من هي سماح ناصر التي تبرعت بايجار مكتب للجنة المعتقلين عندما تخاذل الجميع.

15 عاماً من دون مقر وبياناتنا بخط اليد.

سألني مرة أحد الاصدقاء، كم عدد مقراتكم وجهازكم الإداري والتنظيمي وموازنتكم المالية والمستشارين لديك يا أخ محمد؟

صُدم ودُهش عندما أخبرته بأننا إنطلقنا من العراء والاجتماعات الاولى كانت في منازل الاسرى المحررين ولاحقاً في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي  والمقاهي

لم  يكن للتجمع مقر ولا موازنة ولا وسيلة نقل ولا سكرتاريا منذ تأسيسه أوائل العام 1984. البيانات بخط اليد، واذا أردنا توزيع دعوة لمؤتمر أو اعتصام كنا نسير مشياً على الاقدام الى الحمرا ومراكز الصحف أو نرسلها بالفاكس من إحدى المكتبات. عناوين الصحف والجمعيات والاحزاب كتبناها على الاوراق ومازلتُ أحتفظ بها.

وعندما نضطر لإجراء مكالة هاتفية كنا نطرق منازل أصدقاء أو نقتنص إستراحة هاتف في مقر حزبي لأخذ موعد وفي إحدى المرات خاطبني أحدهم:اهلاً بأبو التليفونات!!

تسع سنوات من عمر تجمع معتقلي انصار مشردين من دون مقر نتنقل انا والرفيق علي سرور من مكان الى آخر، ننحت المستحيل متطوعين، متصوفين متيمين وباللحم الحي كما يقولون لابقاء قضية المعتقلين حيه وإثارتها محلياً وعالمياً. لم تزعزع إرادتنا لا التقصير الرسمي ولا “الوطني” ولا محاولات الهيمنة والتضييق من كل حدب وصوب على التجمع، ولاحقا لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين. فواجهنا حرباً شعواء لعرقلة انشطتها ولكن وبنفس الارادة الفولاذية شقت اللجنة ملحمة مقاومتها وحملتها من اجل حرية المعتقلين. توزعت اجتماعاتنا بين المجلس الثقافي للبنان الجنوبي ودار الندوة ومكتب الصديق د.عصام نعمان في الحمرا الى أن أعلن نقيب الصحافة الراحل محمد البعلبكي نقابة الصحافة مقراً مؤقتاً للجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين وانشطتها.

وأردف صديقي :

وكيف استطعتم الاستمرار والصمود من دون مقر ووو؟

في مساء أحد الايام أواخر العام 1997 وفيما تجتاحني افكار شتى لايجاد مخرج من الازمة التي يشتد خناقها حول اللجنة وحولي رن جرس هاتفي:

صوت رقيق، رخيم أُريد أن أراك وأناقش معك مشروعاً يهمك.

إتفقت معها على اللقاء في اليوم التالي في مقهى المودكا في الحمرا كما اقترحت . تزاحمت الأفكار في رأسي، من هي هذه؟ وماذا تريد مني؟ هل هو فخ يُنصب لي؟ هل هي مرسلة من جهات معنية؟ أفكار عديدة متناقضة طغت على تفكيري. صممت ان اذهب الى المودكا وأعرف ماذا تريد؟  صافحتني وكأنها تعرفني من سنين:

أنا سماح ناصر ، قضية المعتقلين تحوز على اهتمامي  وأتابع نشاط لجنة المتابعة من خلال حضور بعض المؤتمرات التي تعقدونها في نقابة الصحافة اللبنانية والاعتصامات وأعرف مدى الصعوبات التي تواجهها لجنتكم، لذلك قررت أن أساعدك واقف الى جانبك اذا وافقت على ذلك؟

كنت أتأملُها بدهشة، صاغياً بكل جوارحي الى حديثها وإهتمامها بعذابات الاسرى ولكن كان صوت في داخلي يحذرني بالتمهل.

سألتها ما نوع المساعدة التي ترغبين بتقديمها؟

– اعرف انكم تعملون من دون مقر وتصارع للحفاظ على استقلالية اللجنة وعدم الارتهان لأحد .

صحيح منذ تأسيس تجمع معتقلي انصار ولجنة المتابعة نعمل من دون مقر منذ 15 عاماً وفي ظل ظروف لا يتصورها العقل.

– في لقاءي الاول مع هذا الملاك الهابط من الخيال واللامعقول كنت صامتاً ومستفسراً ومتوجساً من مشروعها.

– الشكوك تحاصرني ولكن شعوراً خفياً والحماس الذي يلمع من عينيها بدد قليلاً من هواجسي المشروعة واتفقت معها على لقاء آخر في اليوم التالي لاستكمال النقاش.

رحبت والتقينا في المودكا مرة ثانية.

كانت تشتعل حماساً فقلت لها:

– لا يمكن لعاقل ان يرفض المساعدة، فقاطعتني:

– انا أستأجر المكتب وأُجهزه باللوازم المكتبية، طاولات، كراسي، كومبيوتر وأتعهد بدفع إيجاره وأنت تستلم المفتاح ولن ترى وجهي أبدا، ما أريده هو تقديم هذه المساهمة، المساعدة للجنة عظيمة ومناضل أُقدره حتى تواصلون أنشطتكم بحرية لأنه من المستحيل الاستمرار من دون مقر.

– وكيف سنبدأ؟

سأضع إعلاناً في جريدة خاصة بالاعلانات وأحاول ان يكون المكتب في منطقة كورنيش المزرعة تسهيلاً لعملكم، وعندما أجده مناسباً سأتصل بك لتعطيني الموافقة.

بعد إسبوع اتصلت سماح بي واعطتني عنوان المقر في كورنيش المزرعة لأُعطيها الموافقة.

قلت لها وانا بحالة من الذهول مما يحصل معي وكأنه فيلم سينمائي: جيد، كنت سأقول لها موافق ولو كان المكتب خيمة أو غير صالح للاستعمال.

سلمتني المفتاح وقالت لي خلال اسبوع يكون المكتب مجهزاً بالمستلزمات المطلوبة.

بعد 15 عاماً صار للجنة مكتب او بندقية كما تقول ام كلثوم في اغنيتها الشهيرة. نجتمع فيه ننطلق منه واكثر حرية واكثر استقلالية. ونحافظ على ارشيفنا المبعثر. مرحلة جديدة نوعية بدأت في مسيرة لجنة المتابعة لدعم قضية المعتقلين  وحملتنا التضامنية محليا وعالميا.

لم تكتف سماح باستئجار المكتب فبعد حوالي شهرين طرحت عليّ مشروعاً لدعم الاسرى المحررين للتخفيف من معاناتهم وذلك باستئجار محل لبيع العصير يديره اسرى محررين ويعود ريعه لعائلاتهم.

المحل كان في منطقة الشياح ولكن الخطوة رغم اهميتها وفرادتها والأُولى من نوعها لتأسيس مشروع لمساعدة الاسرى المحررين في ظل تقصير الدولة وإهمالها لم تنجح بعد شهرين من افتتاحه.

بعد حوالي سنة ونصف جاءت سماح الى المكتب “مكتبها” وقالت لي بصوت متهدج بأنها على ابواب الزواج ولن تستطيع الاستمرار في دفع ايجار المكتب البالغ 300$ شهرياً. شكرتها على مبادرتها العظيمة والنادرة وقلت لها: اذا كان حبيبك من عسل فلا تأكله.

سماح ناصر الفتاة السيدة النبيلة رفضت ان أُذيع اسمها أو أُخبر أحداً أو أُعلن بأنها هي التي استأجرت لنا المقر وتمنت أن يبقى هذا سراً بيني وبينها لانها تعتبر المساعدة واجباً وطنياً وليس للتباهي والاعلام.

واصلت سماح المشاركة في انشطة اللجنة وعندما حصلنا في العام 2007 على مشروع تأهيل ضحايا التعذيب من الاتحاد الاوروبي عرضتُ عليها ان تكون مديرة المشروع تكريما لها ولكنها رفضت بسبب عملها الوظيفي.

سماح ناصر:

لا أجد الكلمات لأُعبر لك عن شكري واعتزازي بشخصك ونبلك. فقدمت ما لم تقدمه الدولة ولا القوى السياسية المعنية للجنة وتالياً لقضية المعتقلين ولي شخصياً، واستميحك بعد 23 عاماً أن أُفصح عن إسمك واكشف “السر” الذي لم أعد احتمل بقاءه مدفوناً يفرفر في قلبي وحروفي بأن وردة جنوبية، لبنانية، ملاكاً، مقاومة انسانية أقدمت على مبادرة نادرة برمزيتها ومدلولاتها على اقتطاع جزء من لحمها وتعبها وعشقها لدعم قضية ولجنة من اجل حرية وطن وتراب وماء وشجر.

سماح ناصر:

ما زال المكتب يفوح بأريجك وابتسامتك وبات مقراً، خيمة لكل المقاومين والمدافعين عن حقوق الانسان ومناهضة التعذيب في لبنان والعالم.

سماح ناصر بك وبأمثالك قاومنا وانتصرنا يا سماح.

السماح (من مذكرات محمد صفا)

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …