في ذكرى رحيل الأستاذ أنيس النقاش الموقر والاستثنائي نستمطر شآبيب الرحمة ونخاطب روحه النقية بالقول:

الدكتور حسن أحمد حسن **

ما يزال الفراغ الذي خلفه رحيلك المؤلم فراغاً لم يجد من يستطيع سدَّه..

تغمدك الله بواسع رحمته وأسكنك فسيح فردوسه الأعلى يا من جسَّدْتَ بشخصك الكريم حقيقة المفكر المقاوم أنيس النقاش!

……
أعيد نشر ما كتبته عن المرحوم المفكر أنيس النقاش غداة الرحيل المؤلم..

لَكَمْ أبكاني رحيل الأنيس!ّ

نعم لقد بكيتكَ بحرقة ولوعة ووجع أيها الراحل الكبير الأستاذ أنيس النقاش,, أبكيتني رغم اليقين بأنك غادرتنا إلى ملك عادل، وقد خلَّفت فراغاً هيهات أن يملؤه شخص آخر… بَكَتْكَ روحي وقلبي قبل أن تبكيك عيناي اللتان سكبتا شلال الدمع رغم تجلدي ومحاولة ابتلاع الغصة…
صباح اليوم الذي سبق الوفاة ذهبتُ إلى مستشفى هشام سنان للاطمئنان على الأستاذ أنيس النقاش، والتقيت قريبه المرافق له، وفهمت منه ومن المدير الإداري أن وضعه أفضل، لكن قلبي بقي منقبضاً من أمر أجهله، وفي عصر اليوم ذاته اتصلت بقريبه الذي أخبرني أن وضعه الصحي قد تراجع، وهو غير مطمئن..
في اليوم التالي أي بتاريخ 22/2/2021م جاءني الخبر كالصاعقة.. اتجهت إلى المستشفى ورأيت بعض وسائل الإعلام، وظهرت في بث مباشر على شاشة قناة (ا لm ن ا ر)، وفي ليلة الرحيل كانت لي مشاركة على قناة الاتجاه في تغطية خاصة برحيل الأنيس، وقد تضمنت مشاركتي مجموعة من الأفكار، ومنها:
ـ في البداية دعني استمطر شآبيب الرحمة لروح الراحل الكبير الفقيد الغالي الأستاذ أنيس النقاش تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، واسمح لي أن أتوجه بأحر التعازي لأسرته الكريمة، و للمقاومة اللبنانية “حزب الله” ولجميع جمهور المقاومة….
ـ عندما نريد أن نتحدث عن المفكر..عن الكاتب..عن الباحث. عن المكافح..عن الثائر..عن المقاوم .. فالأستاذ أنيس النقاش يختصر كل ذلك، كان الثائر بين المفكرين.. وكان مفكر الثائرين بآن معاً.. كان صاحب الرأي وصاحب الموقف، وصاحب الكلمة، وصاحب الثبات.. كان المعبّر عن الفكر المقاوم في صيغته الإنسانية.. في صيغته الرافضة لمصادرة الإرادة.. بصفته الحريص والمتوثب لمعاني السيادة والعزة والكرامة.. لا توجد محطة على الإطلاق من محطات العز والشرف التي وقفتها المقاومة عبر امتداد عقود، إلا وكان للأستاذ أنيس النقاش بصمة واضحة فيها.. الأستاذ أنيس ـ حتى النفس الأخير ـ كانت فلسطين تسكن روحه.. تسكن قلبه.. تجري مع نبض القلب.. مع الكريات البيض والحمر في دمه.. هذا هو الأستاذ أنيس النقاش الذي كان مسكوناً بهاجس الوقوف في وجه الطواغيت، وقول: “لا” لأصحاب مشاريع السيطرة وبسط النفوذ، ومحاولة مصادرة الإرادات.
ـ الأستاذ أنيس النقاش أشبه ما يكون بالصقر الذي يحمل الهمَّ الفلسطيني بجناحيه، وفي الوقت ذاته هذا الصقر بقدرته.. ببأسه.. بتصميمه.. بإمكانياته هو نفسه البلبل الصادح بأعذب الألحان التي تعبر عن حقيقة المقاومة، وكنه المقاومة، ونهج المقاومة، وثقافة المقاومة.
ـ الأستاذ أنيس النقاش كان جزءاً أساسياً من معادلة النصر التي خاضتها المقاومة منذ أن بدأت تفتح البوابات واحدة تلو الأخرى، فتسدل الستار على زمن الهزائم، وتفتح عصر الانتصارات..
ـ تتميز شخصية الأستاذ أنيس النقاش بأنها شخصية متكاملة، فقد كان الفارس في شتى الميادين:
فارس في ميدان المواجهة المباشرة مع أعداء الله وأعداء القضايا المحقة التي يناضل من أجلها، وكان فارس الشاشات المتنقل من شاشة إلى أخرى، وقد كنا نحن ـ جماعة المحللين ـ ننتظر ظهوره لنبني على ما كان يتفضل به، وفي الوقت ذاته كان فارس الفكر الاستراتيجي العميق التنظيري الذي يستطيع أن يضع الرؤى، ويحدد الخيارات، وأكثر ما كان يميز الأستاذ أنيس في فكره، أو في إطلالاته الإعلامية أنه كان ينطلق من التساؤل عن الخيارات المتاحة.. لا نريد أن نبني أوهاماً.. نريد أن نتعامل مع الواقع بالإمكانيات المتاحة.. ما هي الخيارات التي يستطيع هذا الطرف من أطراف المقاومة أو ذاك أن يتبناها؟ .. لنفترض يوجد لقضية معينة خيارات:/ أـ ب ـ ج ـ د/ إذا تم تبني هذا الخيار، ما هي التكلفة، وما هي المردودية؟ وأية تداعيات يخلفها تبني الخيار كقرار؟ هذا الفكر العلمي.. النقدي.. الموضوعي.. المنطقي الذي يستند إلى الواقع لا إلى الأحلام… أهم ما كان يميز الأستاذ أنيس أنه لم يكن يرسم أحلاماً، هو الإنسان المعروف بتفاؤله، لكنه لم يكن ينطلق بتفاؤله من الأحلام والتمنيات، بل من الحسابات.. كان يقول بشكل واضح: وفق الواقع إمكانيات العدو كذا وكذا، ولديه نقاط القوة ونقاط الضعف ويحددها، ثم يتابع عرض وجهة نظره بتحديد ما يمتلك محور المقاومة من عوامل قوة وضعف، ويضيف ما يتحدث به إعلام العدو، مطالباً بالعودة إلى ما يقوله الأعداء للوقوف على حقيقة حالة الوهن والضعف والتردد والاضطراب والارتباك والحيرة التي يعيشها، فلماذا نجلد الذات؟.. هذه الروح المتوثبة.. المطمئنة… هذا اليقين المبني على المحاكمات العقلية المستندة إلى الواقع هو ما كان يميز أداء الأستاذ أنيس النقاش.
ـ أنا كمتابع، وفي أي مقال أقرأه استطيع أن أقول إن كانت فيه روح الأستاذ أنيس م لا، لماذا؟ لأنه كان له بصمته الذاتية.. هويته..همومه.. طريقة مقاربته.. لم يكن يبالي بالمخاطر، وعلى سبيل المثال في سورية وفي السنوات الأولى للحرب المفروضة كان الأستاذ أنيس يذهب إلى قناة الدنيا، وكانت على طريق المطار في مدينة المعارض، والمسلحون من جبهة النصرة وغيرها كانوا ينتشرون في مناطق قريبة من الأوتستراد، وكثيراً ما كان يشكلون تهديداً لسلامة العابرين على الطريق، ومع ذلك كان الأستاذ أنيس يذهب ويشارك في البرامج الحوارية بكل ثقة ويقين واطمئنان ويعود رغم القنص ورغم الخطر.. كان يبث في النفوس روح الإيمان بالقدرة على النصر وعلى الصمود وسحق هذا الإرهاب التكفيري المسلح مهما كانت الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة له.
ـ دمشق التي عشقها الأستاذ أنيس النقاش بكل ما تعنيه كلمة عشق، وأحبته دمشق بكل ما تعنيه كلمة الحب، وكان أوكسجين دمشق هو آخر الأنفاس التي استنشقها الأستاذ أنيس رحمه الله، فمثل هذه الشخصية لا يمكن على الإطلاق أن تنسى..أصدقك القول إنه ترك وجعا وألماً حقيقياً في أعماق كل من عرفه، وكل مهتم بقضايا وطنه هو يعرف أنيس النقاش بكل تأكيد.
من حق الراحل أن يقال عنه إنه مدرسة في الإعلام المقاوم.. لا توجد شاشة مقاومة على الإطلاق إلا وكان الأستاذ أنيس أحد أبرز الضيوف، وأكثرهم فعالية وشعبية.. في أي مكان يوجد فيه شاشة أو منبر لقول كلمة الحق، وتوجد فيه إمكانية لإيصال كلمة الحق كان الأستاذ أنيس بارعاً في ذلك، وقد تميز بهدوئه في النقاش، وطريقة معالجته الأفكار التي يتم طرحها… الإصرار على إيصال الأفكار الرسائل المطلوب إيصالها وفق ما يراه هو، فكان بارعاً ومميزاً بقدرته على ذلك.. في أي ظهور إعلامي كان المتابع المهتم يدرك أن لديه رسائله الخاصة التي يحرص على إيصالها، وبالتالي هو يمثل مدرسة متكاملة في الإعلام المقاوم، وفي كيفية الرد على الخصم، وفي كيفية فهم الإعلام المعادي ونواياه، فبوالين الاختبار التي كان يطلقها الإعلام المعادي كانت تنفجر بدون تحقيق أية نتيجة إذا كانت ضمن محاور أي برنامج يشارك به الأستاذ أنيس النقاش، وكذلك الحرب النفسية، والحرب الإعلامية، ومحاولات كي الوعي المجتمعي… ومن هنا تتضح فداحة خسارة في رحيله، فنحن في أوج المواجهة في الحرب على الوعي، وقد استطاع الأستاذ أنيس وغيره بإرشادات قادة محور المقاومة الذين هم فعلاً أساتذة في الحرب على الوعي أن يحصنوا وعي جمهور المقاومة، وبدلاً من أن يتمكن الإعلام المعادي من كي الوعي لدى جمهور المقاومة كان الأستاذ أنيس أحد الأصوات الفاعلة في كي الوعي المجتمعي في التجمع الإسرائيلي الغاصب.. إذن نحن أمام تكامل في الأداء من خلال الممارسة وامتلاك فنيات الحوار الإعلامي والمهارات المطلوبة: الإقناع ـ امتلاك الحجة ـ القدرة على إيصال الأفكار والرسائل بمنتهى الحرفية والحكمة والفطنة واليقين بأن هذه الرسائل ـ وبالحد الأدنى ـ ستلغي فاعلية الرسائل المعادية لأنها تفند ما كان يتم ضخه، إضافة إلى الكاريزما الشخصية التي كان يتمتع بها المرحوم وكانت موضع احترام المتابعين، وهذا ما ساهم في تفريغ الحرب النفسية المعادية من أهدافها ومضامينها، وفي الوقت نفسه كانت تشكل خندقاً متقدماً لغيره من المحللين والإعلاميين الذين يظهرون على الشاشات ليبنوا على ما قدمه الأستاذ أنيس النقاش وغيره من الأخوة الذين نتعز بهم ونفتخر.
ـ المرحوم الأستاذ أنيس النقاش ليس كائناً يسبح في الفضاء، بل هو ابن هذه المدرسة وخريجها، وبالتالي هذا الفكر المقاوم، وهذه الثقافة انتقلت إلى الأستاذ أنيس وغيره من هذه المدرسة التي خرجت أجيالاً من المناضلين والمفكرين والأشخاص المبدعين والاستثنائيين.. وهذا يؤكد أن هذه المدرسة ولَّادة، وهذه الأمة قادرة على الإنجاب.. بكل تأكيد سيخلف رحيل الأستاذ أنيس فراغاً مدوياً ومزعجاً، وهيهات لمن يستطيع أن يسد الفراغ، لكن وفي الوقت ذاته هو كان يسير ضمن نهج معين.. ضمن أسس فكرية… ضمن ثوابت ومبادئ، فالعنوان الأساس هو نصرة الحق، ونصرة المظلومين والمستضعفين، وعدم الخوف من قوى الطاغوت والتجبر مهما علت، وتنفيذ قوله تعالى: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم..”… الأستاذ أنيس النقاش تحول إلى أستاذ، وكثيرون تعلموا منه، وكثيرون ما نزال نحتاجه، ومن واجب بقية العاملين في الإعلام المقاوم أن يعملوا على ترسيخ وتجذير ونمذجة مثل هذه الشخصيات، وما قدمته: عطاؤها ـ إنجازاتها ـ طرائق تفكيرها، وكيف يمكن حمل مشعل المقاومة لينتقل من الأستاذ أنيس النقاش إلى غيره، وبكل تأكيد الرسالة التي نذر الأستاذ أنيس نفسه لها وبقي طيلة حياته يحمل الراية مرفوعة عالية بكل شموخ وعزة وثقة ويقين بالقدرة على الوصول وتحقيق الأهداف، وهذه المدرسة في كل يوم ستتجذر أكثر، وهي أشد رسوخاً وأكثر يقيناً بالإمكانيات الذاتية وأكثر تصميماً على تفعيل هذه الإمكانيات الذاتية لتحقيق الأهداف الأساسية، وهي كسر إرادة الطاغوت الذي يريد أن يصادر إرادة البشرية بأجمعها.
ـ الأستاذ أنيس كان يكرر في الفترة الأخيرة عبارة “لقد شارفنا على الانتصار”، و كان يشفعها أيضاً بأن المعسكر المعادي شارف على الهزيمة.. المشكلة أنهم لا يريدون أن يعترفوا بهزيمتهم… معالم الهزيمة أصبحت واضحة، والمطلوب اليوم إرغام المحور المعادي على الاعتراف بهزيمته، وفي هذه الحالة لا ضير من تقديم بعض المسكنات .. فقط بقي أن نلزمهم على الاعتراف بأنهم هزموا..
ـ نحن نتحدث عن مدرسة متكاملة الأركان التي أنتجت مثل هذا الفكر المقاوم، ومثل هذا الإعلام المقاوم الذي يستند فكراً وإعلاماً إلى هذه الإنجازات الميدانية، والمستوى الرفيع الذي بلغته المقاومة… ما يجب فعله هو العمل على استخلاص أهم الدروس، وأهم العبر والإنجازات، وأنا مع أن تكون جزءاً من المنهاج التعليمي للأجيال القادمة.. فعندما نتحدث عن مقاوم يستهزئ بالأخطار، ويضع روحه على كفه… مفكر بنى ذاته، و بنى ذخيرة معرفية ثرة وغنية، وعمل على استثمارها بما يخدم الأهداف الأساسية لمحور المقاومة لترسيخ هذه الثقافة، وهذا النهج، وهذه القيم.. لاستنهاض الهمم والثقة بالنفس، وعدم الخوف من العدو.. لليقين المطلق بالقدرة الإلهية، وبعدالة السماء.. للالتزام بما يمليه الواجب والضمير، والوقوف في وجه هذه الرياح الهوجاء مهما اشتدت العواصف والأعاصير، لأنه في نهاية المطاف هناك حق، وهناك أصحاب حق، وهناك يقين من قبل أصحاب الحق بأنهم أصحاب حق، ولدى أصحاب الحق المؤمنين بحقهم إرادة تتفولذ بفكر أمثال الأستاذ أنيس النقاش، وباستلهام ونمذجة قيم وسلوكيات ونهج قادة محور المقاومة، والتغني بإنجازات المقاومة وانتصاراتها، وفي الوقت ذاته بتسليط الضوء على نقاط ضعف أعدائنا بغض النظر عن التبجحات.. الذي يظن أن القوة تنحصر بالقوة العسكرية عليه أن يعيد حساباته، فالقوة العسكرية هي أحد مكونات القوة الشاملة، وامتلاك الإرادة هو العامل الأهم في عوامل القوة الشاملة للأفراد والمنظمات والدول.

** الباحث السوري المتخصص
بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية

شاهد أيضاً

“فرقة إعدام” إسرائيلية في بيت مري

كتب رضوان مرتضى في صحيفة الأخبار: بات مؤكّداً أن الموساد الإسرائيلي اغتال الصرّاف اللبناني محمد …