“آخ يا بلدنا” قالها “شوشو” ورحل ليتحول البلد إلى “خيمة ماراكوز” !!!(٣/٣)

زياد سامي عيتاني*


•تأسيس المسرح الوطني:


إنها مغامرة كاملة، بكل المقاييس والمعايير، ولا شيء غير المغامرة أن يؤسس الفنان الراحل حسن علاء الدين “شوشو” مسرحاً يومياً من العدم، ليصبح عرشه الذي تربع عليه ملكاً إبداعاً وتمثيلاً وتعبيراً فكاهياً عن وجعه ووجع الناس… فكانت ظاهرة إستثنائية لن تتكر قط في لبنان!
إنه بإختصار “شوشو” المغامر الإنتحاري، المجنون (ربما) الذي نقش إسمه على فضاء المدينة، حيث سد الفراغات الهائلة بالمسرح الشعبي-الهادف، وبالجمهور المتفاعل إلى أقصى الحدود، حتى تحول إلى أسطورة مسرحية، لا بل أسطورة المسرح…


•تحويل سينما “شهرزاد” إلى المسرح الوطني:


‏‎أنشأ “شوشو” والمخرج والمؤلف القادم من طرابلس نزار ميقاتي والكاتب وجيه رضوان في تشرين الثاني 1965 في ساحة البرج “المسرح الوطني”، بعدما حلموا طويلاً بتأسيس نظام مسرحي يومي في لبنان، فكان لهم ما أرادوا عندما حولوا صالة سينما “شهرزاد” التي كانت تعاني من ركود في العمل إلى مسرح يومي، وكوَّنوا فرقة له بطلها ونجمها “شوشو” نفسه، الذي كان يكثف من عطائه ويضاعف من طاقاته لتتوالى العروض المسرحية على خشبة “المسرح الوطني” إذ وصلت إلى 24 مسرحية، كأنه يتوقع موته المبكر(!)، حيث كان على سباق دائم مع الوقت.


الطريف في الموضوع أن “شوشو” كان يمر بالمصادفة من أمام صالة “شهرزاد” فوجد مديرها ومدير صالة سينما “دنيا” أنطوان شويري عند مدخل السينما، فسأله “شوشو”: هل تؤجرني هذه الصالة؟ فقال له: لماذا؟ قال: أريد أن أجعل منها مسرحاً. قال الشويري: أنا جاهز، تعال متى شئت. فصعق “شوشو” من الجواب، إذ لم يكن يتوقع أن يوافق شويري على تأجيره إياها بهذه السهولة. وفي اليوم التالي قصد شوشو الكاتب وجيه رضوان في “مقهى الحاوي” وقال له: لقد جاءت ليلة القدر. سأله: كيف؟ أجابه: اتفقت مع أنطوان شويري على تحويل سينما “شهرزاد” إلى مسرح. فوجئ رضوان إلى درجة الذهول، لأنه يعتبر فكرة إنشاء مسرح يومي مغامرة جنونية في بلد كلبنان(!)
مضت الأيام فعرض رضوان الفكرة على المخرج نزار ميقاتي وعرّفه إلى “شوشو” وتوجه الثلاثة إلى ساحة البرج وناقشوا الموضوع مع صاحب سينما “شهرزاد” هنري شقير ومديرها أنطوان شويري، وتم الإتفاق على أن يتولى شقير وشويري إعادة ترميم الصالة وتهيئتها بصورة جيدة لتصبح مسرحاً، على أن يتولى الثلاثة رضوان وميقاتي و”شوشو” تجهيز المسرح والممثلين وسائر العناصر اللازمة لقيام مسرح تمثيلي. وصعدوا في الليلة نفسها إلى مقهى “نصر” في الروشة وتوزعوا الصلاحيات والمهام، وقسموا الحصص، على أن يكون لشوشو أربعون في المئة ولنزار ميقاتي أربعون في المئة ولوجيه رضوان عشرون في المئة…


•إبعاد شامل له دفعه لإنشاء مسرحه:


المفارقة الغريبة والطريفة في نفس الوقت أن محمد شامل (مكتشف “شوشو”) أبعده عن برنامجيه التلفزيوني والإذاعي بعد زواجه من فاطمة محمد شامل، دون أن يكون الوالد راضياً عن ذلك الزواج.
•أولى المسرحيات:
وكانت أولى المسرحيات “شوشو بك في صوفر” المقتبسة من مسرحية “زحلة السيد كيرشون” للكاتب الفرنسي أوجيه لابيش حيث عرضت المسرحية في تمام الساعة الثامنة من مساء الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 1965.


•من المسرح الوطني إلى مسرح “شوشو”


وفي 1972 تغيّر إسم المسرح الوطني وصار “مسرح شوشو”. وكتبت ات مرة الأديبة غادة السمّان مقالا ذكرت فيه أنها طلبت من سائق التاكسي أن يوصلها إلى المسرح الوطني فلم يعرف العنوان، وحين قالت له “عند شوشكو” ضحك وأوصلها إلى باب المسرح!


•الإنفصال بين “شوشو وميقاتي:


وفي صيف 1970 إنتهت الشراكة بين “شوشو” ونزار ميقاتي. وظل شوشو في المسرح وعاد نزار إلى قواعده الإذاعية، وكان مدير البرامج في إذاعة لبنان ومنتجاً لبرامج لحساب الإذاعات الخليجية.
مع الإشارة في هذا المجال إلى أن الممثل المصري محمد الطوخي قد إشترى حصة نزار ميقاتي في المسرح


•الناس يخلون المسرح يوم وفاة عبد الناصر:


بعد هذا الإنفصال قدّم شوشو مسرحية “اللعب ع الحبلين”، إقتبس نصّها ريمون جبارة من مسرحية لغولدوني وأخرجها برج فازليان. كان الإفتتاح ليلة 28 أيلول 1970. وفي الفصل الثاني بدأ خروج الناس من القاعة. لم يكن شوشو على الخشبة. ظنت الناس أن مكروها أصابه، لكنه تبين أن سبب المغادرة عند علمها أن الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد رحل وأن بيروت إشتعلت لدى إنتشار الخبر.


•الديون قضت على “شوشو”:


بالرغم من أن مسرح “شوشو” كان يغص بالجمهور كل ليلة، فإن الديون رافقت التأسيس وبالفوائد الباهظة، خصوصاًوأن “شوشو” لم يكن يملك المال عندما أسس المسرح ولم ينجح في الإستدانة من المصارف، فلجأ إلى المرابين وكانت الفوائد باهظة 5% في الشهر، الأمر الذي جعل مشكلة الديون تكبر كمثل كرة الثلج وتتركاكم، حتى تغدو أحد الأسباب التي قصفت عمر الفنان القدير مبكراً !!!
فإيراد شباك التذاكر كان يذهب نصفه إلى صاحب القاعة والنصف الآخر إلى “شوشو” وشريكه محمد الطوخي. وبعد دفع رواتب الممثلين والعاملين في الفرقة وتكاليف الإنتاج يتقاسم “شوشو” والطوخي ما تبقى من مال. وكان على “شوشو” أن يدفع 60% فوائد الديون للمرابين. وبالقليل الذي يبقى له ينفق منه على مصروفه الشخصي ومصروف عائلته. الأمر الذي دفعه إلى إنتاج أفلاماً سينمائية بقصد زيادة المدخول للتمكن من الوفاء والإلتزام بالمستحقات المالية المترتبة عليه. لكن ومن سوء طالعه أن هذه الأفلام لم تحقق الأرجاح المرجوة فتضاعفت ديونه!!!
هذه الديون أرهقت “شوشو” مالياً ونفسياً، بل وصحياً. فكان يمضي وقتاً طويلاً في تدبير أمر تدويرها وسدادها.
بيد أنه برغم ديونه الباهظة، كان “شوشو” يحرص على دفع رواتب عناصر الفرقة في اليوم الأول من الشهر، وعلى صرف المكافآت المتفق عليها للكتاب والمخرجين.
‏‎كانت وفاة شوشو عام 1975 إيذاناً بموت الزمن الجميل، فانطفأت شعلة “المسرح الوطني” وتوقف قلب بيروت عن الخفقان وأظلمت ساحة البرج ودفنت وحشية الحرب وإجرامها مسارح بيروت التقليدية والتاريخية، لتنطوي صفحة مضيئة من تاريخ العاصمة، ليتحول البلد من وقتها إلى “خيمة كاراكوز” !!!

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي. عضو جمعية تراث بيروت.

شاهد أيضاً

ضاهر:” تمنى على الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة وقف السجالات العدائية “

تمنّى النائب ميشال ضاهر على “الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة”، وقف “السجالات العدائيّة في ما بينها، وإيلاء …