الاتحاد الأوروبيّ: بين سيادته في الداخل و رضوخه لضغوط الخارج!

د. عدنان منصور*

أن تخضع دولة صغيرة في العالم لإرادة دولة كبرى، قديعتبر أمراً واقعياً من حيث المبدأ، بسبب طبيعةالعلاقات، وتأثيرات موازين القوة والنفوذ والهيمنة عليهالكن أن نرى كتلة دولية كبرى كالاتحاد الأوروبي، بكلّحجمه السياسي والاقتصادي والمالي، والعسكري، يسيروراء دولة كالولايات المتحدة، ينقاد إليها، ولا يستطيعالخروج عن إرادتها، او يسلك نهجاً مستقلاً مغايراًلسياساتها، وإنْ كانت هذه السياسات ظالمة تعسّفيّة بحقالدول، والشخصيات، والأفراد، والمؤسسات، فهذا أمرمستغرب، ويسقط كلّ الشعارات البراقة، والمبادئالإنسانيّة التي لم يتوقف الاتحاد الأوروبي بدوله السبعوالعشرين، عن الحديث عنها، والتشدّق بها، وإعطاءالدروس، وإظهار حرصه الكبير على قيم العدالة والحريةوالديمقراطية والسيادة وحقوق الإنسان.

يبدو أنّ الاتحاد الأوروبي، الذي يضمّ دولاً فاعلة فيه، كانتفي ما مضى رمزاً للاحتلال والاستبداد والظلم وقهرالشعوب، لا زال مُصراً على الإمعان في قراراته غير العادلةالتي تبتعد في أمور كثيرة عن القيم والحقوق الإنسانيةالتي ما انفكّ عن الترويج لها والمطالبة بها.

كيف يمكن للاتحاد الأوروبي الحريص على حقوق الشعوبوالدول، أن يتجاهل القرارات الأمميّة، ويظهر عجزه فيتنفيذها، لكونه يمالئ ويتماشى مع سياسات الولاياتالمتحدة ورغباتها بلا تحفظ، ومن دون أن يجرؤ على رفضما تمليه عليه واشنطن لا سيما في الأمور والقضايا التيتتعلق بدول وشعوب في العالم.

أيّ سيادة هي هذه السيادة لكتلة عالمية، لا تجرؤ أنتلتزم باتفاق أمميّ نوويّ موقعة عليه، لتطبقه نصاً وروحاً،

لكون واشنطن انقضت على الاتفاق وخرجت منه، ثمعادت إلى فرض العقوبات مجدداً على إيران!

أراد الاتحاد الأوروبي أن يظهر للعالم من حيث الشكل، أنهيحترم الاتفاق النووي ويلتزم به، بعد أن أعلن عن عدمانسحابه منه، واستمراره العمل بهإلا أنه وضع الاتفاق فيما بعد جانباً، ولم يلتزم بتطبيقه، لأنه لا يستطيع ان يقوللواشنطن لا، ولا يمكنه بالتالي أن يرفض قرار الرئيسالأميركي ترامب ويخرج عنهالاتحاد الأوروبي الذي لميستطع الخروج عن طوع الإدارة الأميركية، أراد أن يغسلماء وجهه أمام طهران ودول العالم، ليقول لاحقاً، إنهسيعتمد آلية جديدة عبر شركة انستكس Instex للتبادلالتجاري مع إيران، لكسر قرار ترامب القاضي بحظرالتبادلات معها تحت طائلة فرض العقوبات على الدولوالهيئات المتمنعةرغم ذلك وللأسف، لم يتمكن الاتحادالأوروبي من تطبيق هذه الآلية، لكون سيد البيت الأبيضالذي له كلمة الفصل، لا يروق له ذلك في هذا الشأن،وعلى الاتحاد الخضوع والرضوخ والالتزام بالقرارالأميركي.

حال الاتحاد الأوروبي مع إيران، لا يختلف عن حاله معقضية الشعب الفلسطيني، والنازحين، وممارساتالاحتلال الصهيونيّ في مصادرته للأراضي، وتهجيرالسكان، وبناء المستوطنات، وزجّ آلاف الأحرار فيالمعتقلات، وحصار الفلسطينيين في مناطقهم، كلّ ذلكيجري على مرأى من العالم والاتحاد الأوروبي بالذات، مندون أن يجرؤ مسؤول رفيع فيه، على إدانة واضحة صريحةمباشرة لـ «إسرائيل» أو المسؤولين فيها عن ممارساتهاالإجرامية التي تتعارض كلياً مع مبادئ حقوق الإنسان،ومع شعارات الاتحاد الأوروبي التي يرفعها وينادي بهافهووإنْ فعل، فإنّ فعله لا يتجاوز مفردات الأسف الخجول،لذرّ الرماد في العيون لا أكثر.

اين الاتحاد الأوروبي من حقوق شعب فلسطين والدولةالفلسطينية؟أين موقفه من عمليات الإرهاب،والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على المناطقالفلسطينية، وعلى سورية، وإيران، والانتهاكات اليوميةللسيادة اللبنانية، وخرق العدو المتواصل للقرار 1701؟!

هل يجرؤ زعيم أو مسؤول كبير داخل الاتحاد الأوروبي،على توجيه اتهامات رسمية مباشرة لمسؤولين«إسرائيليين»، كما يفعل حيال زعماء دول حرة تعارضسياسات التسلط والنفوذ والتدخل في شؤونها؟وهل لهالقدرة على اتخاذ إجراءات وعقوبات ضدّ قادة الكيانالصهيونيّ لمسووليتهم عن قتل المدنيين، وتدميربيوتهم، وتهجيرهم من أراضيهم؟!

هل يجرؤ مسؤول في دول الاتحاد الأوروبي أن يوجهانتقاداً مباشراً، أو إدانة قوية لا لبس فيها لمسؤول«إسرائيلي»، من دون أن يدفع الثمن؟هل يجرؤ الاتحادالأوروبي على توجيه التهمة المباشرة وإماطة اللثام عنالجهات التي تموّل وتدرّب وتزوّد الفصائل الإرهابية فيسورية والعراق وغيرها بالسلاح ويكشف النقاب عنهاويسمّيها بأسمائها ويدينها ويعاقبها اذا كان فعلاً يحاربالإرهاب؟!

هل اتخذ الاتحاد الأوروبي مرة، إجراء عقابياً ضدّ مسؤولعسكري «إسرائيلي» ارتكب مجازر ضدّ الفلسطينيين؟لكن أن يظهر الاتحاد الأوروبي خنوعه الفاضح أمام ضغوطالولايات المتحدة، وأمام تأثيرها المباشر، والابتزازالصهيوني المتمثل باللوبيات اليهودية في أوروبا والعالم،فهذا ينتقص من شفافيتها وصدقيتها وكرامتها، ما يجعلنانقول بصوت عال، انّ الاتحاد الأوروبي فقد نزاهتهوحياده، وقيَمه التي ينادي بها، عندما ينجرف في فرضالعقوبات من دون ضوابط، ووجه حق على إيران وفنزويلاوروسيا وسورية وغيرها، وعلى مسؤولين وشخصياتومؤسّسات، ولا يستطيع أن يقول كلمة حق واحدة فيوجه قوى الاستبداد والإرهاب التي تنتهك حقوق الدولوالإنسان يومياً، والتي تنشر الدمار والقتل في أنحاء عديدةمن مناطق العالم.

إنّ فرض عقوبات على وزير الخارجية السورية فيصلالمقداد،

أسقط مرة أخرى ورقة التوت عن الاتحاد الأوروبي، ليظهرمدى عداءئه ونقمته على الدول التي ترفض السير فيسياسات دول الهيمنة والتسلط والاستبداد، سياسات لايريد أن يتخلى عنها الأوروبيون، تحت ذريعة الحفاظ علىالحرية وحقوق الشعوب، وهم في الحقيقة في خندقواحد مع الولايات المتحدة، لا يبحثون إلا عن مصالحهم،وامتيازاتهم، ومواقعهم، ومكاسبهم، وتحقيق أهدافهم،وإنْ جاءت على حساب القيَم الانسانية، وداست علىمفاهيم الحرية والديمقراطية.

إنّ العقوبات على وزير الخارجية السوريّة فيصل المقدادتكشف مدى الترهّل والفشل السياسي والانحدار الأخلاقيوطريقة التعاطي السيّئ من جانب الاتحاد الأوروبي الذييهتمّ بشؤون المنطقة، ويريد أن يكون له الدور الفاعلفيها، ما يجعلنا نتساءلكيف يمكن للاتحاد الأوروبي أنيلعب دوراً للمساعدة في حلّ المشاكل في المنطقة، وهويضع على لائحة العقوبات وزير خارجية لدولة هي قلبالمشرق ومحوره ونبضهوهل فرض الحظر على الوزيرالمقداد سيساعد على تعزيز الجهود الهادفة الى إرساءالسلام والأمن في سورية؟وأي دبلوماسية ستستخدمهاأوروبا للتواصل مع سورية إذا ما دعت الحاجة اليه،ورئيس الدبلوماسية فيها على لائحة العقوبات؟!

هل يملك الاتحاد الأوروبي فعلاً قراره السيادي المستقل،ويتصرف بحكمة وموضوعية وبمسؤولية كاملة تجاهالمشاكل العديدة التي تعترض المنطقة، خاصة قضيةالشعب الفلسطيني وقضايا دولها، بمعزل عن ضغوطورغبات وإملاءات الولايات المتحدة واللوبيات اليهوديةفي العالم؟

مما لا شك فيه، أنّ قرار الاتحاد الأوروبي الأخير ضدّ وزيرالخارجية فيصل المقداد، يضع على المحكّ، مدى أخلاقالسياسة للاتحاد الأوروبي، ونزاهته وشفافيته، وصوابيةقراره، عندما يكيل بمكيالين، ويفقد صدقيته في تعاطيهمع شعوب العالم وقضاياها التي عانت لقرون منالاستبداد والتسلط التي مارستها بحقها دول فاعلة ومؤثرةداخل الاتحاد الأوروبي.

فمتى يتحرّر الاتحاد الأوروبي الذي دخل بإرادته أو قسراًبيت الطاعة الأميركي، ويخرج منه، ليقف بملء إرادتهبجانب الشعوب الحرة التي قالت كلمتها، رافضةالإملاءات، والتبعية، والضغوط، والخضوع، والطاعة لأيّجهة كانت؟!

أليس الأجدر بالاتحاد الأوروبي أن يستعيد ثقة الشعوبالحرة في المنطقة والعالم، باتباع سياسة إنسانية نزيهةعادلة، تعبّر فعلاً لا قولاً عن القيَم والمبادئ الحقة، بدلاًمن ان يكون تابعاً

خلف الطغاة، مطيعاً منحازاً لهم في ظلمهم، وقهرهم،واستبدادهم؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

المصدر: البناء

شاهد أيضاً

إمام استقبل وفدًا من قوى الامن في مدينة طرابلس: “حفظ الأمن في المدينة اولوية”

استقبل مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام في مكتبه في دار الفتوى في مدينة طرابلس …