هل انتهت غزوة يناير البرازيلية لصالح لولا؟

د. علي دربج – باحث وأستاذ جامعي

كما توقع موقع “العهد”، حصل السيناريو الذي كان قد تحدث عنه بشأن تمهيد الرئيس البرازيلي السابق والمهزوم الديكتاتور جاير بولسونارو للفوضى بعدما كان قد شكك بنزاهة الانتخابات الرئاسية حتى قبل اجرائها في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي والتي ترجمها أنصاره من اليمينيين المتطرفين عندما تحدوا الشرطة واجتاحوا مقرّات السلطات الرئيسية في البرازيل، فيما أصبح يعرف بغزوة 8 كانون الثاني/ يناير 2023.
هذه الغزوة الفاشلة، كانت بمثابة هزة لهذه الأمة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 215 مليون نسمة، رغم أنها لم تكن مفاجئة. لأشهر، كان اليمين البرازيلي المتطرف يحضر لهذه اللحظة (وهي لطالما حرضت عليها بعض القيادات الأمريكي المحافظة كستيفن ك. بانون، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب) التي حذر منها خبراء أمنيون وسلطات محلية، وتوقعوا استحضار تجربة 8 كانون الثاني/ يناير بنسختها الترامبية الأصلية، خصوصًا بعدما صعدّ أتباع الرئيس بولسونارو الرافضون الاعتراف بخسارته أمام الرئيس الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا من مواقفهم المنكرة للنتائج ونصبوا الخيام في الساحات العامة في جميع أنحاء البرازيل وأمام الحاميات العسكرية متوسلين التدخل المسلح.
الغريب في الأمر هو موقف رجل (CIA) بولسونارو، الذي التزم الصمت طوال الفترة الماضية، وهرب إلى أورلاندو في الولايات المتحدة قبل يومين من انتهاء فترة ولايته بذريعة العلاج.

كيف بدأت غزوة أنصار بولسونارو؟
في معظم الأيام، تتمثل أسوأ مشكلات برازيليا في الازدحام وطوابير الانتظار في المطاعم. لكن ذلك تغير ذلك فجأة الأحد الماضي. فالعاصمة تحولت الى ساحة معركة، حيث تم تحطيم جميع النوافذ على المدخل الرئيسي للمحكمة العليا من قبل المخربين الذين يلفون أنفسهم بالأعلام البرازيلية والقمصان الصفراء (لفريق كرة القدم البرازيلي) الكونغرس الوطني، ثم دخل مثيرو الشغب هؤلاء قصر بلانالتو الرئاسي وهدموا صالوناته وقطّعوا لوحة للرسام البرازيلي الشهير إميليانو دي كافالكانتي تبلغ قيمتها 1.5 مليون دولار. وانتهى ذلك النهار، بسحب من رذاذ الفلفل ومدافع المياه واعتقالات متعددة في صفوف المتطرفين.
في أعقاب ذلك ظهرت شكوك جديدة حول عودة الاضطرابات، وسرت تساؤلات جدية عن امكانية انتشارها، فضلًا عن مدى جدية التهديد الذي شكلته أعمال الشغب على رئاسة لولا.
ومع أنه من المبكر استخلاص اجابات سريعة لهذه الأسئلة، غير أنه يمكن القول إن فوضى الغوغاء في البرازيل، انتهت باللعب لصالح لولا على الأقل في الوقت الحالي.
وهل انتهت غزوة 9 كانون الثاني/ يناير البرازيلية لصالح الرئيس لولا فعلاً؟
أظهرت مراجعة 2.2 مليون منشور على وسائل التواصل الاجتماعي خلال الاضطرابات، أن 90 بالمئة من البرازيليين، رفضوا بشدة هجمات اليمينيين المتطرفين.
لكن ما يجدر التوقف عنده كثيرا وقراءته جيدًا، هو أن تلك الغزوة أفرزت نقاطًا وأمورًا ايجابية صبّت في مصلحة لولا، وكانت خارج حساباته السياسية أصلًا. فبحلول ليلة الأحد احتشد قادة الكونغرس والرأي العام حول الحكومة الجديدة المحاصرة. كما أن حكام الولايات البالغ عددهم 27 في البرازيل، لبوا دعوة لولا الاثنين الماضي لعقد اجتماع طارئ لمناقشة تداعيات الغزوة. الأكثر أهمية، هو أنه حتى فالديمار كوستانيتو، رئيس الحزب الليبرالي لبولسونارو وأقرب حليف تشريعي له، شجب الغزو، باعتباره من عمل المجرمين. في حين أن الأسواق المالية في البلاد بالكاد تراجعت، مع ارتفاع مؤشر إيبوفيسبا بشكل طفيف.
اكثر من ذلك، فوجئ العديد من المحافظين الرئيسيين الذين لا يحبون لولا بما حصل، وتعليقًا على ذلك قال الباحث السياسي أوكتافيو أموريم نيتو من “مؤسسة جيتوليو فارغاس” إن “الاضطرابات أخافت حتى البرازيليين اليمينيين الذين لا يدعمون الانقلاب”.
المفارقة ان المواقف الشعبية الشاجبة للغزوة، تأتي في وقت حرج بالنسبة للولا الذي يكافح من أجل إنعاش اقتصاد البرازيل في مرحلة ما بعد الوباء، ويسعى للحفاظ على ائتلافه الحاكم غير العملي، ويجهد لتهدئة الأسواق بشأن التحديات المالية العميقة في البلاد، لا سيما وأن تركة بولسونارو الاقتصادية والمالية الثقيلة، جعلت البلاد تعيش أوضاعًا مأساوية وكارثية.
ففي الشهر الماضي، عندما قام مستشارو لولا الاقتصاديون بالتفتيش ومراجعة دفاتر بولسونارو، وجدوا مصائب كبيرة تنتظر البرازيليين بسبب سياساته الشعوبية. إذ ان الإدارة السابقة المنتهية ولايتها، كانت قد عدّلت القواعد المالية خمس مرات، مما أدى إلى مراكمة حوالي 800 مليار ريال برازيلي (152 مليار دولار) من النفقات غير المغطاة، لذلك حتى الإنفاق الطارئ الذي توسط فيه لولا مع الكونغرس، قد لا يكون كافيًا لتغطية العجز. فوق ذلك كله، ترث الحكومة الجديدة نظامًا للخدمات العامة على وشك الانهيار.
ماذا عن دور الجيش البرازيلي؟
في الحقيقة، كان الأمر الأكثر إثارة للقلق (بحسب العديد من النخب البرازيلية) هو الصمت المريب للقوات المسلحة، التي لم تفعل شيئًا يذكر لثني معسكرات بولسوناريستا  المرابطة عند بواباتها عن التحول إلى رعاع. أما مرد ذلك فيعود الى زجّ بولسونارو للقوات المسلحة في قلب التجاذبات السياسية القائمة في البلاد. وعليه يقول الخبراء، إذا ثبت أن السلطات المدنية غير قادرة على إحباط الهجوم القادم، فإن خطر التدخل العسكري سيظل مطروحًا على الطاولة.
هل يمكن تكرار هذه الغزوة؟ وما هو المطلوب من لولا وحكومته؟
في الواقع، بدأ لولا فترة ولايته الثالثة بعد أكثر من عقد من الزمان، حيث لا يزال البرازيليون يعانون من جائحة قاتلة وأسوأ ركود منذ عقود، وسط تزايد النقمة من تراجع الديمقراطية على مستوى القارة بسبب السياسات المتراكمة للدكتاتوريين فيها أمثال بولسوناور. زد على ذلك أن ثمة تحديا آخر ورثه لولا عن سلفه، ويتمثل بأن تسعة بالمائة فقط من البرازيليين يثقون في سياسييهم كما تشير استطلاعات الرأي، وهذا الرقم يتضاعف بأكثر من ثلاث مرّات، في أوساط القوات المسلحة.
وبالتالي، هذا يعني أنه من غير المرجح أن تدوم أية فوائد كان قد جناها لولا بعد مكافحته للتمرد، إذا تعثر الاقتصاد، أو فشلت حكومته في الوفاء بوعودها العديدة الباهظة الثمن، خصوصًا وان البرازيليين الذين شعروا بالذعر والخوف من محاولة الانقلاب، يبقون مستقطبين بشدة، ولا يزال الكثير منهم متعاطفًا مع قضية المتمردين، إن لم يكن مع أساليبهم. من هنا، ربما حجب نفسه بولسونارو عن الصورة، لكن المزاج السيئ الذي غذى شعبيته جراء التحريض، لا يمكن التخلص منه بسهولة.
في المحصّلة، وبناء على ما تقدم، حاليًا يقع على عاتق الحكومة الجديدة مسؤوليات جمة، وفي مقدمتها الوقوف بقوة وحزم بوجه أي تحرك مستقبلي لأنصار بولسونارو المتطرفين، وضمان حياد الجيش قدر الامكان، والعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية، حيث يتذكر العديد من البرازيليين لولا باعتزاز خلال فترتي ولايته الأولى والثانية (2003 إلى 2010)، عندما ملأ الطلب الصيني على المواد الخام الخزائن الوطنية وعزز النمو ورفع الفقراء إلى الطبقة المتوسطة، وهذا ما يهدف لولا الى تحقيقه مجددا في حال لقي تعاونا من جميع الاطياف البرازيلية.

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …