لااااااا ! الدرس الأول. الشمس تشرق باكراً على هويتي

بقلم الدكتور علي حجازي

الهوية المدماة على امتداد جذور الأباء والأجداد

باكراً استيقظت، قل سبقت الشمس إلى النهوض هذه المرّة، مع أنّني لم أنم تلك الليلة التي زفّ فيها والدي إليَّ قراره السارَّ، والذي غمرني بسعادة لا توصف قال: “قرّرت الذهاب صباحاً إلى جديدة مرجعيون بإذن الله “.
“هذا الليل طويل، متى تشرق الشمس يا ربّي”؟ هذا ما ردّدته مرّات، وأنا أتقلّب في فراشي، وكلمات المختار تترجّع في رأسي: “تفضّل هذه الإفادة المطلوبة للحصول على تذكرة الهوّيّة، وأنصحك بالذهاب غداً، خشية ضياع السنة الدراسيّة عليه”
حاولت جاهداً معرفة الرابط بين التسجيل في المدرسة وتذكرة الهوية فلم أقدر، كما فكّرت في تعرّف ما تعنيه “جديدة مرجعيون” و “دائرة النفوس” من دون جدوى، لأنّ فكّ شيفرات هذه الكلمات صعبٌ على طفل في الخامسة من عمره مثلي. أمّا الذي فهمته من الأستاذ عادل فهو : وجوب الإسراع في التسجيل، لأنّ المقاعد محدودة.
بينَ أنا أفكّر سمعت صوت الحاج علي حسين وهو يرفع الأذان، فرحتُ كثيراً، وبعد صلاة الصبح غادرنا البلدة نزولاً إلى وادي السلوقي عبر “العيطة” و “بير الحاج سعيد” و “وادي الرصيف”.
عند “بير الحاج سعيد ” توقّفت قليلاً، خطفت بصري إلى “جلّ القطن” حقلنا الذي كنّا نزرعه تبغاً، فضلاً عن شجرات التين والزيتون التي نقلها أبي إلى جانب الجدران إفساحاً في المجال أمام زراعة التبغ، وأخذت أستعيد ذكريات ذلك اللقاء الجميل تحت الزيتونة الكبيرة المعمّرة المزروعة أصلاً في الربعة للجهة الجنوبيّة، حيث جلست مع أبي وخمسة رجال لا أعرفهم . لحظتذاك كانت عيناي معلّقتين على ما وضعوه جانباً عند تناول الطعام الذي حملناه إليهم، وهمست في سرّي: “إنّهم كانوا ينتظرونه بناءً على موعد، على ما يبدو”.
نظر إليّ وقال:
– ما الذي يشغل بالك الآن؟
– أفكِّر في جلّ القطن، وفي تلك الجلسة المسائية يا أبي.
– سأعرِّف لك هوّية هؤلاء الرجال في الوقت المناسب. أمّا الآن فأعرّفك بالقرى المشرفة على بلدتنا. أنظر تلك المتربعة على تلك التلّة “حولا”، وفوقها تماماً “المنارة” وتلك “طلوسة” تقابلها “بني حيّان” و “ربّ الثلاثين” يقابلها “الطيبة” وفوقها “مسكاف عام” . وقريباً نصل “القنطرة” ومنطقة “بئر الصراعي”.
هيّا الآن نكمل المشوار.
مشيت معه وأنا أفكّر في إجابته عن السؤال الذي طرحته عليه في طريق عودتنا ذلك المساء من جلّ القطن:
“من يكون هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت؟ وما هي الآلات الصغيرة التي وضعوها بعناية قرب جذع الزيتونة؟ فعضّ شفته وأجاب: “إنسَ، ولا تخبر أحداً عن لقائنا هذا المساء، ولا داعي لتكرار كلامي”.
خلال عبورنا وادي الرصيف الذي أبصرت الشمس تقبّل أغصان أشجار البلّوط والزعرور وغيرها المتسلّقة ضفتيه، سألت أبي عن تسمية هذا الوادي؟ وعن سرّ البلاطات المرصوفة فيه من أوّل الطريق إلى آخره؟
– أمّا التسمية فهي واضحة الدلالة، فهذه البلاطات المرصوفة بعناية هي التي منحته الأسم. أمّا من وضعها؟ فبحسب ما علمت من أبي أنّ نبوخذ نصَّر يوم حاصر اليهود اتّخذ من بلدتنا معسكراً له، لذا، قام جيشه برصف هذه الطريق مع درب الصوانة وغيرها ببلاطات حجرية تكشف القادم عبرها من خلال الصوت التي تُحدثه الخيول والعربات عليها”.
قطعنا الرصيف ووصلنا إلى السلوقي الذي شكّلت أشجاره مع أشجار الرصيف وتلك المتجذّرة في الجبل الذي تتربّع “القنطرة” على كتفه لوحة خضراء بديعة الجمال، وأشد ما أدهشني منظر تلك اللوحة البهيّة حيث كانت أشعّة الشمس تقبّل الندى المستلقي بطمأنينة على أوراق السنديان والملول والزعرور والشبرق والبطم وغيرها.
توقّف أبي في السلوقي قليلاً. رفع كفيّه وراح يتلو سورة الفاتحة.
سألته:
– عن روح من تقرأ الفاتحة في هذه الوادي التي لا يوجد فيها قبور؟
مسح عينيه وقال:
– انظر هذه الصخرة. هنا استشهد ابن عمّنا الشاب علي قاسم حجازي.
– من الذي قتله يا أبي ؟
بعد قليل نصل بئر الصراعي فأجيبك. أمّا الآن فنحن متوجهان إلى “الجزّيرة” ومنها نصل إلى القنطرة. المسافة ليست بعيدة، إنّما هي شاقّة نظراً للصعود الحادِّ، ولوعورة الدرب.
وصلنا متعبين إلى “بئر الصراعي” وهناك أدار وجهه إلى بلدتنا التي بدت لي أنها في متناول يدي، تنهّد وقال:
– من هذا المكان قصف الجيش بلدتنا هذا العام الذي شهد ثورة جبل عامل وانتفاضته في وجه “حلف بغداد” وفي الوقت نفسه أطلقت قواته أقصد الجيش النار على الثّوار فاستشهد المرحوم علي.
– وما تقصد بحلف بغداد يا أبي؟
– كميل شمعون رئيس الجمهورية تحالف مع الغرب بقصد تغيير وجه لبنان العربي، وأراد أن يجدّد لنفسه في موقع الرئاسة. وأنت تعرف أنني سُجنت مع الشباب. الآن هيّا نكمل سيرنا شرقاً تجاه بلدة “الطيبة” التي تفصلها عن القنطرة مسافة ساعة تقريباً.
في الطريق رحت أفكّر في البحث عن دماء الشهيد علي الذي شربه التراب قرب تلك الصخرة التي تحمل اسمه، و استرجع مشهد وصول جثمانه محمّلاً على ظهر الحمار وأصوات النسوة اللواتي استقبلنه بالزغاريد والدموع، كما استعدت كميّة الخوف الذي نال منّا حين كنّا مختبئين في البركة العتيقة احتماءً من قصف الجيش على مساحة امتداد انهيار القذائف.
على مشارف بلدة الطيبة توقّف أبي وأشار إلى بلدةٍ مشرفة مطلّة تظلِّلها أشجار كثيفة جميلة وقال:
– هذه نجمة الصبح، بلدة لبنانيّة باعوها لليهود الذين بدّلوا اسمها فصار “مسكاف عام”.
– من الذي باعها يا أبي؟
– انظر، وهذه دارة البيك (البك).
– من الذي باعها قل لي؟
– غداً عندما تكبر، بإذن الله، تعرف تفاصيل الحكاية.
– أي حكاية تقصد؟
– حكاية بيع نجمة الصبح والمنارة.
– نعم، ستعرف بنفسك قصة بيعها مع المنارة الواقعة فوق بلدة حولا. حولا التي ارتكب اليهود فيها أبشع مجزرة قُتل فيها خمسة وثمانون شاباً ورجلاً، من بينهم إبن خالي المرحوم دخل الله فحص، في حين نجا إبن خالي الحاج عبد الحسن فحص. .. أمشِ فالطريق لا يزال طويلاً، ولم تعبر أيّ سيارة أجرة بعد.
قبل وصولنا إلى آخر بلدة العديسة شرعت أفكّر في هؤلاء الضحايا الذين أراق اليهود دماءهم في بلدة حولا.
في آخر العديسة انفتحت الأرض أمامي على مساحات شاسعة من الخضرة. ثبتُّ مكاني وشرعتُ أُنقِّل بصري يميناً ويساراً وقلت بصوت عالٍ:
لاااا .
دنا مني وسألني:
– ما بك يا حبيبي؟ وما الذي دفعك إلى هذا قل؟
– أنظر يا أبي، عن يميننا لوحات جميلة تزينها شجرات وبساتين وعن يسارنا صخور وأرض جرداء قاحلة.
– هذه البساتين التي عن يميننا هي فلسطين المحتلة، وهذه الأرض هي أراض لبنانيّة.
– فلسطين المحتلّة؟ ومن الذي احتلها يا أبي ؟
– اليهود، والآن، دعني أكشف لك سرّ أولئك الرجال الذين التقيناهم ذلك المساء في جلّ القطن هم فدائيّون فلسطينيون، والرشيشات الصغيرة التي وضعوها جانباً أسم الواحد منها “بور سعيد” أفهمت الآن؟ قال ذلك وأمسك يدي وأشار إلى بلدة ليست بعيدة من مطلّ بلدة العديسة على أرض فلسطين:
– انظر تلك بلدة كفركلا نصلها بعد ثلث ساعة تقريباً.
عند محاذاتنا كفركلا غذّ أبي السير، ولم يلتفت إلى كرم التفاح الواقع إلى يميني مباشرةً إلّا قليلا. أمّا أنا فتسمّرت مكاني لدى وقوع بصري على صبيّة واقفة تحت شجرة التفاح. توقّفت أنظر إليها بدهشة كبيرة، بينما تابع أبي سيره معتقداً أنني أتبعه. كانت شقراء، طويلة القامة، عيناها زرقاوان، شعرها ذهبي اللون، والذي شدّ انتباهي أكثر ذلك “الشورت” القصير الذي ترتديه مع قميص قصير لم يغطِ سوى القليل من صدرها الزهريّ اللون المشرب بحمرة .
أخذت أقارن بينها وبين صبايا بلدتنا اللواتي يغطين رؤوسهن وأجسادهن . الصورتان مختلفتان تماماً. من تكون هذه الفتاة يا ترى؟ تساءلت.
لمّا رأتني أحدّق إليها أشارت إليّ أن أتقدَّم وأقطف تفاحة، ومدّت يدها نحو تفاحة كبيرة حمراء، وكلّمتني بكلام لم أفهمه.
شرعت أنقِّل بصري بينها وبين تفاحتها وبين أبي الذي سبقني فناديته:
– أبي أنظر. إنها تدعوني لأقطف تفّاحةً.
التفت أبي بسرعة، فهاله المشهد. كانت الشقراء مادَّة يدها صوب التفاحة، وأنا واقف مكاني لا أحرِّك ساكناً، وسرعان ما أطلق أبي صرخته التي تردّدت كثيراً بعد ذلك في رأسي:
– لااااا هذه يهوديّة يا علي. تعال.
لما دنوت منه كنت ممتقع الوجه كمن ارتكب جريمة فظيعةً. أمسك يدي وقال:
– ألم أخبرك عن مجزرة حولا وعن المجازر التي ارتكبها هؤلاء المجرمون في هذه الأرض أرض فلسطين التي صادروا تينها وزيتونها وكلّ شيء فيها مع التفاح الذي تحاول هذه اليهوديّة أن تجود عليك بتفاحة منه … لا لا لا. ثمّ، انظر أتظنُّ أنني لم أشاهدها مثلك؟ بلى أبصرتها مع ذلك السلاح الذي علّقته في غصن شجرة التفاح.
وأخيراً، وبعد جهد جهيد، ما بعده مزيد، وصلنا مرجعيون وقصدنا دائرة النفوس، حيث سلّم أبي على الحاج كامل العبدالله الذي سأله:
في أي يوم وشهر وسنة ولد علي؟
صَمَتَ أبي وحكّ راسه وأجاب:
سجّله في السادس من آذار من عام واحد وخمسين.
حمل الحاج تذكرة الهويّة وقال لي وهو يطبع قبلة على وجهي:
مبروك يا علي صرت لبنانيّاً منذ أكثر من عشر سنوات.
– بل جذورنا متجذّرةٌ في هذه الأرض منذ زمن بعيد يا حاج.
أمسكت التذكرة جيّداً، كمن يحمل كنزاً ثميناً، وشرعت أفكّر في الجذور الثابتة في هذا التراب منذ زمن .
لمّا اصبحنا خارج باب دائرة النفوس احتضنني أبي وقال:
– مبروك عليك الهوية يا حبيبي.
أغمضت عيني ورحت أفكّر في معاناة أهلنا على امتداد هذه الارض وترابها الذي شرب من دمائنا، وعلى تحمّلهم المذابح اليهوديّة ومشاريع شمعون رئيس الجمهورية، وجيشه الذي قتلنا في وادي السلوقي، وقصفنا في بلدتنا قبريخا، واعتقل أبي الرافض التخلي عن هوّيته، والذي كُتب عليَّ وعلينا مواجهة المسؤولين التابعين لتلك المشاريع الاستعماريّة الهادفة إلى تغيير هويتنا الوطنيّة .

في البلدة أسرعت إلى المدرسة حاملاً الهوية الجديدة إلى الأستاذ عادل الذي رحَّب بي وبارك الهويّة والتسجيل في المدرسة التي رحت أتمنى أن يُمنح أبي حصّة درس تاريخ يعلّمنا فيها جزءاً من تاريخ هذه الأرض ومعاناتها على امتداد الزمن.
قبريخا في 21/9/2022
الدكتور علي حجازي

ملاحظة:
عندما قرأت ابنتي هذه القصّة قالت: كم تفاحةً عنقوديّةً أُلقيت علينا وعلى بيوتنا وتفاحنا من قبل هؤلاء المحتلين أرض فلسطين؟
ملاحظة ثانية:
جرت أحداث هذه القصَّة في العام 1958

شاهد أيضاً

مسيرات حاشدة في مديريات المربع الغربي بمحافظة إب اليمنية بعنوان ” معركتنا مستمرة حتى تنتصر غزة “

تقرير /حميد الطاهري شهدت مديرية حزم العدين بمحافظة إب “وسط اليمن” عصر اليوم ، مسيرة …