إلى والدة زوجتي بعض وفاء..

حيدر دقماق

#أمي_التي_لم_تلدني..لكنها ولدت روحاً سكنتني..ورحمة ومودة أسكنتني. 

أم محمد علية.. لم تقرأ في حياتها حرفاً واحدا..لكنها قرأت في كتاب الحياة ما يغنيها..وتعلمت بين سطوره دروساً تعنينا وتعنيها..

هي ماتت حين مات ابنها علي..وما عاشته بعده كان سنين فارغة..لأن الألم سكنها.. ومرّ الفقد لازمها..

في زمن الاحتلال كانت تقاوم..كان جنود العدو يدخلون بيتها، وكانت تقاوم..كانوا يثيرون الرعب والذعر بين أبنائها وهي تقاوم..وكان العملاء الملثمون يطربهم سماع صرخات غضبها..

أخذوا علي إلى المعتقل.. أشبعوه ضرباً وأذية ثم قتلوه..قتلوه بالضربة القاضية، فخرج يعاني من كليته مرضاً مميتا..جاء أخوه محمد بكل ما جناه في المهجر من مال وديون..حاول إنقاذ علي لكنه لم يفلح.. كان تعذيب الصهاينة قاتلا..سكن المستشفى، لم يغادرها إلى أن أسلم الروح، وغادر باكرا..

سريعاً غادر علي.. وقلب أم محمد علية يعتصر ألما..عاد محمد للسفر مجدداً ليسدد الديون المتراكمة..ولكن خسارة علي كانت أكبر من كل خسارة..

بقيت أم محمد تقاوم..رغم كل أوجاعها وتجاعيدها.. بقيت تقاوم..وبقيت صورة علي معلقة عند جدار البيت والقلب..لا حدّ لأوجاعها.. ولا نهاية لمرارتها.. وانكسارها..سكبت ماء عيونها وزرعت في أرضها حبات قلبها..وبقيت تقاوم.. وتدافع في وجه المعتدين والطامعين..

كانت تروي للأرض وترويها.. وتفرد لها مواويلها..وتسيجها بحبيبات الخير والعطاء والحب لتحميها..الأرض كرامتها.. لا تتنازل عنها لأحد كائناً من كان..نعم.. كانت تتنازل عن بعضها أمام الفقر.. حتى لا تنحني..كي تأكل وتطعم أولادها لقمة العيش بكرامة.. نعم بكرامة..

بقيت تعمل في أرضها بصمت، وتقاوم..تحملت من الحياة فوق طاقتها.. وتجملت بالصبر..وكانت تختزن الكثير.. إلى أن ماتت وفي قلبها ألف غصّة..تحمل همّ أولادها وأوجاعهم، تحاول أن تدفع عنهم كل ظلم..

توقف قلبها.. ولم نجد ما يُشفيه.. ولم نعرف ما يُخفيه..من قهر وظلم.. مذ رحل علي، ثم زوجها المظلوم..والشرح يطول.. فثمة صمت كثير، وصبر جميل..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

أم محمد علية أيقونة..إسم خالد في ذاكرتنا.. وحياتها تكتب صفحات في كتاب..كتاب لا شك أن فيه الكثير من فرح صنعته لأجلنا..وكانت هي فرحنا حين نتحوّق حولها.. نصغي لحكاياها..وتفرح قلوبنا بكثير دعائها.. ومعنوياتها التي تعطينا..

وصفحات من ألم ممزوج بكثير من العتب..فهي لا تعرف غير الحب والطيبة والوفاء..ولم تطلب من أحد غير وفاء ما تعطي..ونقطة أول السطر..

البارحة ودّعناها.. وأودعناها الأرض..سكنت حيث طلبت تحت “أقدام” ابنها علي..جاورته لتحكي له رحلة الحياة المريرة بعده..وليأخذ بيدها إلى فردوسه جائزة كل شهيد..

أم محمد علية أسطورة..رغم كل أوجاعها بقيت تقاوم..توقف قلبها هنيهة ثم عاد لأنها تقاوم..

بالأمس.. حملناها إلى ضريحها المعطر بالمسك..وحتى آخر لحظة كانت تقاوم..كنت ألقّنها الشهادة بوفاء وتحنان..وكانت عينها تدمع بابتسام.. وتقاوم…

المرحومة #الحاجة_علية_بري.. والدة زوجتي..#الحلوسية..#الحميري..

شاهد أيضاً

وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني

غيب الموت اليوم الجمعة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما، وفق ما …