رواية جنون ذاكرة أو ذاكرة المغرب المنسي

محمد مخلوفي
     أيها الكاتب.. إنك لتقول في الأسطر الأخيرة من بوح ذاكرتك: “سأوقف ذاكرتي هنا، سأتوسّل جنونها كي يتوقف”. ثم أنتَ تضيف معتذراً: “واعذروني! لن أكتب كلمة “نهاية” فقد أخبرتكم في البداية أنه لا نهايات هناك، وأن وفائي للبدايات فقط”. وتودعنا بأمل لقاء جديد: “إلى بداية أخرى بحول الله”. بذلك تكون قد جعلتنا نسافر مع ذاكرتك إبّان سنة تعيينك مدرساً في مجموعة مدارس بني أخيار. أنت المتحدر من مدينة طنجة تشهد نفسك وقد قذف بك خارج هذه المدينة إلى تلك “البلدة الصغيرة الواقعة على الطريق الوطنية الرابطة بين مدينتي شفشاون والحسيمة”.
     ولا أخفيك أنه بالنسبة لمن أنس منذ سنواته الأولى الإبحار مع السندباد البحري وما صادفه من أهوال في الجزر الغريبة المجهولة، تجعله روايتك يتهيأ منذ أسطرها الأولى للإقلاع في رحلة حافلة بألوان من الغرائب والمفاجآت أقلها، التقلبات التي سيكابدها شاب في مقتبل عمله التربوي، لا يَلبث أن تتكشف له الأيام المتتالية عن واقع آخر، قروي، يضطرم بصنوف من التجارب تفتقد كل صلة مع المنطقة التي نشأ فيها، وتلقى تعليمه، إلى سلك بوابة الوظيفة.
     والحق أن الرحلة التي شددتنا إليها لتعد بضروب من الصور المستترة، المكتومة، الحيّة مع ذلك والمتواجدة في بقعة من وطننا المغربي، المختلفة تمام الاختلاف عن ضروب الحياة في مدينة كبيرة كـ”عاصمة البوغاز”. وما قولُ من يطّلع منذ البدء على هذا المَطلع المشوِّق والمستفز لفضول كل هاوٍ للوقوف على ألوان أخرى من صور الحياة في مناطق منتشرة بين قمم الجبال وفجاجها وسهولها ووهادها: “الطريق طويل ومتعرج، نتجه نحو قبيلة “بني خالد” المنتسبة لقبيلة “غمارة” التي يؤكد بعض المؤرخين أنها تتأصل من قبائل “مصمودة”. تنشط هذه المنطقة في زراعة “القنب الهندي” أو ما نسميه في المغرب بنبتة “الكيف”. جل فلاحي هذه المنطقة يعيشون حياة الفقر رغم ما قد يتوهمه البعض من أن استخلاص مخدر الحشيش من القنب الهندي سيجعل زارعيه أغنياء. لا يغتني من وراء “الكيف” إلا الوسطاء من تجار الحشيش وسماسرته. أما الفلاحون فبالكاد يعيشون” (ص 11 من الرواية جنون الذاكرة أو حين عُينتُ مدرّساٌ، لعثمان بن الطيب، دار ارتقاء للنشر الدولي والتوزيع، جمهورية مصر العربية، سنة 2022)؟
     الرحلة بدأت إذن، وما على القارئ إلا أن يحضّر زاده، وينظّم ساعات سفره مع صاحبنا عثمان، الذي يجعلنا اسمه نستحضر صفحات أخرى من ذلك العهد الذي ما إن غادره الرسول الكريم، حتى تناسلت فيه الفتن بين صناديد الصحابة وسيوفهم، ، فكان لهم قدرهم، هم الآخرون، الأغرب من غريب.
     الحق أنني، أخي عثمان، كنت متعطشاً للوقوف معك لحظات، قد تطول أو تقصر، مع تلامذة تلك البقاع، وأحداثهم، وتعاملهم مع دروسهم، وطريقة تفكيرهم، وتصوراتهم، وأحلامهم، لولا أن القلم فضل الميل بك إلى الغوص في طباع بعض أشخاص المنطقة والتعرض لطرق ممارساتهم لنفوذهم هناك مع تسليط أضواء ساطعة على ذلك الواقع الجبلي شبه المهجور من حيث العناية بمرافقه الحياتية الضرورية من توفير للماء ووسائل الصحة، وإصلاح للطرق وتوصيل للكهرباء، فضلا عن النهوض بالتعليم، بنايات ومناهج…
     ولعل في الفقرة التالية ما يغني عن كل تفصيل في الجانب التربوي: “في بداياتي… تملكني الغضب مراراً وتكراراً وأنا أتساءَل كيف لوطن أن يَعُقَّ أبناءه؟ كيف تأتّى للمسؤولين أن يحذفوا الناس هنا بكل ضروب التهميش، فلا أثر للدولة، لا شيء يدل على وجودها سوى أقسام آيلة للسقوط وأستاذ تفننوا كثيراً في زرع الشوك في طريقه فوصلهم شظايا إنسان. شظاياه التي تناثرت أكثر وأكثر عندما وجد نفسه مطالباً بتدريس مستويين وثلاثة وأربعة في نفس الحجرة ونفس الوقت… مطالباً بتقديم عشرات المواد واستكمال مقررات طويلة جرداء لا زرع فيها مثل صحراء قاحلة… والمقابل؟… دراهم معدودة” (ص 58).
     كلامٌ رُصَّ رَصّاً كعباراتِ برقية. يلخص بإيجاز واقع الحال، ويجعل التفاصيل تطل من وراء المجمل، فتنشط الذاكرة في استحضارها وإغناء أمثال هذا المقطع بها.
     على أن الراوي لا يهمل ردود فعل الشاعر إزاء هذا الواقع المضني الذي يأخذ بتلابيب الشغيلة التعليمية. وإنه ليسمو في وصف وقفة احتجاجية لهؤلاء أقاموها ذات لقاء في مدينة تطوان، حيث حضر أطوارها وكشف الغطاء عن جوانب منها. بل إن القلم ليهزه التضامن هزّاً فإذا به يتمخض عن منظومة شعرية اختار لها عنوان: ـ فوق الرصيف ـ
مهووس أنا..
أقسم أني كذلك..
ويقسم ظلي المتهالك..
“حرية… كرامة… عدالة اجتماعية…”
آه تليد..
وبطعم القصيد..
يسكرني هذا المزيج..
تسكنني تلك الأهازيج..
وأبدية الشعار..
كصوت البحار..
في المحار..
“حرية… كرامة… عدالة اجتماعية…”
صفحات الزمان..
تقرع الآذان..
حوافر خيل..
شَذْوُ رباب..
عروش وسلاطين..
أكواخ من طين..
صوت مدافع..
سياسيٌّ يرافع..
أصوات تمجّد الخيانة..
كواهل أثقلتها الأمانة..
“صامدون… صامدون… صامدون…”
أغدو ثملا..
آه منك يا هوس..
صفحة أخرى كتبت..
سيقرأها مهووس من بعدي..
فالهوس..
هو ذاك المرض المعدي..
يكفيك عقل وقلب..
ليصيبك..” (ص 92 ـ 93)
     لكأنما هي وصفة طبيب تشير إلى مكامن الداء وتصف أسباب العلاج.. فالهوس داء معدٍ، ومصدره عقل وقلب، أما لسان حال هذا الهوس، فهو اللازمة “حرية… كرامة… عدالة اجتماعية…”. فقد أُلقيت المنظومة الشعرية على رؤوس الأشهاد في الوقفة الاحتجاجية، وتردد القول مترجماً لما تجيش به سائر النفوس:
“تسكنني تلك الأهازيج..
وأبدية الشعار..
كصوت البحار..
في المحار..
“حرية… كرامة… عدالة اجتماعية…”.
. ـ .
     الوقفات متعددة، وما عكسه القلم هنا من تلك الصفحات، إنما هو على سبيل التشويق لمطالعة الأصل بكامله..
     فمرحى لصاحب قلمنا الفذ، ولروايته التي ما إن تفرغ من سطورها، حتى يعاودك الحنين لمعاودة شد الرحال معها مجدداً. وكن واثقاً من أن الإقدام على إعادة الاتصال إنما يسفر عن تجديد متعة، وإثراء فائدة، وتنشيط صحوة، وإحياء رغبة في الوقوف مع المزيد من هذا العرض المتدفق الذي يختمه صاحبه بقوله: “اعذروني! لن أكتب كلمة “نهاية” فقد أخبرتكم في البداية أنه لا نهايات هناك، وأن وفائي للبدايات فقط.
إلى بداية أخرى بحول الله” (ص 168 ـ الصفحة الأخيرة)
.
     وداعاً، أخي عثمان بن الطيب، وعلى أمل أن نلتقي قريباً، إن شاء الله تعالى، في عمل جديد من أعمالك الإبداعية الراقية.

 

شاهد أيضاً

ليلة الصدمة

تشرين- د.م. محمد رقية: عشرات المقالات والكثير من التعليقات نشرت عن الرد الإيراني على الكيان …