ما لا تعرفونه عن بطريرك “لبنان الكبير” (*)

ندلعت الحرب العالمية الأولى في 29/10/1914، ودخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب الى جانب المانيا. وفي 22/11/1914، دخل العثمانيون جبل لبنان. وفي 23/3/1915، حلّوا مجلس إدارة جبل لبنان، وألغوا نظام المتصرفية والامتيازات الأجنبية. وحاصروا جبل لبنان برًا، وشددوا الرقابة على شواطئه ومنعوا أي اتصال بين سكانه والحلفاء. فما كان من ذلك إلا أن سبّب المجاعة فيه ومات ثلث السكان من الجوع. فما كان من البطريرك الحويّك إلا أن جيّر أموال البطريركية المارونية وأمواله الخاصة لمساعدة الفقراء وإطعامهم، ونظم ذلك. ويُذكَر أن مقر البطريركية كان أحد مراكز توزيع الطعام. وأمر غبطته كل الأوقاف والأديار بإعالة الفقراء، وأمرها بالرهن والإستدانة والبيع لهذه الغاية. وحصل البطريرك على معونات مالية من المغتربين اللبنانيين ومن الحكومة الفرنسية عن طريق مفوضها في أرواد. وكان الأب بولس عقل يقوم بدور الوسيط بين أرواد وبكركي خلال تلك الفترة.  

وقد حاول جمال باشا الملقب بـ”السفّاح” نفي البطريك الحويّك لكنه فشل. ثم طلب منه الحضور إلى مقره في صوفر يوم 13 تموز 1915. لكن اللقاء تمّ يوم 21 تموز وتناول في شكل أساسي علاقة الكنيسة المارونيةبفرنسا. وفي أيار 1916، وبعد إعدامات بيروت ودمشق، طلب جمال باشا لقاء البطريرك مرة ثانية. ثم اتهمه بالوقوف وراء مقالات صدرت في الصحف الفرنسية عن محاولة إبادة اللبنانيين بواسطة المجاعة. طلب لقاء البطريرك مرة ثالثة في بحمدون خلال تموز 1917، وسأله المكوث في بحمدون فترة من الزمن. فأقام فيها من 25 تموز حتى 14 آب 1917. وفي بداية 1918، احتجز جمال باشا البطريرك في قرنة شهوان وكان يعمل على نفيه. ثم أطلقه بعد تدخُّل الفاتيكان وإمبراطور النمسا. 
الراعي استقبل جريصاتي ونقابة الصحافة: المطلوب حكومة طوارئ مصغرة من شخصيات غير مرتبطة بأحد“الوضع لا يُطاق”… الراعي: فقدت الثقة بالمسؤولين وهذا الحل الوحيد!
وكان مؤتمر فرساي قد أفضى إلى تشكيل لجنة كينغ – كراين لاستقصاء رغبات سكان سوريا ولبنان وفلسطين في مستقبل بلادهم. وقد قابلت اللجنة البطريرك الحويّك في حزيران 1918، فطالب باستقلال لبنان وبالحماية الفرنسية له. 

إنهيار الحكم العثماني 

في غرّة تشرين الأول 1918، انهار الحكم العثماني في بيروت ودمشق وبعبدا في يوم واحد. وكان ممتاز بك، متصرّف جبل لبنان، قد سلّم قبيل انسحابه من بعبدا شؤون الإدارة في جبل لبنان إلى رئيس بلدية بعبدا حبيب فيّاض. وبعد يومين اجتمع موظفو الحكومة في بعبدا وانتخبوا الأميرين مالك شهاب وعادل أرسلان لإدارة الحكومة الموقتة. فأبرق البطريرك الحويّك إلى شهاب وأعلمه بوجوب المثابرة على إدارة الحكومة الموقتة بحزم وحكمة ووقف كل مخابرة تتعلق بشؤون البلاد إلى أن يتيسر له العودة إلى بكركي ويتم تبادل الآراء في هذا الشأن. وعندما تألفت حكومة الأمير فيصل العربية في دمشق، أرسلت اللواء شكري الأيوبي حاكمًا عامًا على ولاية بيروت وجبل لبنان، فحضر إلى بيروت في 7 تشرين الأول وأعلن دخول البلاد تحت الحكم الفيصلي، ثم توجه إلى مركز الحكومة في بعبدا وأعلن في احتفال حاشد قيام الحكومة العربية في جبل لبنان، ورفع العلم العربي على السرايا، ودعا مجلس الإدارة الشرعي المنتخب سنة 1912 إلى الاجتماع، وكلّف رئيسه حبيب باشا السعد بتولّي رئاسة الحكومة في جبل لبنان من جانب الأمير فيصل باسم والده الشريف حسين. فقبل السعد هذا التكليف وأقسم يمين الولاء والإخلاص للشريف حسين. وكان الأمير محمد سعيد الجزائري قد أبرق إلى البطريرك الحويّك يطلب منه باسم العربية [العروبة] والوطن أن يؤسس الحكومة العربية المستقلة في جبل لبنان، وهذا ما طلب إنفاذه عدد من وجهاء كسروان وممثلين عن عائلاتها، لكن الحويّك لم يتجاوب مع هذا المطلب. 

خلال الأيام العشرة الأولى من شهر تشرين الأول عام 1918 وصل الجيش البريطاني الزاحف من فلسطين إلى بيروت على دفعات، سالكًا الطريق الساحلية، ومعه مفرزة فرنسية. وأنزل الأسطول الفرنسي إلى البر في بيروت فرقة من الجنود الفرنسيين. وبناءً على احتجاج فرنسي، أمر القائد العام الجنرال إدموند أللنبي بإنزال العلم العربي وعودة اللواء شكري الأيوبي ممثل فيصل إلى دمشق، وحلّ الحكومات العربية في بيروت وبعبدا والمدن الساحلية الأخرى وعيّن حكامًا عسكريين فرنسيين فيها. وهكذا انتهى الحكم العربي في هذه المناطق بعد أيام فقط من قيامه، ورحّب الحويّك بدخول الحلفاء. 

عودة مجلس إدارة جبل لبنان إلى العمل 

في 29/10/1918، عاد مجلس إدارة جبل لبنان الى العمل. وفي 9/12/1918، أرسل مجلس الإدارة الى مؤتمر الصلح في باريس أولَ وفدٍ لبناني رسمي، برئاسة داود عمّون الماروني وعضوية إميل إدّه الماروني إيضًا وعبدالله خوري-سعاده الروم الكاثوليك وعبد الحليم حجّار السنّي ونجيب عبد الملك الدرزي، للمطالبة باستقلال لبنان الكبير. وفي 18/1/1919، افتتح مؤتمر الصلح أعماله في باريس. وفي 15/2/1919، كانت مداخلة الوفد اللبناني الاول، لكنه لم يلْقَ أيّ جواب. وكان فيصل هناك. 

وحاولت فرنسا عن طريق مراسلات بين بكركي وجورج بيكو إقناع البطريرك بمحاسن الإبقاء على الوحدة مع سوريا، لكن جواب البطريرك كان حازمًا بطلب الاستقلال الكامل. في الواقع كانت تلك المرحلة مرحلة تقرير مصير شعوبِ منطقة الشرق الاوسط وأوطانِها، ولكلٍّ من الاطراف المؤثِّرين مشروعه ويسعى إلى تحقيقه. وكان الامير فيصل يُمثِّل التيار العربي الاسلامي الذي يُطالِب بالوحدة السورية التي تضمّ لبنان الى سوريا معتبرًا هذا الأمر خطوة تقود نحو الوحدة العربية. وللوصول الى غايته، حاول إيقاظ الحس القومي العربي والديني الاسلامي وتحالف مع الانكليز. كما حاول ترغيب الفرنسيين وإقناعهم، وترهيب اللبنانيين وإسقاط مشروعهم من خلال دعمه ثوراتٍ وفتناً رتّبها على شكلٍ طائفي. وفي الوقت عينه، كانت الدولتان العظميان، فرنسا وانكلترا، تسعيان إلى توطيد نفوذهما على اكبر قسم ممكن من الشرق الاوسط. وللوصول الى هدفهما، حاولتا كسب ثقة الاكثرية المسلمة وإرضاءها ولو على حساب اصدقائهما. ورأت فرنسا، صديقة اللبنانيين الموارنة، أن المشروع الانسب لها وللمنطقة هو ايجاد ولايات متحدة سورية تُشكِّل في ما بينها نوعاً من الـ”كونفيديراسيون”، ولبنان إحداها. اما الحويّك، فكان متمسكاً بالمشروع اللبناني او “القضية اللبنانية”، أي إستقلال لبنان وتوسيع حدوده، ولم يقبَلْ بالمشروع العربي ولا بالمشروع الفرنسي، وشجب الاسلوب الذي اعتمده أصحابهما للوصول الى غايتهم. 

لبنان جزء من سوريا؟ 

في 20/5/1919، أعلن مجلس الإدارة إستقلال لبنان في حدود 1860. بعد ذلك صرّح فيصل في دمشق بأن لبنان هو جزءٌ من سوريا، فأمّت الوفود اللبنانية الصرح البطريركي من كل الطوائف وسلّمت الحويّك تفويضات من اللبنانيين على اختلاف طوائفهم في جبل لبنان ولبنان الكبير والمهجر على السواء، تُخوِّله التكلُّم باسمهم والسعي الى تحقيق مطالبهم.  

في 15/7/1919، ترك الحويّك الأراضي اللبنانية من مرفأ جونية مُتوجِّهاً الى مؤتمر الصلح، على رأسِ وفدٍ تألف من المطرانين اغناطيوس مبارك وبطرس فغالي وأمين سرّ البطريرك وشقيقه لاوون الحويك والتحق بهم مطران الروم الكاثوليك على زحلة والفرزل كيرلُّلس مغبغب. وحمل الحويّك معه التفويضات إلى فرنسا، فأُودِعت وزارة الخارجية الفرنسية. وبقي في بكركي “بيانٌ بالوكالات المقدمة لغبطته للمطالبة باستقلال لبنان وتكبيره”. 

وصل الوفد الى روما في 21/7/1919. وفي 23/8/1919 الى باريس، فنزل ضيفاً على الحكومة الفرنسية. ووصل البطريرك الحويّك إلى باريس حاملاً بيده خطابًا إلى رئيس مجلس الوزراء الفرنسي ورئيس مؤتمر الصلح كليمنصو يتضمّن مطلب الإستقلال التام المُطلَق. إلا أن الواقع الذي لَقِيَه في باريس، جعله يُغيِّر في مطالبه ويتبنّى المُذكِّرة التي أُعدّت هناك ويقدّمها لمؤتمر الصلح في 25/10/1919. وقد أُدْرِج فيها مطلب الإنتداب الفرنسي وحملت عنوا “Les revendications du Liban 

من 23/8/1919 حتى 7/11/1919 أجرى البطريرك الحويّك لقاءات واتصالات بأعضاء مؤتمر الصلح ورجالات الدولة واعضاء المجلس النيابي الفرنسي القادرين على مساعدته لاستيعاب تطلُّعات فيصل ولإقناع الفرنسيين بـ”القضية اللبنانية”. وفي 10/11/1919 حصل البطريرك الحويّك على تعهُّدٍ خطي من رئيس مجلس الوزراء الفرنسي ورئيس مؤتمر الصلح كليمنصو، يَعِد فيه اللبنانيين بالاستقلال، والجبل اللبناني بالسهول والمرافئ البحرية الضرورية لازدهاره. واعتُبِر هذا التعهُّد بمثابة وثيقة الاستقلال. 

في 17/12/1919 أرسل البطريرك الحويّك المطران شكرالله خوري زائرًا بطريركيًا إلى القارتين الأميركيتين. ومن أهداف زيارته الأساسية دعوة الموارنة إلى العودة إلى وطنهم الأم لانتفاء الأسباب التي دفعتهم إلى الهجرة بعد حصول البلاد على استقلالها والوعد بتوسيعها وجعلها قابلة للحياة. 

إستقبال المنتصرين 

في 18/12/1919 ترك البطريرك الحويّك الأراضي الفرنسية. وفي 25/12/1919 وصل الى بيروت. فاستقبله اللبنانيون استقبال المنتصرين. إلا أن أرشيف بكركي يحفظ رسائل من لبنانيين موارنة وغير موارنة، أخذ بعضها على البطريرك الحويّك انه بقبوله مبدأ الإنتداب سلّم البلاد للفرنسيين، وبعضها الآخر أنه سار مسار الإنفصاليين.  

 لكن الامور لم تصل الى خواتمها السعيدة. فقد عُيِّن الجنرال غورو مفوضاً سامياً لفرنسا في لبنان، ولم يلْقَ تعيينه هذا أيَّ رفضٍ الا في مناطق البقاع، حاصبيا وراشيا. وما أن همّ العسكر الفرنسي بأخذ مواقعه في هذه المناطق، حتى أتاه أمرٌ من فرنسا بعدم دخولها. والسبب أن فيصل كان ما يزال في باريس، حيث التقى الرئيس كليمنصو وعقد معه اتفاقاً بترك إدارة هذه المناطق لحكومة دمشق، والأمن الداخلي لشرطةٍ محليّة. وقد قبِِل الرئيس كليمنصو بهذا الاتفاق رغبةً في الصلح. إلا ان فيصل، وفور عودته من باريس، صرّح ايضاً بأن لبنان لن يُوسَّع ولن يستقل عن سوريا، بل سيحصل في الأكثر على حكمٍ ذاتي واسع من ضمن سوريا. لذلك قلقت الافكار في لبنان، ورفض الحويّك هذا الطرح. وموقفه هذا وضعه في مواجهةٍ حتى مع الدبلوماسيين الفرنسيين. ولمعالجة هذه الأزمة، فكّر بالسفر مجدداً الى باريس، إنما لم يكن قد مضى على عودته أكثر من شهر، والسفر مضنٍ لرجلٍ في الثامنة والسبعين. لذلك قرّر وبقوة التفويض الذي حصل عليه من اللبنانيين، إرسالَ وفدٍ لمتابعة المهمة التي كان قد باشر بها. فكان الوفد الثالث برئاسة المطران عبدالله خوري، وفيه ألفرد موسى سرسق الأرثوذكسي وكامل بك الأسعد الشيعي والأمير توفيق إرسلان الدرزي، وكان يحمل معه 648 تفويضًا. وفيما اعتذر كامل بك الأسعد عن مرافقته وفوّض المطران عبدالله خوري مكانه، التحق بالوفد مطران الروم الكاثوليك على زحلة والفرزل كيرلُّلس مغبغب والمارونيان يوسف الجميّل وإميل إدّه. في 2/2/1920 ركب الوفد الثالث البحر. وفي 11 منه وصل الى باريس. وقد سعى الوفد لتحقيق مطالب اللبنانيين وفق ما حدّدها البطريرك الحويّك في مُذكِّرته الى مؤتمر الصلح في 25/10/1919، ولقد تركّزت مهمته الأساسية على توسيع الكيان اللبناني بمنحه السهول والمدن والمرافىء البحرية وعلى المطالبة بالإنتداب الفرنسي باعتبار أن وعد الرئيس كليمنصو كان وافيًا وقاطعًا لناحية إستقلال لبنان عن سوريا. وفي 1/9/1920 أعلن الجنرال هنري غورو ولادة دولة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي من قصر الصنوبر في بيروت وقربه البطريرك والمفتي. وفي 25/9/1920 عاد الوفد الثالث الى لبنان بعدما حصل على تعهُّد من رئيس مجلس الوزراء الفرنسي ميللران باستقلال لبنان الكبير في حدوده الطبيعية والتاريخية. وقد مرَّ بروما وحصل على بركة البابا بنديكتوس الخامس عشر خطياً على خريطة لبنان الكبير. وكان البطريرك الحويّك يتراسل مع المطران عبدالله خوري ويتابع من لبنان كل شيء ويقوم بكل ما يلزم. لكن مساعي الوفد الثالث لتثبيت الكيان اللبناني الكبير وللاعتراف باستقلاله لم تمرّ بسهولةٍ ولا بسلام، لا خلال وجوده في باريس ولا بعد عودته الى لبنان

المؤتمر السوري الثاني 

فبينما كان الوفد في باريس، جمع فيصل حلفاءه في دمشق في 7/3/1920، وعقد ما عُرِف بالمؤتمر السوري الثاني، الذي أعلن فيصل ملكاً على سوريا وفلسطين ولبنان. وكان هذا الإعلان الرسمي الاول للمملكة السورية وعلى رأسها فيصل ملكاً. وفي 25/4/1920، أوكل مؤتمر سان ريمو إلى فرنسا الإنتداب على سوريا وأغفل ذكر لبنان. وفي 12/7/1920، كتب غورو الى الحويّك يُبلِّغه أن فيصل أرسل مالاً الى بيروت بغية رشوة الناس لينحازوا اليه. وبالفعل ارتشى ثمانية من اعضاء مجلس الادارة، بـ 1500 ليرة. وقد قبض غورو عليهم واقرّوا بذلك ومن بينهما المارونيان سليمان كنعان وشقيق البطريرك سعدالله الحويّك. ومن 25 آب حتى 21 ايلول 1921، عُقِد المؤتمر السوري- الفلسطيني في جنيف، وشارك فيه لبنانيون منهم النائب سليمان كنعان. ورفض المؤتمر الإنتداب الفرنسي وطالب بالوحدة السورية. وفي 24/7/1923، وُضِعت معاهدة السلام مع تركيا. وقد جاءت على ذكر الأرمن والأشوريين والكلدان وسوريا، ولم تذكر لبنان ولا اللبنانيين.  

وحصلت حوادثٌ داميةٌ وفتنٌ طائفيةٌ مدعومةٌ من فيصل، في جبل عامل والبقاع والشمال، راح ضحيتها مسيحيون كثر أَحرَقَ منازلهم وزرعهم شيعة ونصيريون. كما حصلت تعدِّيات شيعية في جرود كسروان. وأخذ سنّة من طرابلس وبيروت يطالبون بضمّ المدينتَين إلى سوريا. وأظهر الفرنسيون تقاعساً كبيراً في ملاحقة المجرمين وإنصاف المسيحيين وحمايتهم. وخلال 1925 – 1926، تكرّرت الحوادث الدامية، على يد الشيعة والعلويين، وانضم إليهم الدروز، وشهد جبل الدروز في لبنان وسوريا قسمًا منها. وأخذ الفرنسيون يطرحون من جديد مسألة الولايات المتحدة السورية التي تؤلف في ما بينها فيديراسيون، وفكرة الاستفتاء من جديد على نهائية كيان لبنان الكبير واستقلاله، وتقاعسوا تكراراً في ملاحقة المجرمين ومحاكمتهم، ولم يُنصِفوا الأبرياء المظلومين، بل عاملوهم أحياناً مذنبين، ونزعوا سلاحهم وتركوا السلاح في أيدي المعتدين. 

التاريخ يعيد نفسه 

وعلى رغم أن الموارنة لم يجتمعوا كلهم على رأيٍ واحدٍ سياسي ووطني تحت قيادة البطريرك الحويّك، إلا أن غبطته حسم أمره وحدّد رؤيته للقضية اللبنانية وخطة الوصول إلى تحقيقها ولم يحِدْ عن الثوابت والأفكار التي قادت أسلافه. وردًا على كل من تكلم باسم لبنان مطالبًا بأمور منافية للمطالب التي تقدّم بها لمؤتمر الصلح، كان الحويّك يُذكِّر بأنه الوحيد المفوض من كل اللبنانيين والمخول التكلم باسمهم. وقد دافع عن حقه بالتعاطي في الشؤون الوطنية والسياسية في وجه المواقف الغربية التي كانت تدعو إلى منع رجال الدين من ذلك. واعتبر نفسه الشيخ العارف بلاده أفضل من غيره والعالم بما تحتاج إليه، والصديق الأقدم لفرنسا في البلاد، المدرك أين تكمن مصلحتها العليا. 

صحيح أن الحوادث المؤلمة والاحداث الصعبة التي مرّت بها البلاد سنتَي 1925 و1926 جعلت الحويّك يطرح حلولاً جذريةً كنقل الشعوب لكي يصبح لبنان بلدًا متجانسًا، لكنه كرّر في أكثر من رسالةٍ إيمانه بالعيش المشترك والوحدة اللبنانية. ورأى أن السبب في كل ما يحدث ليس دينياً بل هو سياسي، الهدف منه إنهاء الانتداب الفرنسي والقضاء على استقلال لبنان وإخضاعه لسوريا المُوحَّدة. واعتبر أن ما جرى من حوادث لا يُعبِّر عن الواقع اللبناني الأصيل ولا عن إرادةٍ لبنانيةٍ وطنيةٍ، بل هو نتيجة لتأثيرٍ إقليمي، ولتقاعسٍ في تطبيق العدالة والمساواة، ولضعفٍ في حكم البلد وإدارة شؤونه من السلطة الحاكمة. ورأى الحويّك أن الفرنسيين يُضحّون بأصدقائهم المسيحيين ليكسبوا محبة المسلمين ولا يعاقبوا هؤلاء على أعمالهم الإجرامية، بل يمنحونهم وظائف إدارية أكثر مما يستحقون وعلى حساب المسيحيين، وهم بسياستهم هذه خسروا محبة الأصدقاء ولم يكسبوا محبة الآخرين. وأشار إلى أن التطبيق “العادل” للانتداب وتسليم المواطنين زمام الحكم والإدارة والعدل، وإحقاق العدل والنظام، وإنصاف الجماعات ومساواتها، تُعيد الأمور إلى مجراها التاريخي الخاص بلبنان، فتعيش الشعوب اللبنانية بسلام كما كانت في الماضي. 

وسعى الحويّك أيضًا إلى حسن تطبيق الإنتداب وعدم تحويله شكلاً من أشكال الاستعمار، وإلى وضع قانون أساسي موافق للبلاد ولطموحات أبنائها وطوائفها في المضمون والشكل كما في طريقة نصه. وشدّد على المحافظة على نظام الأحوال الشخصية لأسباب تاريخية إجتماعية ودينية. وطالب السلطات الفرنسية بعدم التدخُّل في الشؤون الدينية واحترام الخصوصية اللبنانية وعدم إدخال أفكار أجنبية إلى لبنان لا تتلاءم وواقعه. وأكد في الوقت نفسه على المحافظة على هيبة فرنسا واحترامها. 

واعتبر الحويّك أن كل ما تحقّق في أيامه من توسيعٍ للحدود واستقلال للبلاد كان ثمرة نضال المسيحيين التاريخي في الشرق، وأنه نقطة البلوغ الحتمية لملحمتهم التاريخية.  

(*) أرشيف بكركي 

شاهد أيضاً

ضاهر:” تمنى على الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة وقف السجالات العدائية “

تمنّى النائب ميشال ضاهر على “الأحزاب المسيحيّة الأساسيّة”، وقف “السجالات العدائيّة في ما بينها، وإيلاء …