في ذكرى مولد الإمام علي (ع)

المرجع الراحل السيِّد محمَّد حسين فضل الله

د . علي رفعت مهدي

ي ذكرى مولده قد نحتاج إلى أن نولد من جديد، لأنّ للإنسان في حياته ولادتين : يولد يوم يفتح عينيه على الحياة في أوّل صرخة له في هذا الوجود، ويولد جديداً يوم يبدأ يفكّر ويتعلّم وينمو ويعمل ويتحوّل إلى عنصر يستطيع أن يعطي الحياة في كلّ موقع من مواقعه شيئاً جديداً، يعطي الحياة من فكره ليولَد للحياة فكر جديد، ومن طاقته لتولد للحياة طاقة جديدة. لأنّ الله أراد للكون أن يبقى في حالة تجدّد دائم حتى يستمرّ العطاء، فحين أفاض الله علينا من نعمه بالشمس التي تمنحنا الدفء والحرارة والنور جعل الشّمس تتجدّد في كلّ يوم وتتحرّك عندما تغيب على أفقٍ فإنها لا تنام ولا تنطفئ ولكنّها تغرب في أفق لتشرق في أفق آخر. وقد أعطانا الله تعالى تدفق الينابيع، فالينبوع يتفجّر في كلّ سنة ليعطي الرّخاء للإنسان في كلّ أرض وموقع.
_ الحاجة للتجدد :
ونحن نحتاج إلى أن نتجدّد دائماً. أن نجدّد طاقتنا فلا نقبل بما عندنا من الطاقة، بل لا بدّ من أن نضيف إلى هذه الطاقة طاقة جديدة، لأننا إذا بقينا على طاقتنا الأولى فسوف نتجمّد ونموت قبل أن نموت. ولكن عندما نأخذ في كلّ يوم طاقة جديدة نصنعها من نشاطنا، ومن فكرنا وحركتنا، وكلّ مواقعنا في الحياة فعندها نحيا في طاقات جديدة. وهو ما نستوحيه من عليّ (ع) يومَ وُلِد: فقد انفتح على النّور لأوّل مرّة في بيت الله ، وعندما أحسّ بنور الله ينطلق إلى قلبه الطفوليّ تحرّك عليّ(ع) وعاش في عمق إحساسه التطلّع إلى أن يكون إنسان الله في الحياة. الإنسان الذي يعيش مع الله في كلّ حياته. عندما يفكّر فالله يملك ويملأ فكره، وحين يتكلّم فالله يملك كلامه ، وحين ينطلق في الحياة فالله يتحرّك في كلّ طاقاته. لم يغب الله عن عليّ(ع) لحظة واحدة، وهو ما قاله متحدثاً عن انفتاحه الكلّي على الله سبحانه وتعالى: “ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه”.
ولقد كان عليّ(ع) حين يجلس بين يديّ الله تعالى يطلب من الله – كما في دعاء كميل- يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ أسألك بحقّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي في اللّيل والنّهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة حتّى تكون أعمالي وأورادي ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً، فيا سيدي يا مَن عليه معوّلي يا مَن إليه شكوتُ أحوالي، يا خبيراً بفقري وفاقتي قوِّ على خدمتك جوارحي واشدد على العزيمة جوانحي وهَب لي الجِدّ من خشيتك والدوام في الإتصال بخدمتك حتّى أسرح إليك في ميادين السّابقين وأسرع إليك في المبادرين وأشتاق إلى قربك في المشتاقين وأدنو منك دنوّ المخلصين وأخافك مخافة الموقنين وأجتمع في جوارك مع المؤمنين”.
هذا هو الحبّ الأصيل لله ، الحبّ الشامل الذي خلاله يريد من الله سبحانه أن يمنحه لطفه بأن يجعل شغله في أوقاته كلّها معه وفي خدمته وبين يديه.
علي إنسان الله : إنّ عليّاً لم يطلب من الله في ما كان يفكّر فيه أن يعطيه شيئاً من شؤون الحياة، لأنّ الله تكفّل بحاجات الإنسان في الحياة ولكنّه طلب من الله أن يعطيه ما يروي به ظمأ حبّه لله، ويعطيه ما يجسّد إخلاصه له في الحياة. هذا هو درسُ عليّ وهذا هو الذي يمثّل اختصار كلّ حياة عليّ(ع)، إنّه باع نفسه لله وأحبّ الله تعالى فأحبّه الله لذلك وهو ما عبّر عنه رسول الله (ص) حين قال : ” لأعطيَنَّ الرّاية غداً رجلاً يُحبُّ الله ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه”. وهذا ما ينبغي أن نتعلّمه من عليّ (ع) أن نحبَّ الله ورسوله حُبّاً هو العشق وهو الذوبان ، وحُبّاً هو الإنفتاح على الله والسعي في كلّ ما يرضاه الله ورسوله ليُحبّنا الله ورسوله، واللهُ يُحبّنا إذا أطعناه، وإذا انطلقنا في الحياة لتحقيق رضاه (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) وليجد في روحه الإنفتاح على الله بكلّه، وكان في طفولته الأولى يتطلّع في ما يُشبه الإحساس الخفيّ لطفولة يعيش فيها مع الله من أجل أن تركز قاعدة لشباب يجاهد في سبيل الله، ومن أجل أن تفتح أفقاً لكهولة تُحلّق في آفاق الله وتسعى في خدمته. الموعد مع الرسول وكان عليّ(ع) على موعد مع رسول الله(ص) قبل أن يختاره الله لرسالته. وهكذا احتضنه رسول الله في ظروف هيّأها الله له ليحتضنه رسول الله. لم يكن عليّ(ع) يتيماً لأنّ أبويه كانا موجودين ولكنّ المشاكل الماديّة أثقلت أباه، فأراد رسول الله أن يساعده فاحتضن عليّاً وتعهّده وهكذا كان لطف الله بعليّ(ع). لقد كان من لطف الله بعليّ(ع) أن احتضنه رسول الله(ص) وكَبُر عليّ في طفولته بحيث أصبح كبيراً في طفولته وهو صبيّ، لأنه عاش آفاق رسول الله(ص) شاركه تأمّلاته وابتهالاته وأفكاره ، حيث كان يسير الرسول ومعه عليّ ويرجع ومعه عليّ(ع) ويجلس في حِراء ليتأمل ومعه عليّ(ع)، فكبر عليّ مع رسول الله في فكره وروحه قبل أن يكبر في سنّه وعمره. ومن هذا نستوحي أن إسلام عليّ (ع) لم يكن ردّ فعل لعلاقته برسول الله(ص)، بل كان فعلاً من موقع قناعته بالإسلام، باعتبار أنه استطاع في تلك الفترة أن يحصل على الروحيّة التي تجعله يعي ما معنى الإسلام وما معنى الإنطلاق مع الله سبحانه وتعالى في كلّ حياته.. وبهذه الروحيّة انطلق شباب عليّ في الخط الذي انطلقت طفولته فيه ليكون الإنسان المجاهد في شبابه، وانطلقت كهولة عليّ بعد ذلك في الخط الذي تحرّكت فيه طفولته وتحرّك شبابه ليكون الكهل والشيخ الذي ينطلق في الحياة ليعطي الحياة كلّها فكراً وحركة وتقدّماً وارتفاعاً وروحانيّة تنطلق بكلّ طاقتها وإيحاءاتها في سبيل الحق حتى قال سلام الله عليه : “ما ترك لي الحق من صديق” . في مدرسة علي :
ونحن في هذا المجال ، هل نقف في مولد عليّ(ع) من أجل الإلتذاذ والإعتداد بمديحه والثناء عليه ؟!. إنّ عليّاً (ع) لا يحتاج لثناء ولا لمديح، على طريقة المتنبّي في ما نُسب إليه حين قيل له لِمَ لم تمدح عليّ بن أبي طالب (ع) وأنت تؤمن به ؟ قال:
وتَركتُ مدحي للوَصيّ تعمُّداً
إذ كانَ نوراً مستطيلاً شامِلا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
إنّ نور الشمس أكبر من المدائح والثناءات، ومهما مدحنا عليّاً (ع) فإنّه أكبر من كلّ المديح. وهو ما قاله الشاعر بولس سلامه :
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت عليّاً
إننا لا نحتاج إلى أن نعيش كلّ وقتنا في مدائحه ولكنّنا نريد أن نعيش كلّ وقتنا في دروسه ووصاياه وعظاته ومنهجه في الحياة وحركاته في كلّ عمره. أن يكون عليٌّ مدرستنا التي نتعلّم منها كيف نكون مع الحق مهما كانت ضريبة الموقف بالنسبة إلينا مكلفة. فقد دفع عليّ (ع) كلّ صداقاته ثمناً لموقف الحق . ونحن الذين نعمل لنربح الصداقات من أجل التنازل عن الحق، ونتحرّك على أساس أن يكون الباطل كلّ شيء في حياتنا لنربح الناس إلى صفوفنا مؤيّدين ومادحين وتابعين.
إننا عندما نقف مع عليّ (ع) نسمعه يقول : ” لا تستوحِشنَّ في طريق الحقِّ لقلةِ سالكيه ..”
فالناس كانوا يريدون منه أن يأخذ بالباطل. وعليّ(ع) الذي عاش مع الله يرتفع بروحه إلى الله تعالى ويسمع قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) ويسمع قوله الروحي والعملي (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) فيتحرّك مع الحق حتّى ولو كلّفهفي ذكرى مولد الإمام علي (ع) المرجع الراحل السيِّد محمَّد حسين فضل الله في ذكرى مولده قد نحتاج إلى أن نولد من جديد، لأنّ للإنسان في حياته ولادتين : يولد يوم يفتح عينيه على الحياة في أوّل صرخة له في هذا الوجود، ويولد جديداً يوم يبدأ يفكّر ويتعلّم وينمو ويعمل ويتحوّل إلى عنصر يستطيع أن يعطي الحياة في كلّ موقع من مواقعه شيئاً جديداً، يعطي الحياة من فكره ليولَد للحياة فكر جديد، ومن طاقته لتولد للحياة طاقة جديدة. لأنّ الله أراد للكون أن يبقى في حالة تجدّد دائم حتى يستمرّ العطاء، فحين أفاض الله علينا من نعمه بالشمس التي تمنحنا الدفء والحرارة والنور جعل الشّمس تتجدّد في كلّ يوم وتتحرّك عندما تغيب على أفقٍ فإنها لا تنام ولا تنطفئ ولكنّها تغرب في أفق لتشرق في أفق آخر. وقد أعطانا الله تعالى تدفق الينابيع، فالينبوع يتفجّر في كلّ سنة ليعطي الرّخاء للإنسان في كلّ أرض وموقع.
_ الحاجة للتجدد :
ونحن نحتاج إلى أن نتجدّد دائماً. أن نجدّد طاقتنا فلا نقبل بما عندنا من الطاقة، بل لا بدّ من أن نضيف إلى هذه الطاقة طاقة جديدة، لأننا إذا بقينا على طاقتنا الأولى فسوف نتجمّد ونموت قبل أن نموت. ولكن عندما نأخذ في كلّ يوم طاقة جديدة نصنعها من نشاطنا، ومن فكرنا وحركتنا، وكلّ مواقعنا في الحياة فعندها نحيا في طاقات جديدة. وهو ما نستوحيه من عليّ (ع) يومَ وُلِد: فقد انفتح على النّور لأوّل مرّة في بيت الله ، وعندما أحسّ بنور الله ينطلق إلى قلبه الطفوليّ تحرّك عليّ(ع) وعاش في عمق إحساسه التطلّع إلى أن يكون إنسان الله في الحياة. الإنسان الذي يعيش مع الله في كلّ حياته. عندما يفكّر فالله يملك ويملأ فكره، وحين يتكلّم فالله يملك كلامه ، وحين ينطلق في الحياة فالله يتحرّك في كلّ طاقاته. لم يغب الله عن عليّ(ع) لحظة واحدة، وهو ما قاله متحدثاً عن انفتاحه الكلّي على الله سبحانه وتعالى: “ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه”.
ولقد كان عليّ(ع) حين يجلس بين يديّ الله تعالى يطلب من الله – كما في دعاء كميل- يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ أسألك بحقّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي في اللّيل والنّهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة وأعمالي عندك مقبولة حتّى تكون أعمالي وأورادي ورداً واحداً وحالي في خدمتك سرمداً، فيا سيدي يا مَن عليه معوّلي يا مَن إليه شكوتُ أحوالي، يا خبيراً بفقري وفاقتي قوِّ على خدمتك جوارحي واشدد على العزيمة جوانحي وهَب لي الجِدّ من خشيتك والدوام في الإتصال بخدمتك حتّى أسرح إليك في ميادين السّابقين وأسرع إليك في المبادرين وأشتاق إلى قربك في المشتاقين وأدنو منك دنوّ المخلصين وأخافك مخافة الموقنين وأجتمع في جوارك مع المؤمنين”.
هذا هو الحبّ الأصيل لله ، الحبّ الشامل الذي خلاله يريد من الله سبحانه أن يمنحه لطفه بأن يجعل شغله في أوقاته كلّها معه وفي خدمته وبين يديه.
علي إنسان الله : إنّ عليّاً لم يطلب من الله في ما كان يفكّر فيه أن يعطيه شيئاً من شؤون الحياة، لأنّ الله تكفّل بحاجات الإنسان في الحياة ولكنّه طلب من الله أن يعطيه ما يروي به ظمأ حبّه لله، ويعطيه ما يجسّد إخلاصه له في الحياة. هذا هو درسُ عليّ وهذا هو الذي يمثّل اختصار كلّ حياة عليّ(ع)، إنّه باع نفسه لله وأحبّ الله تعالى فأحبّه الله لذلك وهو ما عبّر عنه رسول الله (ص) حين قال : ” لأعطيَنَّ الرّاية غداً رجلاً يُحبُّ الله ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه”. وهذا ما ينبغي أن نتعلّمه من عليّ (ع) أن نحبَّ الله ورسوله حُبّاً هو العشق وهو الذوبان ، وحُبّاً هو الإنفتاح على الله والسعي في كلّ ما يرضاه الله ورسوله ليُحبّنا الله ورسوله، واللهُ يُحبّنا إذا أطعناه، وإذا انطلقنا في الحياة لتحقيق رضاه (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) وليجد في روحه الإنفتاح على الله بكلّه، وكان في طفولته الأولى يتطلّع في ما يُشبه الإحساس الخفيّ لطفولة يعيش فيها مع الله من أجل أن تركز قاعدة لشباب يجاهد في سبيل الله، ومن أجل أن تفتح أفقاً لكهولة تُحلّق في آفاق الله وتسعى في خدمته. الموعد مع الرسول وكان عليّ(ع) على موعد مع رسول الله(ص) قبل أن يختاره الله لرسالته. وهكذا احتضنه رسول الله في ظروف هيّأها الله له ليحتضنه رسول الله. لم يكن عليّ(ع) يتيماً لأنّ أبويه كانا موجودين ولكنّ المشاكل الماديّة أثقلت أباه، فأراد رسول الله أن يساعده فاحتضن عليّاً وتعهّده وهكذا كان لطف الله بعليّ(ع). لقد كان من لطف الله بعليّ(ع) أن احتضنه رسول الله(ص) وكَبُر عليّ في طفولته بحيث أصبح كبيراً في طفولته وهو صبيّ، لأنه عاش آفاق رسول الله(ص) شاركه تأمّلاته وابتهالاته وأفكاره ، حيث كان يسير الرسول ومعه عليّ ويرجع ومعه عليّ(ع) ويجلس في حِراء ليتأمل ومعه عليّ(ع)، فكبر عليّ مع رسول الله في فكره وروحه قبل أن يكبر في سنّه وعمره. ومن هذا نستوحي أن إسلام عليّ (ع) لم يكن ردّ فعل لعلاقته برسول الله(ص)، بل كان فعلاً من موقع قناعته بالإسلام، باعتبار أنه استطاع في تلك الفترة أن يحصل على الروحيّة التي تجعله يعي ما معنى الإسلام وما معنى الإنطلاق مع الله سبحانه وتعالى في كلّ حياته.. وبهذه الروحيّة انطلق شباب عليّ في الخط الذي انطلقت طفولته فيه ليكون الإنسان المجاهد في شبابه، وانطلقت كهولة عليّ بعد ذلك في الخط الذي تحرّكت فيه طفولته وتحرّك شبابه ليكون الكهل والشيخ الذي ينطلق في الحياة ليعطي الحياة كلّها فكراً وحركة وتقدّماً وارتفاعاً وروحانيّة تنطلق بكلّ طاقتها وإيحاءاتها في سبيل الحق حتى قال سلام الله عليه : “ما ترك لي الحق من صديق” . في مدرسة علي :
ونحن في هذا المجال ، هل نقف في مولد عليّ(ع) من أجل الإلتذاذ والإعتداد بمديحه والثناء عليه ؟!. إنّ عليّاً (ع) لا يحتاج لثناء ولا لمديح، على طريقة المتنبّي في ما نُسب إليه حين قيل له لِمَ لم تمدح عليّ بن أبي طالب (ع) وأنت تؤمن به ؟ قال:
وتَركتُ مدحي للوَصيّ تعمُّداً
إذ كانَ نوراً مستطيلاً شامِلا
وإذا استطال الشيء قام بنفسه
وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا
إنّ نور الشمس أكبر من المدائح والثناءات، ومهما مدحنا عليّاً (ع) فإنّه أكبر من كلّ المديح. وهو ما قاله الشاعر بولس سلامه :
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي واخشعي إنني ذكرت عليّاً
إننا لا نحتاج إلى أن نعيش كلّ وقتنا في مدائحه ولكنّنا نريد أن نعيش كلّ وقتنا في دروسه ووصاياه وعظاته ومنهجه في الحياة وحركاته في كلّ عمره. أن يكون عليٌّ مدرستنا التي نتعلّم منها كيف نكون مع الحق مهما كانت ضريبة الموقف بالنسبة إلينا مكلفة. فقد دفع عليّ (ع) كلّ صداقاته ثمناً لموقف الحق . ونحن الذين نعمل لنربح الصداقات من أجل التنازل عن الحق، ونتحرّك على أساس أن يكون الباطل كلّ شيء في حياتنا لنربح الناس إلى صفوفنا مؤيّدين ومادحين وتابعين.
إننا عندما نقف مع عليّ (ع) نسمعه يقول : ” لا تستوحِشنَّ في طريق الحقِّ لقلةِ سالكيه ..”
فالناس كانوا يريدون منه أن يأخذ بالباطل. وعليّ(ع) الذي عاش مع الله يرتفع بروحه إلى الله تعالى ويسمع قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) ويسمع قوله الروحي والعملي (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) فيتحرّك مع الحق حتّى ولو كلّفه الحق كلّ شيء الحق كلّ شيء

_ علي ميزان الايمان :
لقد عاش عليّ (ع) مشكلة في بعض مراحل حياته، وفي ما بعد حياته ولكنّه كان يتطلّع إليها. لقد كان يعرف بثاقب نظره ووعيه لخصومه أنّهم سيلجؤون إلى ما يلجأ إليه الجبناء من سبّه وشتمه فقال لأصحابه : ” ستُدعَون إلى سَبّي والبراءة منّي . أمّا السَبّ فسبّوني فإنّه لي زكاةٌ ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرّؤوا منّي في قلوبكم وعقولكم حتّى ولو أُلزمتم بالبراءة في كلماتكم، لأنّ البراءة منّي براءة من الإسلام وإنّي وُلدتُ على الفطرة وسبقتُ إلى الإيمان والهجرة”.
فَمَن يتبرّأ ممّن وُلِدَ على الإيمان والفطرة فإنّه يتبرّأ من الإسلام دين الفطرة ، ومن يتبرّأ ممّن سبق إلى الإيمان والهجرة فإنّه يتبرّأ من الإيمان وحركة الهجرة في خطّ الجهاد.
إنّنا حين نواجه في حياتنا أمثال هذه التجربة ويُراد لنا الإنطلاق لنقوم في بعض الحالات بتصرّفات وممارسات كلاميّة ضدّ بعض الرموز الكبيرة في حياتنا من رموز الإيمان والإسلام والجهاد فعلينا أن نتعلّم درس عليّ (ع) ليتعلّمه أولئك الذين قدّر الله لهم أن يكونوا رموزاً أو أن الناس اعتبروهم رموزاً . أن لا يسقطوا أمام السبّ والشّتم ولكن أن يرتفعوا بروحهم وعملهم وروحانيتهم كلّما سُبّوا أكثر وأن يُقدّروا ظروف الناس أكثر.
ومن دروس عليّ(ع) في حياتنا الإجتماعية الحذر الواقعي في العلاقات . فربّما تكون بعض هذه الكلمات الصغيرة تمثّل دروساً كثيرة في الواقع ونحن الآن كما قلنا في مدرسة عليّ(ع) وقد اخترتُ هذه الكلمات لنستطيع التعرّف إلى فكر عليّ(ع) في حركة العلاقات الإجتماعية وحركة الحبّ والبغض في الواقع لنعرف من خلال عليّ كيف نمارس حياتنا من دون أيّ سقوط وخطأ.
ففي عداوتنا وصداقتنا وحُبّنا وبغضنا قد نفرط إلى درجة العمل والعصبيّة في حبّنا وبغضنا فلا تحفّظ عندنا في الحالين نموت على الحبّ والبغض. وعليّ (ع) يريدنا أن نكون في محيط حبّنا وبغضنا معتدلين الإعتدال الذي يفرضه الواقع: “أَحبِب حبيبَك هَوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما “. فالعواطف تتغيّر والأوضاع تتبدّل، وقد يكون حبيب اليوم عدوّ الغد، وقد يكون عدوّ اليوم صديق الغد، سواء كان الحبّ حبّاً فرديّاً ينطلق من حالة ذاتيّة عاطفيّة أو كان الحبّ حُبّاً ينطلق من قضايا فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة. إجعل جسراً يربطك بمن تبغضه، وبعض الجسور التي تحميك ممّن تُحبّه، لأنّك إذا ربطت كلّ الجسور بمن تحبّه فإذا تحوّل إلى مبغضٍ وفشى أسرارك فإنّك لا تستطيع أن تحمي نفسك منه. وهذا ما يدخلك في ما لا يُحمد عُقباه من نتائج ونهايات. فعلى الإنسان أن يدرك أن نظيره في الخلق هو الكائن الوحيد الذي يمكن أن يتلوّن بأكثر من لون في العالم وبيوم واحد.
فاللّمسة تغيّره والبسمة والعبوس والطعام والرائحة فليس هناك دوامٌ كما يُحدّد الإمام في العلاقات الإجتماعيّة لأنّها قد تهتزّ. فاحمِ نفسك من صديقك واجعل لنفسك شيئاً ومخرجاً تهرب منه، وهذا ما استعاره بعض الشعراء:
إحذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرَّة
فلربما انقلب الصديق فكان أعلم بالمضرة
أعطِ صديقك المحبّة جاعلاً لنفسك شيئاً تحترس فيه من المفاجآت.. وأمّا في حال البغض فعليك أن تبقي جسراً يمكن أن تنصبه لتربطه بك حين يفكر بالعودة إليك أو تفكر بالعودة إليه. حتى تكون واقعياً في حبّك وفي بغضك، فتعرف كيف تحرّك حبّك وبغضك في سياق العلاقات الإجتماعية.
_ الثقة من وجهة نظر علي (ع) :
ومن كلمات عليّ (ع) في الإتجاه الإجتماعي” لا تثقنَّ بأخيك كل الثّقة، فإن صرعة الإسترسال لا تُستقال “. فإذا أردت الثقة بالناس وهم أقسام : العلماء والصلحاء والسياسيّون والإقتصاديّون والشخصيات الإجتماعيّة والأقرباء.. فهناك نوعان من الثقة: ثقة ببعض الأشخاص عمياء لا حدود لها فمهما كانت ثقتك بالشخص فإنّ عليك التفكير أنّه ليس معصوماً وليس مكشوفاً بكلّه وقد لا يكون من تثق به موضع الثقة لأنّه يخفي ما لا تعرفه، ولبساطتك وطهارتك تثق به مطلقاً. وقد يكون إنساناً في مستوى الثقة ولكنّه قد يخطيء وينحرف ويتغيّر ويتبدّل وهذا واقع الحياة.
فالإمام لا يدفعنا إلى عدم الثقة بالناس ولكن كونوا واقعيين في الثقة، حتى إذا أُريد لك الوقوع في حفرة فإنّك تستطيع اكتشافها قبل بُلوغك إيّاها.
إنّنا نحتاج لهذه الوصيّة لنحمي أنفسنا من مفاجآت من نثق بهم الثقة كلّها ، مفاجآت تبدّلهم وتغيّرهم أو مفاجآت الخفايا التي يمكن أن يستروها عنّا في حياتهم الخاصة والعامة.
ولأنّنا عندما نعطي الناس ثقة عمياء نجعلهم يتصوّروننا سُذّجاً وبسطاء ممّا يغريهم بأن يأخذوا حريّتهم في اللّعب علينا استغلالاً لهذه الثقة العمياء.
وهو ما عشناه في واقعنا السياسي والإجتماعي، كم من الناس الذين كانوا يتّبعون الزعماء فيثقون بالزعيم ثقة عمياء وتنكشف المسألة في ما بعد أنّ هذا الزعيم كان يطرحهم في سوق المزاد ، فهو يتحدث كمن يملك آلاف الرؤوس أو الأصوات لتبدأ عملية التجارة والمزاد : بكم تبيعنا هذه الأصوات؟ وكيف يمكن أن تنظّم هذه الرؤوس مظاهرة ومهرجاناً ؟ وتتمّ عملية القبض والدفع على هذا الأساس .
فالثقة العمياء تجعلنا لا نفكّر في ما يُعمل ويُمارس ، وتجعلنا نبرّر الخطأ دائماً لنقول إنّه قمّة الصواب، وحتّى لو أجرم نقول إن جريمته عدالة لأنّ عينيّ الرضى كليلة عن كلّ واقع :
وعينُ الرضى عن كلّ عين كليلةٌ
كما أن عين السّخط تبدي المساويا
فمن الذي جرّأ هؤلاء المتحرّكون بفعل الأجنبي والقوى المنحرفة في مجتمعنا ان يلعبوا ويدسّوا ويخونوا ؟ نحن الذين جرّأناهم عندما منحناهم الثقة المطلقة ليتحكّموا برقاب العباد والبلاد ولم نتحفّظ في ثقتنا لنحمي أنفسنا من انحراف هذا الإنسان الذي نعطيه الثقة.
وما ينطبق على الزعماء يسري على الأحزاب والمنظمات والحركات والعشيرة والقبيلة .. حيث نجد في تجربتنا اللبنانيّة أنّ جماعات كانت في أقصى اليمين صارت في أقصى اليسار، كيف تحوّل الزعيم الحزبي أو القاعدة من اليمين إلى اليسار؟
لقد أغلقنا عقولنا وحياتنا حتى انطلقنا مع ما يُريد الآخرون على قاعدة الشاعر الجاهليّ :
وما أنا إلاّ من غُزيّة إن غَوَت
غويتُ وإن تُرشد غُزَيَّةَ أُرشد
إنّ الإمام يؤكّد على إعطاء الثقة من خلال دراسة وتنظيم وتفكير أنّ هذا الإنسان ليس مكشوفاً لك بكلّ خصائصه وأنّه ليس معصوماً ومن الطبيعيّ عند ذلك أن تتحفّظ حتّى إذا صرعتك التجربة فإنّك تستطيع القيام من صرعتك. فالحذر لا يعني خذلانك من تثق به ولكن أن تعينه على نفسه في هذا المجال.
_ دروس اهل البيت (ع) :
هذه هي دروس الأئمة من أهل بيت النبوّة(ع) والتي يجب أن نفهمها ونمارسها في حياتنا العامة ، ومن دروس عليّ(ع) لأننا لو درسنا حياة عليّ (ع) لرأينا حياته جهاداً من أجل الإسلام، حيث كانت بطولته في مواقع الحرب حين أراد الإسلام منه أن يحارب، وكانت بطولته في صبره في مواقع السّلم عندما أراد الإسلام منه أن يسالم، وكانت بطولته في مواقع العلم حين أراد الإسلام منه أن يُعلّم الناس ويرشدهم ويُهذّبهم ويهديهم وحين أراد الإسلام منه التحرّك لرفع مستوى الناس.
إنّ عليّاً (ع) هو القمّة التي نتطلّع إليها وتشخص أبصارنا إليها، فلا بُدّ من أن نعمل ليكون كلُّ واحدٍ منّا عليّاً (ع) ولو بنسبة قليلة، لأنّنا إذا أحببناه فإنّ معنى حبّنا له أنّنا نحبّ فكره وجهاده وزهده وعلمه وإخلاصه لله وتفانيه في سبيل الإسلام ووفاءه للرسالة. فإذا كُنّا نحبّ عليّاً (ع) لهذه الصّفات فمعنى ذلك أنّنا نحبّ هذه الصّفات، وإذا كنّا نحبّها فلا بدّ أن نجسّدها في الواقع .
وعليّ(ع) جاهد المشركين في بداية شبابه ، وانطلق في حياته كلّها من بَدرٍ إلى أُحُد إلى الأحزاب وخيبر وحُنين وكلّ مواقع جهاد رسول الله(ص) حيث وقف عليٌّ مجاهداً لإعلاء كلمة الله، وليكون الدّين كلُّه لله ومن أجل أن ترتفع كلمة التوحيد ولإسقاط استكبار المستكبرين حين كانت قِوى الشرك تُمثّل الإستكبار الذي يضطهد المستضعفين، ولهذا كان عليّ(ع) نصير المستضعفين ضدّ المستكبرين، وقف عليّ(ع) ضد اليهود في خيبر وغزوة بني النُضير وبني قُريظة، لأنّه كان يعرف خطورة اليهود على الواقع الإسلامي كلّه.
_ مواجهة الإستكبار :
نحن الآن أمام التحدّي الذي نواجهه : هناك شرك سياسيّ يتحرّك في العالم وهو المتمثّل بالمستكبرين ولا سيّما الإٍستكبار الأميركي الذي يريد أن يفرض نفسه على كلّ مواقع المستضعفين ليصادر ثرواتهم وليمنع نموّهم الإقتصادي وليجعلهم هامشاً من هوامش سياسته واقتصاده وكلّ واقعه وحاضره .
إنّنا نواجه هذه القضيّة والفتن تماماً كما كان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم، فأمريكا تريد أن تفتن المسلمين عن قضاياهم كلّها بما في هذه القضايا قضيّة الإسلام الحركيّ ، فكيف نواجه الموقف ؟ هل نخضع وننحني أم نقف لنقول كما قال عليّ(ع) لأخيه عقيل: ” والله يا أخي لو برزت اليَّ العرب، واجتمعتْ عليّ لما وَلّيتُ عنها هارباً”.
نقف وقفة لنتحمّل مسؤولية الحفاظ على الإسلام .
هل يكفي أن نزهو ونفخر ببطولات عليّ (ع)؟ وعليٌّ هو الفخر والعظمة والزهوّ والبطولة !
هل يكفي أن نقول مع ابن أبي الحديد المعتزلي:
يا قالع الباب الذي عن هزّه
عجزت أكفٌ أربعون وأربعُ
أم أنّنا نعمل على تقوية سواعدنا لتكون في قوّة ساعد عليّ(ع)!؟ ونقوّي مواقعنا لتكون في قوّة مواقع عليّ (ع) حتى نستطيع أن نُعذَر إلى الله أنّنا انطلقنا من أجل عزّتنا وعزّة الأمّة كلّها.
_ علي ع وقضايا عصره
إنّ التحدّي كبير وجليل، ويوجب الإنطلاق لمواجهته، وقد كانت عظمة عليّ (ع) أنّه عاش كلّ قضايا عصره وأنّه واجه كلّ تحدّيات عصره وأنّه أطلق التحدّيات في مواجهة الآخرين. فعليّ(ع) هو الإنسان الذي تحمّل المسؤولية أمام الله في كلّ شيء، وقضى ما عليه راضياً لله شاكراً لأنعمه ولا بدّ أن نعيش قضايا عصرنا ومشاكل أمّتنا ونواجه التحدّيات الكبيرة حتّى لا نكون مجرّد هامش من هوامش الصهيونيّة ومجرّد تابع من توابع الإستكبار الأمريكي.
إنّ علينا أن ننطلق من تخطيط الرسول وعليّ والأئمة، لا أن ننطلق من ردّات الفعل ومنهج الفوضى، فلنخطط لخمسين سنة ولمئة سنة ، لنبدأ الخطوة الأولى المنطلقة في اتّجاه النّصر والقوّة. لا أن نكون في الواقع الذي نستضعف فيه بعضنا البعض ونجبِّن بعضنا البعض.
_ مسؤوليَّة الإنتماء لعليّ :
إنّ انتماءنا إلى عليّ(ع) في الخطّ يحمّلنا مسؤولية كبيرة، وتلك المسؤولية هي أن نتحرّك في الخطوط التي تحرّك بها عليّ (ع) وننطلق في الآفاق التي انطلق بها. أن ننطلق في الورع والعفّة والإجتهاد في تحمّل المسؤولية والسّداد في الرأي وهو ما يريده عليّ(ع) نكون في خطّ ونهج عليّ(ع). وذلك هو معنى التشيّع لعليّ ولخطّ الإسلام الحركيّ الرافض للباطل كلّه وللظلم كلّه وللإنحراف كلّه عن خطّ الله ورسوله.
فليعش عليّ (ع) في عقولنا وقلوبنا وخطواتنا وسعينا وجهادنا وعلمنا وحربنا وسلمنا لنكون الموالين والمشايعين لله في الخطّ الذي لم يتنفّس فيه عليّ سوى رضى الله وطلباً لمرضاته.
إعداد وتنسيق

شاهد أيضاً

مرمر ومر مريم مرهم ٠٠ وهاي هيي ٠٠٠ ومع أحلى تحية لمريم المجدلية ٠٠٠

بقلم المهندس عدنان خليفة ٠٠٠٠ موال : وعيت ومش عارف شو بني ٠٠ وصفولي المريميي …