الاسترجاع والسرد الأحادي في رواية رحلة إلى الهناك للروائي محمود جاسم النجار

إبراهيم رسول

عند قراءتنا في رواية رحلة إلى الهناك للكاتب العراقي الراحل محمود جاسم النجار الصادرة عن منشورات دار أوطان بطبعتها الأولى سنة 2015, تتوفرُ لنا جُملة من الرؤى والأفكار في خِطابها السرديّ, وقد جاء العنوان من صميمِ تِقنيات السرد التي وظفها الروائيّ في روايتهِ, فهو يشتغلُ على سردياتٍ أو على سردِ أحداثٍ أغلبها ماضية , بقيت تلاحقه في حياتهِ حتى لحظةَ التدوين. إنَّ الكاتبَ يعيشُ حالة الغربة, ليست الغربة عن الوطنِ والأهل فحسب, بل ثمةَ هناك غربة روحيّة يَعيشها الكاتب في ذاتهِ, إنَّها غربةُ النفس, وما نقصدُ بالاسترجاع هو التعريف الذي عرّفه جيرالد برنس بقولهِ: الاسترجاع analepsis هو مفارقة زمنية باتجاه الماضي, انطلاقاً من لحظة الحاضر. ( قاموس السرديات الصفحة 16, جيرالد برنس, ترجمة السيد إمام, دار ميريت للنشر والمعلومات الطبعة الأولى سنة 2003).
يمثلُ الاسترجاع, كسراً لنمطيةِ السرد, ورجوعٌ إلى الوراءِ, لكسرِ الحاضر الزمنيّ, فهو يُمثلُ الصدمة أو الاستراحة من السردِ لحظةَ التدوّين أو لحظةَ وقوع الحدث, يلجأ الكثيرُ من الروائيين إلى التذكر أو استدعاء الماضي, لفك شفرات مُلغزة أو لإزالة الروتين الذي يكاد أن يُهيمنَ في بعضِ الأحيان على تطورِ الحكاية, فلا بدَّ أن يتلاعبَ السارد بالزمنِ, ويحوّله من حاضرٍ إلى ماضٍ وقد يكون الماضي بعيداً جداً, فالمهمُ هو التلاعب بالزمنِ لئلاَّ يُصاب المُتلقي بحالةِ السِكون أو الجمود, نتيجةَ الاستمرار في التتبعِ السرديّ ومسايرة الأحداث, التساؤلُ الذي يجد حضوره في هذه الرواية, هو ماذا يعني الماضي للكاتب؟ وماذا يريدُ من وراءِ كلّ هذا الرجوع نحو الماضي كثيراً؟
قد لا يكون الجوابُ حاضراً في الحالِ, إلا أنّ الرواية في خطابها, قد عُنيت بالذكريات, وهذه الذكريات يُراد لها أن تكوّن مُدونةً لأنَّها تُسجل رأيها الاستنكاري في حقِ السلطة الحاكمة. المُتلقي يجدُ أن الكاتب, كان حالماً, فهو يعيشُ في داخله عالماً لا واقعيةَ فيه, عالمٌ أفلاطونيٌ. وهذا العالمُ جعله يكون منطوياً في كثيرٍ من أوقات الحياة.
الكاتبُ يبدأ روايته بلحظةِ تأسيسٍ لسوداوية الأحداث التي سيُدونها, فهو يبدأ النقطة الأولى بسوادٍ قاتمٍ, والكلمةُ الاستهلاليةُ لا تحملُ إشارة إلى ضوءٍ قادمٍ على العراقِ, حيث يقول في أوِّلِ الرواية: ضاقت ثم ضاقت.. ولم يكن هناك أيُّ أكل لنا بأن يأتي لحياتنا يوم ما وتفرج.. هكذا هي الأيام العراقية( الصفحة 11) , هكذا قالها الروائي في أوّلِ الاستهلال، ومن بعدها بدأت رحلة التشاؤم حتى نهاية الرواية، طُبعت الرواية سنة 2015 بطبعتها الأولى، ولم يكنْ أيّ أمل في سردياته، هذا السواد كان يراها الكاتب، كأنَّه واقعٌ مفروضٌ على العراق، لذا، كانت غربته تمثلُ حالة الضياع والتمزق والتشتت التي صوّرها للعراق، وكان يأسى لهذا الواقع إلا أنَّه لا يملك مقوّمات تغييره.
حالة السواد والمأساة، رافقت السارد في كُلِّ مشاريعه السردية، فهو قدْ قرأ مستقبل العراق السياسيّ ووعى ما قرأ، فوصلَ إلى نتيجةٍ هي: أنّ قادمَ العراق شرٌ من حاضرهِ، وأنَّ غَدِه أقسى من يومهِ.
كانَ السردُ أحاديّاً, عبر صوت واحدٍ, هو صوت المؤلف, كان شخصية كامل , عبارة عن شخصية غير مهمة ولم تطور الحدث الروائي, ولم تفعل أيّ شيءٍ إلا بما يفرضه المؤلف عليها. فهي شخصيةٌ مقيّدةٌ بقيودٍ شلّت حركيتها, وجعلتها عبارة عن دُمية , يُحركها الروائيّ, أنّى شاء وكيفما شاء, فهذا السردُ جعلَ الشخصيّة تتجهُ باتجاهاتٍ قد تتناقض مع سلوكها الداخلي, المهم, أنَّها تُرضي السارد الذي يفرضُ رؤاه بصورةٍ تسلّطيةٍ. الواضحُ الجلّيُ في خطاب السرد, أنَّه يؤسسُ إلى أدلجةٍ معينةٍ, هذه الأدلجة تجلّت عبرَ الهيمنة التي مارسها الروائي على مجمل خطاب الرواية, حتى أنَّك لا تكاد تجد أيّ أثرٍ لشخصيةٍ ما, الشخصياتُ كلها بما فيها الشخصية الرئيسة, مسلوبة الإرادة, ولا صوتَ لها, وإن وجدَ هذا الأثر أو سُمعَ هذا الصوت, يكون الكاتبُ قد أعطى فرصة لغيره ريثما يلتقط أنفاسه من السردِ, السردُ الأحاديُّ جعلَ الرواية تسيرُ على خطٍ واحدٍ , ودون منعطفات أو تعرجات أو كسر للزمن حتى, الروايةُ تستذكر الماضي عبر ذاكرة تحمل أدق التفاصيل اليومية فقد كان واصفاً وصفاً دقيقاً لكل يومياته, تقنياتهُ كانت تقليديةً في السرد, فالرواية أقرب إلى المذكرات الشخصية منها إلى الرواية, فلو حُذفَ اسم كامل فقط, لأصبح الكتاب سيرة ذاتية للمؤلف! وهذا واضحٌ.
السردُ الأحاديّ لم يُطور الأحداث, إذ غابَ عنصر التشويق تماماً, ولم يعد هناك مفاجئات تُكسر رتابة بطء الأحداث, فإذا قُرأت الرواية على أنَّها روايةٌ, سيشعر القارئ بالمللِ والاحباط, أما أذ حُذفت كلمة رواية من غلاف الكتاب, سنقرأ سيرةً ذاتيةً , تحملُ الكثير من القيمة الإنسانية, فهو يؤسسُ لمشروع المواطنة الحُرة, التي تُبنى على أساساتٍ متينةٍ, الكاتبُ لم يقدم نقداً للسلطة الديكتاتورية, ويرفض أن يُعينَ بأيِّ دائرةٍ حكوميةٍ لئلاّ يكونَ مقيداً وهو الحُرُّ.
تبدأ الروايةُ بوصفٍ لقادمِ أيام العراق, أيّ أنّ الكاتب كان يدرك أنّ العتمة والسواد لن يرفع على العراق, إذ يتضح هذا في كراهية الشعب العراقي لحكامه الدكتاتوريين والديمقراطيين, وهذا الكره على حدٍ سواء, ويعلل الدكتور النفسي قاسم حسين صالح ذلك بقوله: حالة طبيعية أن تكره الناس حاكماً دكتاتورياً.. لكن أن يكرهوا حاكماً ديمقراطياً, كرهاً لأبعد مدى! فتلك سابقة في تاريخ السياسة العراقية, وإن يكره الناس سياسيين هم جاءوا بهم, فتلك نادرة في التاريخ! … ( الشخصية العراقية من السومرية إلى الطائفية, دار العرب, الطبعة الأولى سنة 2016, الصفحة 55) ثم يبدأ في نفس الصفحة بالشرح والتحليل بضوءِ علم النفس التحليلي, نخلصُ من هذا السرد ومن ذاك التحليل, أنّ العراقيينَ يشعرون بالخيبةِ, نتيجة التجربة التي عايشوها, فالدكتاتورية والديمقراطية كانتا جحيماً لا يطاق, وكلاهما يشتركان في موتِ الأمل في نفسيّةِ الفرد العراقيّ.
الكاتبُ يقدمُ مادته السردية على صورِ الإنسان المُحبط, المكسور, الحالم, يقدمُ نقده على هيئة رصاصاتٍ تصل لأبعد المسافات, فهو يغادر العراق عن طريق رحلةٍ سياحيةٍ إلى الأردن, أثناء التفتيش وفحص الجوازات وختم العبور بالدخول, ينتفض لكرامته, ويشعر بأنَّ السلطة في العراق, قد أذلّت المواطن, حينما جعلت من موظفٍ تافهٍ من موظفي الجوازات الأردنية, يخاطب كامل بقلةِ أدبٍ ( الموظف): كلكم تقولون ذلك ولكنكم تنسون أنفسكم, فتبقون هناك لتسيحوا في شوارعها وتذلوا أنفسكم وبلادكم
كامل: ليس هناك أعز من بلادي عليّ, والعراقيّ الحقيقي لا يحب أن يذلّ نفسه أينما وجد, أما عني يا أستاذ, فلدي عملي ومصالحي في بغداد والحمد لله, ويجب أن أعود إليها بعد أسبوع على الأكثر.( الرواية صفحة 39).
عَودٌ على بدءٍ, نقولُ أنَّ الروائيَّ رجعَ إلى الوراءِ في كل روايته, وهذا الرجوع كان يمثل حاجةً في نفسه, إذ كأنَّه أرادَ أن يؤرخَ لِحقبةٍ زمنيةٍ, هذه تعني وثيقة إدانة بحق سُلطة, مارستَ أبشع أنواع الظلم والتجبر في حقِ الشعب, والشعب وقعَ ضحية هذه السلطة. الرجوعُ إلى الوراء وبناء السرد على آلية الاسترجاع كان هو المهيمن على تقنيات السرد, إذ لم نشهد تقنيات متناوبة, وهنا تكون الرواية حكاية شخصية.
مثلّت الروايةَ صورة من صور الكتابة تحت الأثر, وهذا الأثر هو الحنينُ إلى الوطن والنفور من الغربةِ القاسية التي فرضت نفسها على العراقيِّ, الذي لا يستطيع أن يعود إلى الوطن, لأنَّه سيجدُ نفسه في أحوالٍ لا يرتضيها. المشاعرُ متأججةٌ في نفسيةِ الراوي, وهذه المشاعرُ كان تمثل الحافز في السرد, إلا أن السردَ كان يفتقرُ إلى ما يُضفي عليه صفة الامتاع, فنحن لا نقرأ جديداً في مجملِ فصول الرواية, البناءُ الروائيُ كانَ بناءً تتابعياً صرفاً ولا تداخل في أساليبهِ, لذا, تجد هيمنة الصوت الأحادي , قد اكتفت بالاسلوب التتابعي أو التسلسلي في طريقة سرد الحكاية, وهذا ما غيَّبَ النزعة الدرامية في الرواية, فهي روايةٌ وصفيةٌ وليست روايةً إبداعية. ختامُ القولُ في هذه الرواية , أنَّها متأثرةٌ بالواقعية والسيرة الذاتية, التي تريد أن تحفظَ لنفسها المنزلة في التاريخ الإنساني والرؤية الشخصية.

شاهد أيضاً

جهاز أمن مطار رفيق الحريري في بيروت يوقف طائرة تحمل عبارة “تل أبيب”

المديرية العامة للطيران المدني في لبنان تطلب من طائرة تابعة للخطوط الجوية الأثيوبية إزالة عبارة …