الملكة إليزابيث الثانية: وفاتها تعيد إلى الذاكرة الماضي الاستعماري لبريطانيا في جنوب إفريقيا

أندرو هاردينغ

زارت الملكة جنوب إفريقيا المعزولة عندما كانت في الحادية والعشرين من عمرها مع والدها الملك جورج السادس

على مدار الأسبوع الماضي، تعاملت دولة جنوب إفريقيا، الدولة ذات العلاقة الفريدة والمعقدة مع العائلة الملكية البريطانية، بصمت واضح مع وفاة الملكة إليزابيث.

في حين أن البعض هنا ينعونها بهدوء ويتذكرون على وجه الخصوص صداقتها الفريدة مع نيلسون مانديلا ، اختار كثيرون آخرون التركيز على إرث الإمبراطورية البريطانية المثير للجدل بشدة والمختلف حوله بشكل حاد .

بينما كانت تقف بجانب مجرور صرف مفتوح في بلدة فقيرة خارج كيب تاون، قالت الطالبة الجامعية سيبوليلي ستيرمان: “لن أقول إنني لا أحب الملكة، بل أرى ارث الاستعمار البريطاني في حياتي اليومية”.

في هذه الأيام، يشكك العديد من شباب جنوب أفريقيا على وجه الخصوص، في التفاهمات والمساومات التي رافقت انتقال بلادهم إلى الديمقراطية في أوائل التسعينيات، ويطالبون الدول الغربية ببذل المزيد للاعتراف بقرون من الاستغلال الاستعماري.

قالت ستيرمان: “أحبّت جدتي الملكة. لكننا جيل مختلف”، مشيرة إلى دعوات في جنوب أفريقيا على مواقع التواصل الاجتماعي هذا الأسبوع، لبريطانيا لإعادة ما يقولون إنه ألماس جنوب إفريقيا “المسروق” الذي يزين التاج البريطاني.

تم إهداء ماسة كولينان، أكبر ماسة على الإطلاق، للملك إدوارد السابع في عيد ميلاده السادس والستين من قبل المسؤولين الاستعماريين في جنوب أفريقيا.

بعد الحرب العالمية الثانية بوقت قصير، زارت الملكة إليزابيث التي كانت آنذاك أميرة، الطرف الجنوبي من إمبراطورية بريطانيا الإفريقية الشاسعة، ووصلت إلى كيب تاون مع عائلتها على متن سفينة حربية جرى تعديلها خصيصصا لرحلتها في عام 1947.

في ذلك الوقت، كان رئيس الدولة في جنوب أفريقيا هو الملك البريطاني، جورج السادس رغم أنها كانت تتمتع بالاستقلال.

وأظهرت لقطات من شريط الأخبار بالأبيض والأسود إليزابيث وشقيقتها مارغريت وهما تضحكان وتلعبان في عطلتهما مع البحارة على متن السفينة إتش إم إس فانغارد تحت ظلال جبل تيبل.

ولكن مع نزول الفريق الملكي إلى الشواطئ، تحول تركيزهم إلى المهمة الملحة المتمثلة في محاولة مساعدة بريطانيا في الحفاظ على نفوذها العالمي وروابطها التجارية، في وقت كانت فيه العديد من الدول تتخلص من أغلال الإمبراطورية في أعقاب الحرب.

أثناء وجودها في كيب تاون، بلغت الأميرة إليزابيث الحادية والعشرين من عمرها، وتميزت بخطابها الجاد في تلك اللحظة حول دورها المستقبلي كملكة.

وقالت: “أتعهد أمامكم جميعاً بأن حياتي كلها سواء طالت أم قصرت، ستكون مكرسة لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبراطورية العظيمة التي ننتمي إليها جميعاً”. وتم بث خطاب الأميرة حول العالم .

بعد ساعات، اجتمع أفراد النخبة البيضاء حصراً في المدينة الساحلية بأزيائهم الخاصة لحضور حفلة عيد ميلاد ملكية. وحضر في تلك الليلة رجل واحد من غير البيض وهو جوهر موسافال، نجم الباليه الصاعد وقتذاك.

يتذكر موسافال الطاعن في السن ولكن صاحب المظهر الأنيق والبالغ من العمر 94 عاماً، تلك الليلة ويقول: “شعرت بسعادة بالغة وغمرني الفخر، شعرت أنه من الرائع رؤيتها في عيد ميلادها الحادي والعشرين”.

بعد بضع سنوات، تم اختياره للرقص في حفل تتويج الملكة إليزابيث في لندن.

ويقول مفتخراً: “كنت أول أسود في العالم ينضم إلى فرقة الباليه الملكية. لا يزال لدي برنامج التتويج المسجل كدليل على أنني رقصت منفرداً لجلالة الملكة التي لعبت دوراً في جميع أنحاء العالم ” وامتدح الملكة على “الدور العظيم الذي لعبته في مختلف ارجاء العالم”.

موسافال يحمل الدعوة إلى الحفل الحصري

وكانت الجولة الملكية لعام 1947 في جنوب إفريقيا و جلها كانت بواسطة القطار موضع ثناء وأُعتبرت نجاحاً كبيراً.

وقال مذيع أخبار بريطاني في ذلك الوقت: “هذه الأحداث في جنوب إفريقيا يراقبها العالم بأسره. إنها ستسكت العديد من الأصوات التي كانت مستعدة تماماً لقول أن أيام الإمبراطورية البريطانية قد ولت”.

في الحقيقة كانت الإمبراطورية البريطانية تنهار بالفعل.

في جنوب إفريقيا، وصلت حكومة أقلية بيضاء عنصرية إلى السلطة واتبعت سياسة فصل عنصري وحشية تُعرف باسم الابارتايد، دمرت حياة الأغلبية السوداء وأخرجت البلاد من منظمة الكومنولث وعاشت عقودا من العزلة الدولية.

لقد استغرق الأمر نصف قرن قبل أن تعود البلاد مرة أخرى إلى الكومنولث وتمكنت الملكة إليزابيث من العودة إلى جنوب إفريقيا، في عام 1995 ، متجهة إلى الساحل مرة أخرى في كيب تاون ليستقبلها الرئيس المنتخب حديثاً نيلسون مانديلا الذي جرى إطلاق سراحه من السجن قبل فترة قصيرة من أجل الإشراف على انتقال مضطرب ولكنه ناجح في نهاية المطاف من الفصل العنصري إلى الديمقراطية.

أقامت الملكة علاقة وثيقة مع نيلسون مانديلا

قالت السكرتيرة الخاصة لمانديلا، زيلدا لا غرانج، هذا الأسبوع: “لقد كانت علاقة غير عادية للغاية”، متذكّرة العلاقة التي اقامها الزعيمان بسرعة.

“ذات مرة زارها في قصر باكنغهام وقال:” إليزابيث، لقد فقدتِ بعض الوزن”. وبالطبع انفجرت الملكة ضاحكة، وبعد ذلك قالت زوجة مانديلا: “لا يمكنك مناداتها إليزابيث، إنها ملكة إنجلترا”. فقال: لِمَ لا، فهي أيضاً تدعوني نيلسون.

لكن هل كان لتلك العلاقة الوثيقة ثمن؟

يعتقد البعض أنه ساهم في إحجام حكومة مانديلا بقيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي عن مواجهة بريطانيا مباشرة بشأن قضية التعويضات، التعويض المالي عن الأضرار التي لحقت بالاقتصاد والمجتمع في جنوب إفريقيا بسبب قرون من الاستغلال والاستعمار.

وقالت مامفيلا رامفيلي، وهي ناشطة وسياسية بارزة مناهضة للفصل العنصري: “لا أعتقد أن الرئيس مانديلا أثار هذه القضية”.

“ربما كانت الملكة كفرد فكرت بذلك. لكن الحقيقة هي أنها كانت رمزاً، ورئيسة الدولة البريطانية، ولم تكن هناك أي خطوات فعلية للاعتراف والتراجع عن نظام عدم المساواة العنصري الاستغلالي الذي أقيم جنوب إفريقيا، سواء خلال الفترة الاستعمارية أو في ظل نظام الفصل العنصري أو حتى بعد إنتهاء نظام الفصل العنصري”.

وأشارت بشكل واضح إلى أن الكومنولث قد يكون لديه الكثير من الأشياء المشتركة، لكن الثروة كانت متركزة كلها في لندن.

لكن مع ذلك، كانت زيارة الملكة إلى كيب تاون عام 1995 إشارة قوية على عودة جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري إلى الحظيرة الدولية، ونهاية وضعها كدولة منبوذة. على الرغم من المخاوف الأمنية، أصرت الملكة على رؤية واقع جنوب إفريقيا الجديدة، وزيارة العديد من البلدات التي كانت تعيش في ظل العنف.

التعليق على الصورة، The Queen during her visit to the Education Centre in Alexandra township in Johannesburg in 1999

“لقد كان حدثاً كبيراً. كان الناس فضوليين لرؤيتها. كان هناك حوالي عشرة آلاف شخص وكانت الفوضى تسود المكان الى حد كبير ولكن كان من المهم أن تأتي إلى البلدة السوداء”.

وقال إزرا كاجوي ، المدرب الرياضي المتقاعد الذي حضر حدثاً ملكياً حاشداً في بلدة لانجا: “كان من الممكن أن تبقى في المدينة، لم تشعر بالخوف”.

ويضيف: “لم يكن الأمر كما اليوم حيث الناس حزينون هنا. فالزيارة التي قامت بها الملكة حدثت منذ وقت طويل، عدا عن أنها كانت متقدمة في السن أيضاً”.

وقالت امرأة كانت تقف خارج كوخها تغسل الملابس: “لا أعتقد أن هناك أي صلة بين بريطانيا وجنوب إفريقيا على الإطلاق”.

وقالت إحدى الطالبات الثلاث، اللائي كن يتجولن في الجوار إنهن لم يعرفن الكثير عن الملكة ولا يهمهن أمر العائلة المالكة البريطانية كثيراً.

لكن من المرجح أن يتذكر كبار السن في جنوب إفريقيا، بشكل إيجابي، الفرص التعليمية التي منحت لهم في عهد الامبراطورية، بعكس المعاملة المهينة و “تعليم البانتو” العنصري الذي عانى منه السود خلال مرحلة الفصل العنصري.

لا يزال هناك العديد من مواطني جنوب إفريقيا البيض في كيب تاون يحملون جوازات سفر بريطانية وقد حزنوا على وفاة الملكة على الرغم من أن أجهزة التلفزيون في نادي كيلفن غروف الخاص والمميز كانت تعرض لعبة الركبي والكريكيت أثناء زيارة الملكة الأخيرة.

وقال كريغ سترانغ الذي كان جالساً حول موقد حطب مع أصدقائه: “أعتقد أن الملكة كانت من أشد المؤيدين لجنوب إفريقيا. الاستعمار كلمة قذرة في هذا البلد، لكنني من مؤيدي الاستعمار وأعتقد أن هناك العديد من الجوانب الايجابية له التي ربما تفوقت على جوانبه السلبية”.

لكن المزاج الوطني إذا كان يمكن اعتبار المتصلين بمحطات إذاعة بارزة مؤشراً موثوقاً به يميل إلى تجنب الحنين الى العهد الملكي، والتركيز بدلاً من ذلك على قضية الاستعمار.

قد لا يكون ذلك مفاجئاً في بلد منقسم بشدة حول السبب استمرار معاناة الكثير من مواطنيه من عدم المساواة والفقر المترسخ منذ ما يقرب من ثلاثة عقود من الزمن، أي منذ نهاية الفصل العنصري.

يقول معظم مواطني جنوب إفريقيا: “أعطونا فرصة لنكون صريحين في تقييمنا لإرث الملكة”.

قال كليمنت ماناتيلاث، الذي يقدم برنامجاً صباحياً شهيراً على راديو 702 : “عندما ننظر إليها، نفكر ونقول: هذه وجه الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية؛ المؤسسة التي أغنت وأثرت نفسها من خلال العنف والسرقة والقمع”.

شاهد أيضاً

دبوس

ا لتآكل… سميح التايه ثلاثمائة من الصواريخ البطيئة، وبضع عشرات من المُسيّرات التي لا تندرج …