جهة إلى معاقبة المذنبين واحدا تلوَ الآخر، ومن جهة إلى انسجام البطلة مع البطل تمهيدا إلى نهاية سعيدة، تختلف جذريا عن البداية التراجيدية.

واقعية المسلسل تتجلى في كونه يعرض قضايا اجتماعية مُرتبطة بالحادثة الرهيبة، منها: قضية الحالة المعنوية لضحايا هذا النوع من الاغتصاب؛ فهناك الكثير من النساء تعرّضْن لهذه التجربة القاسية، فعانيْنَ فتراتٍ أو طوال حياتهنّ من آلام نفسية مُرعِبة خصوصا اللواتي لم يحصُلن على الدعم الكافي، معظمُهُنّ لا يُرِدن العيش بعد تلك الحادثة أو التعايش مع الرجال، إذ لم يعد بإمكانهنَّ الوثوق بأحد. وقضية نظرة المجتمع للفتاة المغتصبة؛ ما ظهر بالفعل في المعاملة غير اللائقة التي تلقتها “فاطمة” ممن حولها كخطيبها “مصطفى” وأهله و “ميَسر” زوجة شقيقها المتسلطة والغبية أيضا. وقضيةُ الطبقية؛ فهناك طرف ثري يتمثل في المعتدين وعائلاتهم ذات النفوذ والمكانة المرموقة، وطرف فقير يتمثل في الضحية وعائلتها البسيطة، صراعٌ غير متكافئ سيجعل الوصول إلى الحقيقة مسألةً صعبة المنال. 

ندم وأمل

سوف يلاحظ المشاهِد أن المسلسل يتأسّسُ على تيمتين: الندم والأمل؛ الأولى لأن كل من اعتدوا على “فاطمة ﮔول” ندموا جِدًّا على فعلتهم الشنيعة، فـــخطيبها “مصطفى” الذي تخلى عنها؛ سرعان ما احتقر نفسه بسبب النكران الذي واجهها به، خاصة بعد تأكده من براءتها وأنه كان ضحية لمؤامرة “منير” محامي الأوباش. أما “مراد” فتحول ندمه إلى هلوسات خطيرة أدّت به إلى الاكتئاب المزمن. بينما “سليم” تغيّرت شخصيته فجأة من شاب مرحٍ صاحب نكتة، إلى شخص شارد وغير مُبالٍ بما يحيط به، حتى أنه خسِر خطيبته “مرام”. فيما “عثمان” اتخذ عنده الندم شكلا آخر بحيث بدا شاكّاً في كل شيء وتسرًّب الخوف إليه سريعا، وأهمل عمله في الشركة حتى أفلست. غير أن ندم “كريم” انقلب عطفا وحبا للفتاة. أما الثانية فتتجلى في قُوّة الضحية وعدم استسلامها وتغلبها على الظرفية الصعبة التي مرت منها، “فاطمة” هي شعاع أمل يضيئ درب كل شبيهاتها اللائي قُدِّر لهنَّ أن يَمْرُرْنَ بهذه التجربة.

بهذا السيناريو الواقعي استطاعت المُخرجة “هلال سارال” حَبْكَ القصة وجذب جمهور هذا النوع من الإنتاجات الدرامية، إضافة إلى استقطاب فئات جديدة من المتابعين. وهي إذن؛ سِمةُ الواقعية التي تتميز بها الإنتاجات الفنية التركية، عاملٌ مهم في انتشارها واستمرار حضورها ونجاحها الفني والاقتصادي.

لابُد أن نُشير أخيرا إلى أن المؤلف الحقيقي لسيناريو الفيلم والمسلسل “وِداد توركاللي”، وعكس ما هو متداول في المنتديات والإعلام العربي على أن المسلسل مقتبس من رواية، فنؤكد أن الكاتب لم ينشررواية «ما ذنب فاطمة ﮔولFatmagül’ün Suçu Ne »سوى في طبعتين الأولى سنة 2011 مع دار  القطة الحمراء، والثانية سنة 2016 مع دار تفاصيل بتركيا، وهذه مسألةٌ قلّما حدثت في سياقات تفاعل الفن والأدب؛ فمن المعروفِ أن يتم تحويل الروايات إلى أفلام ومسلسلات، لكن العكس تماما ما وقع في هذه التجربةالفريدة.

https://t.me/joinchat/Mh0MIHPmpWdjNjY0

سلام عليكم جميعا نرجو منكم دعم موقعنا على تيليجرام فضلا وليس امرا وشكرا جزيل لكم

https://t.me/joinchat/Mh0MIHPmpWdjNjY0


شاهد أيضاً

قراءات إسرائيلية: هذه الأخطاء قلصت من قدرة الاحتلال على حسم الحرب في غزّة

رأت صحيفتا “هآرتس” و”يديعوت أحرنوت”، أن حكومة بنيامين نتنياهو ارتكبت بعد تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” …