” في طاحونة الذِّئاب” لـ عبد المجيد زراقط


✍️بقلم الدكتورة هدى معدراني أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية

التَّجنيس، وثلاثيّة : الحبّ ، العائلة، الوطن
سؤال أساس تثيره قراءة ” طاحونة الذّئاب” هو : هل هي رواية، أو مجموعة قصص قصيرة، أو سيرة ذاتيَّة ؟

في الإجابة عن الشقِّ الأوَّل من هذا السؤال ، نرى أنّ بناء الرواية يتشكَّل من قصّة إطار هي قصّة حبِّ الأستاذ التي تبدأ الرواية وتنتهي بها ، والأستاذ هو الشخصية الرئيسية في الرواية ، ولا يُسمَّى للدَّلالة على أنَّه يمثِّل شخصيَّةً عامَّة هي شخصيَّة المثقف اللبناني في مرحلة الستينيّات من القرن الماضي. تنتظم ، في سياق هذه القصّة الإطار ، قصص شخصيّات أخرى يكون الأستاذ شخصيَّةً مشاركة فيها ، ويُلاحظ أنَّ كلّ قصّة من هذه القصص تبدو كأنها ذات بنية مستقلَّة، في الوقت نفسه الذي تنتظم فيه، في محور يمثّل قضيَّة الرواية المركزية ، وهذا النَّوع من البناء القصصي المركَّب من قصة إطار وقصص تنتظم في مساره ، لتشكل بناء روائيا” كلِّيَّاً ، متأثرا” بالقصص التراثيّ من نحو أوَّل ، وبالقَصص الحديث من نحو ثانٍ؛ اذ إنَّ محوراً مركزياً تنتظم القصص جميعها في موقعها، من البناء الروائي ، لتمثِّله ، ولينطق بالدلالة الكلية . والمحور المركزي هو رواية قصة الحياة في القرية اللبنانية ،

وخصوصاً القرية اللبنانية الجنوبية الحدودية . وهذه القصص هي :
قصة الأستاذ العاشق الناشط سياسيّاً واجتماعيّاً وتربويّاً ، وقصّة الطبيعة الجميلة ،والأرض وعلاقتهما بالفلاحين المثمرة كروماً تتألق جمالاً و تينع ثماراً، وأبوابها مفتوحة للجميع ، وقصّة الأجير الذاهب بـ”عديلة ” القمح الى الطاحونة ، فيقتله السَّيل ، ويأسف معلِّمه على ضياع القمح وموت الحمارة ، وليس على مقتله وترمُّل زوجته وتيتُّم أبنه ، وقصّة أبنه إبراهيم عمشة الذي أخذ اسمه من اسم حبيبته عمشة ، وهي أخذت اسمها من اسمه ، فصارت معروفة بعمشة ابراهيم ، كما العشاق الكبار في التاريخ ، وهما العاشقان اللذان انتصرا على الفوارق الطبقيّة والعائليّة ، وغدت قصّة حبِّهما مثلاً يُضرب في القرية. وابراهيم هو المناضل الذي تطوَّر وعيه من إحساس فطريّ بالظلم ومقاومته الى وعي ثوريّ ، وقصّة الراعي حسين الحاج أحمد الذي رفض اقتطاع العدوِّ الصهيوني لأرضه ، وذهب بقطيعه إليها ،وغالب الحارس الصهيوني وغلبه ، لكنّ الدورية اعتقلته ، وليس من حامٍ له ، وقصّة المزارع أبي جواد، الذي كان يُموِّن المنطقة بخضاره وإنتاج مزرعته ، وعندما بنى قنَّاً جاء الدرك واعتقله ، وقصّة محمد الذي قاوم زلم البيك الذين أرادوا سرقة حصان أبيه ، فقاومهم ، وهاجر ، وعاد باسمه الجديد ” ماماد” ، بعد سنين طويلة ، ليستثمر أمواله في تنمية المنطقة ، فأعاد حفيد البيك سيرة جدِّه ، وقصّة أبي شكيب، عميل المخابرات ، وجبَّار المرابي …وقصّة السّلطة التي لا يربطها بهذه البلاد سوى المخابرات والدرك ومعاقبة من يقاوم الفساد ويسعى إلى الإصلاح الخ من قصص…

يربط هذه القصص عنوان هو محرّك النّص، وناظم إيقاعه، وهذا العنوان، وعلى الرغم من رمزيته البارزة وتعالقه التناصّي مع عناوين روائيّة أخرى، يبدو واضح الدلالة، إذ يستدعي الحضور، في العنوان، الغياب: الذئاب تستدعي الأغنام لتمثل أمام القارئ ثنائية القاهر والمقهور، الظالم والمظلوم، المستبد والعاجز، القوي والضعيف. لكن هذه الثنائيّة تحتِّم حضور طرف ثالث يأبى أن ينساق مع القطيع، يمثّله المقاومون الذين يثورون على الذئاب فيظفرون بالإهداء : ” إلى الذين يقوون على الذئاب” (زراقط، عبد المجيد، 2020، في طاحونة الذئاب، مركز ليفانت للدراسات والنشر، ص.5).

يمثّل العنوان “طاحونة الذئاب” واسطة العقد للقصص والحكايات والأحداث، ويشكّل مدخل النّصّ الرّوائي الذي تعضد أواصره ثلاثية هي: الحب، العائلة، الوطن، فتدور هذه العناصر في رحى طاحونة لا تنفكّ تدور وتطلب: ألا من مزيد؟ وتدير هذه الطاحونة وتسيطر عليها ذئاب بشريّة.

وهنا يمكن الإجابة عن الشق الثاني من السؤال ، فهذا البناء المركَّب الذي تبيَّنَّا مكوِّناته هو بناء روائي ، وليس بناء سيرة ذاتية ، وان كان من سيرة فهي سيرة فضاء روائيّ لمكوِّن من مكوِّنات الجمهورية اللبنانية في اَونة من الزمن عرفت مناطق محدودة من هذه الجمهورية ازدهاراً ، سيرته من مختلف النواحي ، وفي علاقته بالكيان الاستيطاني، وبالمحيط العربي . وهكذا يمكن أن نفهم استهلال هذه الرواية .

استهلّ عبد المجيد زراقط ” طاحونة الذئاب” بمقدّمة يقول فيها: ” لكلّ من يرى أنّ ما يقرأه سيرة أو تسجيلًا للوقائع: لا، ليس الأمر كما تعتقد… ليست سيرة ذاتية. هذه رواية …”(ص.7)
تذكّرنا هذه العبارة بعبارة ربيع جابر الشهيرة في مستهل رواياته : ” هذه الرواية من نسج الخيال، وإنّ أيّ شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها مع أشخاص حقيقيّين هو محض مصادفة “. لكنّ معظم رواياته مستلّة من التاريخ وتحكي سيرة ذلك الزمن الذي شكّلها ، وكذلك الحال في هذه الرواية، لكنّ التاريخ في هذه الرواية ليس تاريخ الأحداث السياسية ، وإنّما تاريخ الحياة المعيشة متحوِّلة الى نصٍّ روائي من منظور يرى الى العالم من موقعه المجتمعي والايديولوجي .وهذا يعني أنَّها ذات مرجع واقعي تصدر عنه وتغايره وتنطق برؤية اليه، وهذا لا يخلّ بالنصّ الروائي، فالرواية ، بعامّة، تتناول أحداثًا متخيّلة ذات مرجع واقعي.
وأرى أنَّ هذه المقدّمة قدّمت وظيفتين:
أوًلًا : تجنيس العمل إذ أعلن المؤلف أنَّه يكتب رواية لا سيرة ذاتية ، أي نحن أمام عمل روائي متخيّل.
ثانيًا: إثارة المتلقّي ؛ إذ أثارت هذه العبارة القارىء الذي يكون عادة ممتلئًا بالشكوك، لأنّ إنكار السيرة الذاتيّة هو عملية توجيه القارىء تجاهها، فما عاد القارىء يستبعد السيرة الذاتيّة أو بعض ملامحها، ما حفّزه ليبحث في حياة الكاتب علّه يحظى بما يثبت ظنونه ، وبخاصّة أنّ الكاتب مزج ، في هذه المقدمة ، الواقعي بالمتخيّل، فتضمّنت هذه المقدّمة حواراً بين الكاتب وأفراد عائلته، ومهّد هذا الحوار للشخصيَّتين النسائيّتين الرئيستين في الرواية، وبرز ما يشي بغيرة الزوجة من هاتين المرأتين، وإسراع الكاتب إلى التوضيح والتسويغ: قالت لي ابنتي مهى : وصلتك رسالة. قال ابني فادي: وصلت رسالة أمينة، وضحك، وهو ينظر إلى أمّه. قالت زوجتي: من هي أمينة ؟ من هي نهى؟ لم تخبرني عنهما… قلت : هذه ليست سيرة ذاتية. هذه رواية” (ص. 7). لا يهمُّنا من هذه المقدمة إذا كانت الرواية مبنية على أحداث حقيقيّة حصلت أم هي متخيّلة، فالرواية، كما ذكرت، تتناول أحداثّاً متخيّلة ذات مرجع واقعي. لكن ما يعنينا في هذه المقدمة إطلالة الشخصيتين النسائيّتين، ما يعني دورهما الفاعل في الرواية . فكيف تشكّل الحبّ في ” في طاحونة الذئاب”؟ هل كان ذئبا” في وجه من عارضه أم كان ضحيّة الذئاب ؟ وهل وجد الحب لنفسه مكانًا يتحقَّق فيه والوطن يتمزّق بين أنياب الذئاب؟
إذا كان موضوع الوطن ومقاومة الاحتلال والفساد يشكّل ” تيمة ” لازمة متكرّرة في كتابات عبد المجيد زراقط، فإنّ موضوع الحبّ والمرأة يحضر حضوراً لافتًا في هذه الرواية ، فيطلق الكاتب اسم هاتين الشخصيتين النسائيتين من دون سواهما في المقدمة، كأنه يقوم بإعلان يمهّد بزوغ فجر هاتين الشخصيتين في حياة البطل، وفي أحداث الرواية، وهذا ما لم نشهده في روايات عبد المجيد زراقط السابقة؛ إذ كان دور المرأة فيها ليس دور شخصيات أساسية ، وكان الحبّ يعبر بسرعة كإطلالات شمس الربيع . ليس هذا فحسب، بل تنتهي الرواية بالمرأة أيضًا فتتكوّن الوحدات السرديّة الأخيرة من قراءة البطل رسالة غراميّة من حبيبته أمينة ، ثمّ قراءة ما كتبته له حبيبته ” نهى” التي أحبّها بصمت، ولم يعلمها بذلك، وتتضمّن كلمات نهى، مع اختصارها، وعيًا بالواقع وخوفًا على البطل من ذئاب هذا الواقع. واللافت ، في حضور المرأة ، في هذه الرواية أنَّ القروية عمشة تستطيع أن تحقق مالم تستطع أمينة ابنة المدينة من تحقيقه ، وهذا الإنجاز ينتظم في المحور المركزي الذي تحدَّثنا عنه اَنفاً .

يبرز الحسّ الوطني القومي مع الصفحة الأولى : ” نريد أن نشارك في حرب التحرير، وندخل فلسطين” (ص. 9) ، ويتجلّى هذا الحسّ الوطني في صفحات الرواية كلّها، وتكثر الذئاب، وتتكرر الكلمة لفظًا ومعنى.

أشكال الذئاب كثيرة وكذلك أفعالهم، والذئب الخارجي الذي استقوى على الوطن ما كان ليقوم بذلك لولا تنصيبه ذئابًا يحكمون العباد، ويخربون البلاد، ويديرون طاحونة الظلم والفساد والاستبداد سيد الموقف.
يتجلّى الذئب الأول في العدوّ الصهيوني، والعالم العربي بأسره نعاج ” يحاربون بالخطابات”(ص.16)، وليست أي نعاج، إنّها نعاج غبيّة : ” ما حدث، ويحدث عكس ما تذيعه إذاعاتنا، منذ بدء الحرب حدثت الهزيمة” (ص. 18)

وهذه الثنائية الدّالة، ثنائية الذئاب والخراف تحضر في مفاصل الرواية كلها:
الطغمة الحاكمة تستبدّ وتجعل الناس يعيشون محرومين من الماء والكهرباء والمدارس والرعاية، وتسود سلطة الذئاب وسطوتهم في مؤسسات الدولة، فيتحكّمون في أرزاق الناس، فتظلم شركة الريجي المزارعين، ولا تأبه لمطالبهم، وتنشط ” البراطيل”، والرشاوى، ويُستبعَد مَن يينتصر للحق: ” خلصنا منّو. صار بآخر الدنيا.. قال بدّو يدير المدرسة والبلد كمان. مش عارف مع مين علقان؟” (ص.207)، وتنتصر الذئاب:” هزمتنا الذئاب هذه المرّة” (ص.166)، وتتكرّر الهزائم .

يتمثّل الذئب الثاني في خنق الحبّ والقضاء عليه، فيُقتَل الحبّ في المهد، وتستذئب الحبيبة ” نهى”: ” أنا أستبدّ بمن يحبّني … إنّما العاجز من لا يستبدّ” (ص.15)، فهل يتحوّل البطل إلى نعجة؟ يأبى البطل أن يكون من القطيع:” أنت في محلّ وأنا في محلّ آخر” (ص. 16) ، وتدرك ” نهى ذلك فتقول له:” أنت تريد تغيير العالم” (ص.16). لكن على الرغم من ابتعادها عنه إلّا أنها تظلّ تتابع أخباره ، فتحذّره في نهاية الرواية ، فقد أهدته رواية “اللص والكلاب ” ، وكتبت له : ” قلبت صفحة الغلاف، وقرأت في أعلى الصفحة البيضاء: لم يكن سعيد مهران لصًّا، لكنّ الكلاب لم تتركه. أنا أتابعك، ويزداد خوفي عليك من كلاب أشرس من الكلاب التي قتلته” (ص.217) وهذا يوحي بأنّ المعركة ضد الذئاب مفتوحة ، وقد لا تنتهي، فطالما هناك نعاج هناك ذئاب، لكن لا بدّ من وجود من يقوى على الذئاب:” هو العاجز من لا يستبدّ… ما أفظع العجز.. يا ناس، لمَ نبقى عاجزين؟ وإلى متى؟ ” (في طاحونة الذئاب، ص30) إلى أن يحضر من يتصدّى للذئاب: ” فقلت: ما حزر، ولن يطول فرحه” (ص.207) .

يتجلّى النوع الآخر من الذئاب في العائلة، في والد “أمينة” حبيبة البطل، سيّرها والدها كما يشاء، أجهض حبّ ابنته، ودفنه من دون موافقتها، ورفض الحبيب لفقر قريته وبعدها، ولدخله المحدود، واختلاف مذهبه. والمفارقة أنّ ” أمينة” لم تقاوم بل رضخت على الرغم من تطلعاتها الثوريّة التنويرية، فهي القائلة: ” ثغاء الخراف لا يقلع أنياب الذئاب” (ص24) وارتضت تسليم نفسها بسهولة لأشداق الذئاب مع أنها كانت مقتنعة بأنّ : ” ” أشداق الذئاب لا تستطيع بلع قرون الخراف ” (ص.24).

قضى الذئاب على حبّه، فكيف يواجه ذئاب القرية المتواطئين مع ذئاب الوطن؟ فيشكّلون عصبة تقوى بالاستذاَب، إذ لا يمكن للطاحونة أن تستمر من دون طحين وطحين الذئاب الأغنام، وهذا يتمّ باستبعاد كلّ من تسوّل له نفسه السعي الى الإصلاح ، وهل يكون الإصلاح والتغيير بغير العلم؟ والبطل أستاذ يحمل فكرًا توعويًّا تنويريًّا نيًّرًا، ويشكّل خطرًا على ذئاب القرية وأزلامهم ( البيك، أبو شكيب، المدير، الناظر) فيستبعد من مدرسة القرية.
لا ينتهي النضال، ولا تفتر همة الأستاذ وإن أُلحِق بمدرسة بعيدة من قريته إلًا أنه لا ينفكّ يثور على الذئاب فيخطب في الناس ” للتبرّع لأبناء المزارع المهاجرين” (ص. 200). وكما في كلّ مكان تتربّص به الذئاب وتعتقله المخابرات، لكن يفرَج عنه لأنّ هناك من يؤمن بقضيّته، وينتصر للحقّ، فيخلّصه مدير المدرسة الجديدة، ويتولّى القضيّة أخو ” نهى” الذي يسلّمه هدية “نهى” له ، وضمّنها رسالتها له ، فيكاد يقول : ياحبيبتي ، لكنه : يقول : يا… يانهى ، تخافين عليَّ … الاَن رأيتهم ، في اشارة الى تغيُّرها وتبادل مشاعر بينهما ، وتبقى النهاية مفتوحة ليكملها القارئ ، فيكون شريكاً فيها.

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …