حلو “المفتقة” شعارها الرسمي… عندما كان “البيارتة” يحتفلون بأربعة أيوب، على شط “الرملة البيضا”

زياد سامي عيتاني*


“أربعة أيوب”، واحدة من المناسبات في العادات والتقاليد الشعبية التي كان أهل بيروت يحتفلون بها في حقب مضت من تاريخ المدينة، يوم كان يحوطها حزام أخضر من غابات الصنوبر وأشجار الصبير والجميز والخروب والتوت البري، فيخرجون إلى شاطىء الرملة البيضاء في شكل “سيران” ويقضون نهارهم في لهو ومرح، فيغتسلون بماء البحر ويأكلون حلوى “المفتقة” الخاصة بالمناسبة.


•ربط المناسبة بالربيع: يربط العديد من الباحثين ما بين الإحتفالات الشعبية بـ”أربعاء أيوب” والأعياد المتصلة بفصل الربيع كأعياد الفصح المجيد وشم النسيم والنيروز التي يُحتفل بها خلال شهر نيسان من كل سنة، حين تستقر أركان الربيع باعث البهجة والفرح، فتتفتح الأزهار وينمو الزرع ويعتدل الطقس ويصفو الجو. لذلك تردد العامة: “في نيسان بتصير الدني عروس وبيخف الغطاء والملبوس”.


•يا صبر أيوب:
إحتفالات أهل بيروت في هذه المناسبة مقرونة بقصة النبي أيوب وصبره وشفائه، كما ورد عنه في “العهد القديم” وفي خمس آيات وردت في سورتين في القرآن الكريم.البلاء الذي أصيب به النبي أيوب، والصبر الذي أبداه يفوق طاقة احتمال البشر، فضُرب المثل به وبصبره، وصار الناس يرددون “يا صبر أيوب” عند كل موقف يتطلب التغلب على الشدائد بالصبر. وذات يوم ضرب النبي أيوب الأرض برجله، فانبعثت  عين ماء، اغتسل بها النبي وشرب منها فذهب مرضه وشفي تماماً. لذلك كان الناس يغتسلون بمياه البحر في سبع موجات متتالية. من هنا قول العامة في أمثلتهم الشعبية: “يلي ما بيغتسل بأربعة أيوب، جسمه بدو يفنى ويذوب”. ومن لم يكن يشارك في طقوس “اربعاء أيوب” على شاطىء الرملة البيضاء، كان يغسل وجهه بماء تنقع فيه “حشيشة أيوب”، أي عشبة العرعر المعروفة بفوائدها الطبية منذ الفراعنة.


•حدرج تحدد موعد الإحتفال:
كانوا يحتفلون بها في يوم الأربعاء الذي يلي فصح الطوائف الشرقية، أو يمكن أن يكون يوم الأربعاء الأخير من شهر نيسان، وعندما يلتبس الموعد كانت النسوة يلجأن إلى الست حدرج لتحديد موعد الإحتفال الشعبي.
والست حدرج هي سيدة من آل عيتاني “جب” المصيطبة، حيث يصفها الأديب والقاص الراحل محمد عيتاني في كتابه (أشياء لا تموت): “كانت مرهوبة الجانب في منطقتها، يهابها الكبار قبل الصغار. فهي “أخت الرجال، مسدسها على وسطها على الدوام”، كما يروي المعمرون من البيارتة. وكان صوتها عريضاً من كثرة تدخين “التطلي” العريضة، ولسانها سليطاً كسوط.
وفي “أربعاء أيوب” كانت تقود العائلات البيروتية في تظاهرة حاشدة إلى الرملة البيضاء”…


•الحاجة جمول تنظم “السيران”
وفي المقلب الآخر من المدينة، أي في محلة رأس بيروت، كانت الحاجة جمول هي التي تشرف على نصب الخيم على شاطئ الرملة البيضاء. والحاجة جمول لا تقل شأناً عن الست حدرج، فكانت لها الطاعة من الجميع وزعيمة النساء في خندق “ديبو” بلا منازع. فهي تدفع “دية الدجاجة التي دهستها البسكلات. وإذا “لبط حمار ولداً تسقيه ماء من طاسة الرعبة”. وكان صوتها على الدوام ملعلعاً في الحي ينبعث من عنقها الضخم الشبيه “بمدخنة” وتبرز على جوانبه الشرايين الزرقاء.


•التحضيرات قبل أسبوع:وكانت التحضيرات لاحتفالات “أربعاء أيوب” تبدأ قبل أسبوع من موعدها. فيقوم الشباب بتنظيف رمال الشاطىء ونصب الخيام والعرازيل وتوزيعها وفق المناطق والعائلات. وكانوا يعدون أيضاً طائرات الورق الملونة.أما النساء فكن ينصرفن لإعداد وطهو “المفتقة” وهي الحلوى الخاصة بالمناسبة، حيث كانت تطبخ في البيوت من الأرز والسكر وطحينة السمسم والعقدة الصفراء. وارتبطت حلوى “المفتقة” بـ”اربعاء أيوب” لأنها ترمز إلى الصبر الذي كان ميزة النبي أيوب. فتحضيرها يتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً وصبراً وافراً، لإنها تحتاج إلى التحريك المتواصل الذي بدوره يتطلب قوة جسدية.


•التوجه إلى الشط بالطنابر:
في يوم الإحتفال الشعبي، كانت تنطلق “وش الصبح”،(عند الفجر)، مواكب النساء والأولاد من كل الأحياء بإتجاه “شط الرملة البيضا” على ظهور الخيول والحمير والطنابر (أوتوبيسات ذلك الزمان)،
وهم يصفقون ويغنون ويهزجون، فيما تكون الشرطة قد أرسلت دورياتها لحفظ النظام.


•فعاليات “السيران”:
ولدى وصول النسوة إلى الشاطىء يفرشن الأرض بالحصر والبسط ويغطين الخيم من الداخل بالشراشف البيضاء للوقاية من حرارة الشمس ويصفون كراسي الخيزان والطبليات الخشبية خارج الخيم ويرتبن صحون المفتقة وطناجر الطعام ويشعلن طبّاخ الفخار ويحضرن الأراكيل.
أما خارج الخيم، ينتشر بائعو الكعك واللوز والترمس والبرتقال المشكوك بالقرنفل والتفاح المغلف بالمعلل والصفوف والفستق السوداني وقصب المص وغزل البنات.
في هذا الوقت يتسابق الشبان حفاة على الرمل ويلعبون لعبة شد الحبال ويسبحون. أما الفتيان فيتبارون بتطيير “طيارات الورق” في سماء الرملة البيضاء، وغالباً ما كانت تحصل مشاجرات عندما “تتشركل” خيوط الطيارات وتتشابك. وللأولاد حصتهم فيلهون بلعب “الكلل” و “بزر المشمش” وجمع الأصداف التي تدفعها الأمواج وزبدها الأبيض المتمايل على الشاطىء ورماله الذهبية.
عند العصر يحضر الرجال آتين من أعمالهم، فتفرش الموائد ويبدأ شوي اللحم وتحضير التبولة، ويتناول الجميع وجبة الغداء، ويتحلون بعدها بالمفتقة. ثم يصعد الرجال إلى سطوح “العرازيل” ويأخذون القيلولة، في حين ينصرف بعضهم إلى لعب الورق والداما خارج المخيم.


•طقس الاغتسال:
عندما تبدأ الشمس بالغروب، يحين موعد طقس الإغتسال تتجمع العائلات ويضرب الشبان حلقة أشبه بطوق بشري لمنع مرور الغرباء، وتنزل النساء إلى البحر بفساتين طويلة فتغطس كل منهن سبع غطسات للتبارك أو وفاء لنذر أو رجاءً أو طلباً للشفاء تيمناً بالنبي أيوب


*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

شاهد أيضاً

أفرام: “اقتراح قانون مع زملاء لتأمين تغطية صحية واستشفائية فعلية ولائقة للأجراء من خلال إتاحة خيار التأمين الخاص”

كتب رئيس المجلس التنفيذي لـ”مشروع وطن الإنسان” النائب نعمة افرام على منصة “أكس”: “نظراً للآثار …