جان عبيد.. قتيل الثقافة!


د. هاني علي عبدالله المستشار السياسي والاعلامي للسيد فضل الله.

… في إحدى زياراته لسماحةالمرجع السيد فضل الله( رض) .. وفيما كنت أودّعه قبل أن يصعد الى السيارة، استوقفته بسؤال مستفز ، جعله ينصت لبرهة ثم يُجيب باختصار.. قلت له: من قتل المتنبي؟
أجاب: قتلته كرامته..
قلت : هذا تخّلص على الطريقة الدبلوماسية..
قال: ما بيني وبينك من حوارات وخصوصاً حول المتنبي يؤكد لك أنني لا أنطق الا عن قناعة تامة في هذا الأمر…
كنت- شخصيّاً- من الذين يأخذون نصيبهم مع المثقف الموسوعي، وصاحب الحكمة في القول وفي استخدام اللغة والخطاب سياسياً كان أم أدبياً أم فكرياً وما الى ذلك..
ولعمري فإن جان عبيد من القلّة الذين مزجوا السياسة بالفكر والثقافة والأدب، لا بل هو قطبهم حتى في حواراته التي كانت وراء الكواليس والتي أطلعني على كثير منها في لقاءاتي معه في منزل سيدنا( رض) أو في مكتبه بسن الفيل وغيرها..
كان في إحدى جلساته مع سماحة السيد يسأل عن استشهاد سيدنا ببيت الشعر:
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرّهم وأتيناه على الهرم
فقاطعته على الفور أمام سيدنا مستغرباً ألا يكون قد اطلع عليه وهو من قصيدة للمتنبي يقول في البيت الذي يسبقه:
وقتٌ يضيع وعمرٌ ليت مدته
في غير أمته من سالف الأمم..
لا أدري ربما كان يمتحن ذاكرتي أمام سيدنا الذي استشهد ببيت المتنبي ليشير الى أن ” الاسلاميين لما يبلغوا بعد سن الرشد” في تعليق على مداخلة للأستاذ جان عبيد..
كان الأستاذ جان غزير الثقافة، سريع البديهة ، يسبر أغوار الأدب ولا يستقي إلا من مناهلها العذبة.. ولذلك كنت لا تملك أن تخطئ أمامه، وعلى عقلك أن يتابع حركة شفتيك حتى لا تلجلج أمامه في نهاية المطاف..
سألته مرّة في إحدى جلساتنا عن عناصر ثقافته وعمادها قال: القرآن الكريم، نهج البلاغة، ديوان المتنبي.. وأضاف: إلتقاطات من التوراة والإنجيل…
قلت له: هل تسمح بإضافة شيء جديد أخصّك به في مكتبتك.. قال بكل سرور ما هو: قلت رسالة الحقوق للإمام زين العابدين..
جان عبيد هو واحد من الذين قتلتهم ثقافتهم أو كانت السبب في استبعادهم من بعض المواقع..
ولذلك بقي رئيساً ثقافيا لجمهورية هذا اللبنان ولم يصل الى الكرسي التي وصل إليها آخرون…
جان عبيد كان أحد أئمة الفكر السياسي في لبنان ولذلك رسب في الامتحان ولم يبلغ الشوط.. هذا مع إضافات لا يتسع لها المقام هنا…
رحل جان عبيد ولما نستكمل لقاءاتنا ولاسيما تلك التي اتفقنا على استكمالها بعد رحيل هذا الوباء الذي ذهب بصديقي الذي قال لي مؤخراً: سأكون بانتظارك.. وهو يشير الى استكمال حواراتنا التي كنت أغتني فيها بدبابيس نقده وأراجيح عباراته وأفانين كلماته المتسقة المموسقة..
كان جان عبيد من الذين أحبوا سيدنا لفكره ” الكوني” وصدقه الأخوي وثقافته التي تختزن روح الأديان ورحابتها.. وكانت جلساته مع سيدنا مفتوحة على كل المعارف والثقافات والسياسات… أوه كم خسرت في هذا الغياب لهذه الجلسات وكن خسرت بعدها وما بعد بعدها…
قد تولى رفاقنا وبقينا
يعلم الله بعدهم ما لقينا
هل من الصابّ في كؤوسك سؤر
قد سُقينا يا دهرُ حتى رُوينا..
لم أعد أنتظر إتصالاً منك- معالي الوزير- لتسألني لمن هذا الشعر أو لتوجيه نقد في استسهالي للعبور فوق رابية الأسماء..
لم أعد أنتظر تعليقاً ولا إشادة
ولا حتى إشارة للقاء قريب…
عدمته وكأني سرتُ أطلبه
فما تزيدني الدنيا على عدم …
هاني علي عبدالله
بيروت 8 شباط 2021

شاهد أيضاً

ضاهر:” تمنى على الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة وقف السجالات العدائية “

تمنّى النائب ميشال ضاهر على “الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة”، وقف “السجالات العدائيّة في ما بينها، وإيلاء …