باسم عبّاس في “فضاءات مغايرة”: الشاعر ناقداً


 بقلم: د.محمد قاســــــم فقيه

إذا كان النقد الأدبي يعني الفهم المنهجي لكل ما يدخل في أسلوب التعبير المكتوب وكل ما يدخل في التطور الإبداعي في العمل الأدبي فإن نقد النقد يدور حول مراجعة “القول النقدي” ذاته وقد يعاب عليه ” أنه يريد أن يذهب إلى ما هو أبعد من الاستمتاع الخالص بالقراءة”(1).

لا أدعي أن ما أمارسه في هذه الصفحات هو نقد النقد بمفهومه الواسع، ولا أريد أن أذهب إلى ما هو أبعد من التعبير عن شعور جميل انتابني وأنا أقرأ في “فضاءات مغايرة”* للشاعر والناقد باسم عباس الذي أثبت مقولة أن في كل شاعر يقبع ناقد “يساعده على أن يعنى ببناء قصيدته، وفي الوقت نفسه يوجد في أعماق كل ناقد شاعر يعلّمه من الداخل كيف يتعاطف مع ما يقرأ”(2).

ينير باسم عباس النص على ضوء تجربته الغنية وإبداعه الخاص ، يختار اللفظ الموحي وينتقي الكلمات الدّالة، يلوّن المنظر العام للحركة الشعرية الجنوبية مضحيا بالتفصيلات، فيعنى بالأعمال المعاصرة التي  يهملها النقاد عادة، يحاورها ولا يأخذها إلى ما هو نقيض لها، يلمسها لمساً رقيقا ومحبّاً منطلقاً من القول:” لم يبن من لم يحب”(3).

يقرأ في كتابات الشعراء والأدباء ويحلّق في فضاءاتهم الشعرية المغايرة، ينظر إلى النصوص بعين الشاعر فيمنحها من روحه وثقافته وذوقه، إنه ناقد متعدّد الحرف بتعبير ياكبسون، وعلى رأس هذه الحرف حرفة الشعر، يعتمد على ذوقه الفني، يبحث في النص بحثا عميقا لاستخلاص عناصر جماله وخلوده ( بلاغته والمعاني الرائقة والتعبير الجميل) متكئا على قاعدة تقول إن  الناقد الجيد- كما قال أناتول فرانس- هو الذي يحكي مغامرات فكره عبر الأعمال الخالدة.

يشكل العنوان مركز الثقل الدلالي في الكتاب ومدخلا يعبر منه القارىء/ المتلقي إلى داخل النص، يكشف عن مفاتنه ويبرز دلالاته، إنه العتبة الأولى ينظر إليها ” بوصفها نظاماً سيميائياً وإشارياً دالاً ومكوناً جوهرياً من مكونات أي نص أدبي”(4).
تتقارب مفردة فضاءات مع مفردات ليس لها حدود كأجواء وسماء وسمو ومدى واسع وتتعارض مع المعيّن والمحدود.

وتأتي صفة المغايرة لتومىء إلى كل ما هو مباين للشبيه، ومتجاوز للعادي، ومتنافر مع التقليد، ومخالف للسائد، ومختلف مع الرائج، والغريب عن الواقع، والمتمايز عن المألوف، ويشير إلى البعد عن التطابق والتماثل والتوافق والبسيط، ويوحي بالغيري المتميز والفرداني المتألق المبدع، وقد صرح الشاعر والناقد منذ البداية بأنها ” قراءات في مجموعات شعرية وأدبية لمبدعين حقيقيين”.

تشكّل المطالع أو الاستهلالات العتبة الثانية بعد العنوان التي ينطلق منها النص، وهي تعلن عن بنية النص بكامله بوصفه جسرا نصيا يشرع فيه القارىء بالانتقال ذهنيا إلى ما سيأتي فـ”تتنوع المباني الشعرية بتنوع معانيها”(5) لتشكل مع باسم عباس وعيا انتقاليا يحتوي على إشارات ودلالات تغذي النص وتنشىء خيوطا وترابطا وجاذبية للقارىء.

تتنوع المقاربات النقدية وزوايا النظر التي يطل من خلالها باسم عباس على الأثر الأدبي، ولكن، تبقى اللغة الشعرية واحدة من أهم الأبواب التي يدخل عبرها إلى جماليات النصوص الأدبية، فلا يتحقق الإبداع إلا ” بالخلق اللغوي ومن ثم لا يكون للشعر فعل السحر إلا إذا أحسسنا أنه خلق جديد”(6).

لقد اعتنى الشاعر المجرّب بالعنصر الأساس الذي يركز عليه الكاتب، وبالغاية التي يتوخاها، فكان الكلام على اللغة: تحليلها ودلالاتها وعلاقتها مع الشعر الذي يرتبط بالوجود اللغوي، ويرتبطان معا “بإثارة النشوة والدهشة والهزة النفسية والعجب(7). وهو بذلك يولي اللغة الشعرية عناية خاصة بما هي هوية المبدع كما قال جان كوهين في تمييزه بين النثر والشعر  فإذا كان النثر هو الكلام العادي، فكلام الشاعر انحراف  بالنسبة له، والانحراف هو كل ما ليس عاديا ومتداولا، أو غير مطابق للنموذج.

إنّ للشعراء ألفاظاً معروفة وأمثلة مألوفة و” ثمة إجماع على أن الكلمة هي الأساس، وأن العلاقات اللغوية هي التي تصنع شعرا جيدا”(8) أو كما يقول أدونيس”لغة المبدع تجيء من الأصل لا من التالي للأصل، لا تجيء مما تراكم بل مما لم يتراكم بعد”(9).
لأجل ذلك يرفض باسم عباس اللغة القاموسية، ويبعد عن اللغة المكرورة، ينأى عن اللغة المعيارية العادية ويخرق النظام المألوف، يعود إلى ” لغة البكارة الأولى” ليقطف اللغة الحلم التي توحي وتثير الألوان والظلال و”تطلق سراح المعنى” كما قال جان كوهين، ”

فوحده المبدع يقدر على اجتراح كلمات تزرع في الشمس أسرارها تعطي القناديل معناها، تفجر في الأنهار عطشا لطفولة الأعشاب التي غالبا ما تحترق أعمارها، ويقدر على خلق لغة تنمو نمو الحلم على شجر الدمع، تزبد كما يزبد الموج تحت أجنحة الغيم، تخضر اخضرار الأمل في شهقات أمهات يزددن عنفوانا مع كل شهيد يضاف اسمه إلى لائحة المنتسبين حقا إلى وطن لا الهاربين من الوطن!”(10).

باسم عباس صاحب المؤلفات الشعريّة والنقديّة العديدة، الخبير بخبز الكلام، يتقصى لغة المجاز في نصوص فاروق شويخ ويرصد المعاني الطريفة،” ففي كل نص من نصوص فاروق شويخ تتجسد مقولة النفري بأبهى معانيها: تكثيف لغوي مدهش، رؤى مترامية المعاني، تنوع غني مترابط حد الأسر الممتع للمتلقي..”(11).

يستنقذنا باسم عباس من المتداول والعادي من الكلمات، ليسافر بنا على أجنحة اللغة المبتكرة والألفاظ المفاجئة والصور المتوهّجة في نصوص أسيل سقلاوي” المولعة بملاعبة الحروف، فمرة نرى حرفا يداعب كوكبا، ومرة أخرى نفاجأ بأن سماء تحتضن حروفها، هذا الاحتضان الشفيف الرهيف يجعل دمعها سجين الغيم… إلا أنّ برقا ما يحدث في فضاء روحها، يفضي إلى أن تجترح من التنهيدة أفقا، تقطّر على وسادته أدمعا قد تنكسر منها المرايا!”(12).

الشاعر والناقد باسم عباس في “ضربة معلم” يعيدنا إلى زمن الشاعر الناقد إلى عصر غوته وإليوت وأدونيس، يعيد إنتاج المعنى، يداعب الدلالات، ويدلل عشب الكلمات، إنّه يكشف في نص الشاعر والأديب بلال شرارة عن ” فضاء رحب جميل لعصافير اللغة، لفراشات الحزن، لأحصنة الطرقات الوعرة، لرجال الجرأة النادرة، لروح التمرد الذي بات ضرورة وطنية، والأهم مساحة شاسعة مفتوحة على مصراعيها لرفع منسوب الوعي..”(13).

ينشىء  باسم عباس علاقات لغوية غير اعتيادية، فيوغل مع الشاعر حسين حجازي ، “يتوغل في غابة الكلام، مرة يقطف ضمة من أوجاع، ومرة باقة من أسئلة، وفي الكثير من الأحيان يعود بأسرار من بكاء العشب وظمأ السواقي”(14)، ويتفق مع جان كوهين في” أن مسافة التوتر هي منبع الشعرية”(15)، فيرى في الحبر اشتعال الكلمات” دوي الصمت، انفجار الحس الرؤيوي بالعطر والأحلام، هو الهدير والهديل، وما بينهما من تمرد وحزن وفرح وليل طويل”(16).

يتجول مع الشاعر داوود مهنا في كتابه ” في بستان تحتشد فيه صنوف شتى من الأشجار، أو كما تتنقل نحلة من زهرة إلى زهرة إلى زهرة لتعطينا عسلا شهيا”(17).

ثم ينتقل في رحلة أخرى مع الشاعر محمد باقر جابر إلى حديقة الكلمات حيث الحروف تتشظى حبا وإنسانية ” يقطف شعاعا من الشمس” ويبصر حبرا هو” لحن ساقية، ودوي رعد، ولمعان برق، وابتسامة فجر، وعبسة ليل..”(18).

ينتقل من بر المعنى إلى بحر العلامات والإشارات مع الأستاذة يسرى مقدم التي “تجعل من زورق الحروف طفلا تلاعبه بأرجوحة الماء مستظلة بجناح النورس الحالم، صاحبة ” الحريم اللغوي” شقية ولكن بجمال، تشعل عود ثقاب، تطفئه بأهدابها ليغدو إحدى علامات مملكة الأوار العتيق، تشرب الليل فيولد الفجر نقيا، تغني الجراح فيخضر في عينيها الألم، تجعل من الظلام محبرة فتروح تشعل قناديل المعرفة، تزرع أحداقها على الورق فتورق غماما يعانق التراب، دماء كلماتها تتوهج، لا يخيفها الملح، تغدو مرافىء/ زوارق أقوى من الحصار، يحاصرها الماء؟ لا همّ فهذا الحبر يتدفق!..(19).

ويعود من رحلته محمّلا بفاكهة الرؤى والأحلام ثم يتلو وصيته إلى الشاعر جهاد الحنفي مرددا ومرنّما: “لتكن كلماتك من زنبق وضياء، وليبق قنديل زيتك متوهجا، ولتستمر ذاكرة تضيء المرايا… واطلق للكوفية السمراء مدى رحبا، وانسج قافيتك شقاوة فجر، ويقظة سر..”(20).

يأخذنا باسم عباس متسلحا بثقافة موسوعية واطلاع واسع على النظريات النقدية في رحلة مع أعلام الفكر والفلسفة والنقد والشعر مع :افلاطون وهايدغر وماركس وفرويد  ورولان بارت وغولدمان ولوكاتس وبودلير وساد ومالارميه ورامبو وأدونيس وبريتون وعزرا باوند،  يأخذ  بأيدينا إلى أرض النقد الأدبي الخصبة ويرسم خريطة له ويشير بحسه الشاعري المرهف الى الخطوط العريضة للشعر المغاير في زمن “الكابي بيست”، ويعيد صياغة نظام جديد من التصنيف، يلتقط الوقائع ويقبض على زمام اللغة ، يرتبها ويوظفها و يولّد المعاني والدلالات، يحاور النصوص ويستنطقها.

مجموعة باسم عباس”فضاءات مغايرة” خرق للعادة على حد قول أدونيس، هو لا يقيّم الشعر بأدوات الماضي بل باعتبار الحاضر والمستقبل إذ سيكون عبثا “أن نفهم الشعر الجديد بمنظار النقد القديم، فلكل إبداع جديد تقييم جديد. لكل رؤيا جديدة فهم نقدي جديد”(21)

يهدم باسم عباس في كتابه الجديد مقولة “ينقد من لا يستطيع أن يبدع” فهو ليس طارئا على مأدبة  الشعر ولا مستهلكا جشعا لها، ولا يمكن اتهامه بالجدب أو التدخل بما لا يعنيه، ولا أدري إذا كانت مغامرتي في قراءة هذه النصوص من خلال إبداعه كافية، ولكن ما هو أكيد منه أني استمتعت في رحلة القراءة هذه وسررت بما أبدعه الشاعر في محاورته نصوص الشعراء.

*عباس ، باسم،”فضاءات مغايرة” قراءات في مجموعات شعرية وأدبية لمبدعين حقيقيين، بيروت، دار عالم الفكر، ط1، 2019.
1- إمبرت، إنريك أندرسون، مناهج النقد الأدبي، تر الطاهر أحمد مكي، القاهرة، مكتبة الآداب،ط1، 1991، ص38.
2-م.ن، ص 3. 
3-عقل، سعيد، كأس الخمر، بيروت، المكتب التجاري، ط1، 1961 ص87.
4-السامرائي، سهام حسن جواد،العتبات النصية في رواية الأجيال العربية،العراق، مطبعة الديار، 2013، ص 9.
5-الخال، يوسف، مجلة شعر، عدد 27، 1963،ص 86.
6-أيوب، نبيل، البنية الجمالية في القصيدة العربية الحديثة، بيروت، المكتبة البولسية، ط1 ،1992، ص301.
7-جبرا، جبرا ابراهيم، مجلة الآداب، 1966، عدد 3، ص 59.
8-عباس، باسم، فضاءات مغايرة، ص 32.
9-أدونيس، مواقف، عدد 13 ، 1973، ص14.
10-م.ن، ص 43.
11-م.ن، ص 44.
12-م.ن، ص 53.
13-م.ن، ص12.
14-م.ن، ص 26.
15-كوهين، جان، بنية اللغة الشعرية، تر محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، ط1، 1986، ص40. 16-عباس، باسم، فضاءات مغايرة،م.س، ص 67.
17-م.ن، ص 70.
18-م.ن، ص 76.
19- م.ن، ص 89 و90.
20-م.ن، ص 114.
21-أدونيس، مقدّمة للشعر العربي، بيروت، دار العودة، ط3، 1979، ص 139 و140.

شاهد أيضاً

طرابلس عاصمة للثقافة العربية

وزير الثقافة استقبل دولة الرئيس زينة عكر: الكورة غنيّة بتراثها الثقافي وللتعاون معها لإنجاح فعاليات …