العميد أنور يحيى يُؤرخ لبنان السياسي والأمني بكتابه «الشرطة القضائيّة» وقائع وحقائق وإنجازات بالوثائق يكشف أسرارها وتفاصيلها

كمال ذبيان

اعتدنا في لبنان وبعض دول المنطقة، ان نقرأ مذكرات او مرويات لسياسيين او حزبيين واحيانا مفكرين ومثقفين، وقليل منها لمن عمل في الشأن العام، اضافة الى كتب تاريخية اصدرها مؤلفون عن لبنان القديم والحديث، او اخراج وثائق ومخطوطات عن فترات حكم امبراطوريات او دول توسع نفوذها، وكثير لكتب دينية.

ولم يتعرف اللبنانيون وقراء غيرهم على مذكرات او تأريخ لمراحل، عمل فيها موظفون كبار في مؤسسات الدولة الديبلوماسية والادارية والقضائية والعسكرية، الا ما ندر، لبعض الاشخاص الذين دونوا ما مروا فيه في حياتهم الخاصة والعامة، او استكتبهم باحثون وصحافيون، واجروا مقابلات معهم.

 

العميد انور يحيى اراد ان يكتب عن تجربته في قيادة الشرطة القضائية التي تولاها لمدة خمس سنوات (2005- 2010)، وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بحوالى شهرين ونصف الشهر، ليصدر كتابه بعنوان «الشرطة القضائية في لبنان – حقائق وانجازات»، وهو لم يؤرخ للمرحلة التي تبوأ فيها منصبه فقط، بل عرض لتاريخ الشرطة القضائية التي تعددت اسماءها من «البوليس العدلي» الى «الجنائي»، فهو يضيء على جهاز امني من ضمن قوى الامن الداخلي التي تأسست في لبنان منذ العام 1861، في زمن المتصرفية التي قامت في جبل لبنان اثناء حكم السلطنة العثمانية، واعطيت «ادارة او حكما ذاتياً».

 

فالكتاب يعود بنا مؤلفه الى زمن الوجود العثماني، ومن ثم الانتداب الفرنسي، لنقرأ فيه تطور القوى الامنية في لبنان ما قبل اعلان دولته من فرنسا في اول ايلول 1920، حيث يتحدث العميد يحيى مستفيضاً عن الهيكليات التي قامت عليها قوى الامن ومن ضمنها الشرطة التي اصبحت قضائية في العام 1959، والمهام الموكلة اليها، فيستحضر من خلال متابعته وقراءاته واعتماده على الوثائق، وهو الذي كان عضوا في لجنة كتابة تاريخ قوى الامن الداخلي، التي صدرت مجموعة باجزاء اربعة قبل سنوات، وهو عمل متقدم، في ان تضم المكتبة هذا التاريخ لمؤسسة امنية، مرتبطة بتاريخ لبنان الامني والجنائي، لا ينفصل عن تاريخه السياسي والحضاري والثقافي.

فما بدأه في لجنة تاريخ قوى الامن، استكمله في كتابه، مخصصا للشرطة القضائية التي امضى من خدمته العسكرية الـ 39 عاما، سنوات كثيرة في اجهزتها ومكاتبها، فتمرس فيها، عن علم وخبرة، وهو خضع لدورات عدة في الخارج، اضافة الى تسلمه مسؤوليات في وحدات اخرى.

كتب وزير الداخلية الاسبق زياد بارود، مقدمة الكتاب يقول فيها: «كتب انور يحيى فصولا من تاريخها (الشرطة القضائية) كقائد لها، لكنه اختار بعد تقاعد لسنين لا العقل ولا القلب، بل ان يكتب ايضا فصول تاريخها منذ العام 1861، يعمل بحثي توثيقي معمّق، تولاه العميد محصنا بتجربة جعلته يدخل الى تفاصيل التاريخ من ابواب سنوات خدمته الـ 39 التي امضاها في قوى الامن الداخلي، وان العميد انور يحيى، اشهد انني فخور بان يكون في بلادي ضباطا حملوا الامانة بصدق».

وفي توصيف الوزير بارود للكتاب ومؤلفه، فانه لامس ما قرأه فيه، اذ قدم العميد يحيى مرجعاً في كتاب يلجأ اليه من يريد ان يتعرف على قوى الامن في لبنان واجهزتها، ومن ضمنها الشرطة القضائية، وهو يقرأ الاحداث الامنية الكبيرة التي تناولها من السياسة، كمثل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما سبقها واعقبها من اغتيالات، فهو لا يتوسع فيها، انما يقرأها في زمانها ومكانها، وما حصل اثناء حصولها وبعدها، فينقل الحقائق والوقائع مستندا الى تحقيقات امنية وقضائية، واخرى لها ارتباط بالزمن السياسي الذي حصلت فيه، وهو تولى قيادة الشرطة القضائية في مرحلة شهد لبنان انقساما سياسيا بين 8 و14 اذار، وخلال السنوات الخمس حصلت اغتيالات او محاولات اغتيال وتفجيرات، من اغتيال سمير قصير وجورج حاوي ووليد عيدو وابنه الى الرائد وسام الحسن، وبيار الجميل وجبران تويني وانطوان غانم، الى محاولات اغتيال الوزير السابق الياس المر ومي شدياق وغيرهم، حيث يتحدث عنها المؤلف امنيا وقضائياً ويقرأها سياسياً.

فتاريخ الشرطة القضائية الذي كتب فصوله العميد يحيى، فهو مرّ فيه على محطات من تاريخ لبنان، حيث يعرض الكتاب لاسماء مفوضي الشرطة الذين تولوا قيادتها، ومنهم مدنيين وشعراء ومفكرين لا سيما في زمن الانتداب الفرنسي، افلم يكن شرطا لتعيين قائد او مسؤول للشرطة عسكريا، بل مدنيا، ان السلطة الحقيقية هي للمستشار الامني الفرنسي للبوليس، ويعتبر عارف ابراهيم وهو ليبي خدم في التحري العثماني المؤسس الاول للشرطة القضائية، او ما كان يعرف في العام 1921 القسم العدلي في البوليس، حيث لم يكن للمستشار الفرنسي دور سلبي في تطوير فاعلية التحري والشرطة، وحدّ من نفوذ السياسيين وكبار المفوضين وكبح الفساد، فكان بيكاردو سافيدون من ابرز المستشارين الفرنسيين في الشرطة، ومارس سلطة مباشرة على مفتش شركة لبنان الكبير عبد الرحيم قليلات.

وفي الكتاب تفاصيل ومعلومات عن ابرز الاحداث الامنية بشتى وجوهها والادوار التي قامت بها وحدات الشرطة القضائية والمفوضين الذين تولوها، حيث يكشف العميد يحيى عن فضيحة حبوب «الاسبرين» في العام 1926، حيث ضبطت الشرطة كمية من مادة «الجفصين» يجري تصنيعها على انها دواء «الاسبرين» مما تسبب بحالات وفاة، ليتأكد بان الفساد مرض مزمن في لبنان، قبل الاستقلال وبعده، حتى ايامنا هذه.

ويقدم العميد يحيى في كتابه سرديات لما رافق تعيين بعض قادة الشرطة القضائية، اذ رفض امين الجميل توقيع مرسوم تعيين العقيد عصام ابو زكي قائدا للشرطة القضائية، لخصومته انذاك مع وليد جنبلاط، في العام 1984، وكذلك تدخل النظام الامني السوري في تعيين ضباطا دروز في قيادة الشرطة القضائية التي بالتوزيع الطائفي هي من حصة الدروز، حيث يدعو العميد يحيى لالغاء الطائفية الوظيفية، وقد حصل ذلك في مراكز عدة منها في الامن العام.

ويذكر عن تدخل سوري حصل في تعيين العميد فؤاد ابو خزام من قبل العميد السوري رستم غزالة، ومحاولة تعيين العميد سليم صفا من قبل العميد غازي كنعان.

فالكتاب غني بالمعلومات التفصيلية المستندة الى وثائق الشرطة القضائية، فيعرض العميد يحيى لاهم الجرائم المكتشفة من قتل وخطف ومخدرات وتزوير واحتيال الخ… ويقوم عرضا عن سيرة ومسيرة من تولوا قيادة الشرطة من ايام العثمانيين الى الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال.

والكتاب صدر حديثا ورافق مؤلفه كل الاحداث منذ ان التحق بالمدرسة الحربية عام 1971 وتخرج منها ملازما في العام 1974، قبل اشهر من وقوع الحرب الاهلية، التي واكبها وعاش مآسيها، والمراكز التي خدم فيها، حيث توطدت علاقته بالكثير من الشخصيات السياسية ومنها النائب السابق سليمان فرنجية، كما تربطه علاقة وطيدة برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.

الكتاب – المرجع، لم يهدف العميد يحيى من ان يكون مذكرات له، في خدمته بقوى الامن الداخلي، فهو دخل من باب تاريخ لبنان منذ المتصرفية وحكم العثمانيين الى الانتداب الفرنسي، ودولة لبنان الكبير، ولبنان ما بعد الاستقلال وازماته. ليخلص في ختامه الى مشروع برنامج لتطوير وتحديث الشرطة القضائية الغاء الطائفية السياسية للانتقال الى بناء المؤسسات، حيث نجح العميد يحيى في المراكز التي تبوأها بشهادة زملائه ومن تولوا وزارة الداخلية ومراجع سياسية متعددة الانتماءات، اذ مارس الحيادية في داخل مؤسسة قوى الامن. (الكتاب من 639 صفحة والحجم الكبير. صادر عن الدار العربية للنشر).

 

أسماء قادة الشرطة القضائيّة

بعد مرسوم تنظيم قوى الامن كوحدة فيها، تسلم اشخاص مدنيون وعسكريون قيادة الشرطة قبل الاستقلال وبعده، لكن في عهد الرئيس فؤاد شهاب صدر المرسوم الاشتراعي رقم 138 تاريخ 12 حزيران 1959 تنظيم قوى الامن الداخلي، وزعها الى وحدات، ومنها الشرطة القضائية واعطاها صلاحيات ومهام الضابطة العدلية في كل لبنان، وتولى قيادتها التي كانت من حصة الطائفة الدرزية كل الضباط الآتية اسماؤهم»:

المفوض العام الممتاز نسيب ابو شقرا (1959- 1967)، المقدم رؤوف عبد الصمد (1967- 1973)، العقيد فؤاد الغر (1974- 1978)، العقيد علي الحسين بالوكالة (1973- 1974)، العقيد محمود طي ابو ضرغم (1978- 1982)، العقيد عصام ابو زكي (1984- 1993)، العميد الركن سليم سليم (1997- 1997)، العميد سليم ملحمة (1997- 1998)، العقيد الركن سمير صبح (1999- 2003)، العميد فؤاد ابو خزام (2003- 2005)، العميد انور يحيى (2005- 2010)، وتوالى على قيادة الشرطة القضائية بعد العميد يحيى، العمداء ناجي المصري، اسامة عبد الملك وماهر الحلبي وما زال.

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …