ديناميكية السرد والنقد الضمني في رواية لبابة السِّر للروائي شوقي كريم

 #إبراهيم_رسول 

التأسيسُ لنوعيةٍ معينةٍ من السرد, يستلزم أخذ عينات كثيرة ولتجارب متنوّعة حتى تتضح الملامح العامة لنوعٍ مثل هذا, إلا أنّ بعضَ الأدباء جعلوا من نِتاجهم يؤسسُ لملامح وطُرق جديدة, وهؤلاء هم المبدعون, الذين لا يعرفون أن يكتبوا إلا الإبداع. لبابة السر تعتبرُ من الروايات التي أخذت أسلوبًا مميزًا من حيث طريقة السرد أي الآلية التي كُتبت بها الرواية, ولو تتبعنا الشيفرات الكثيرة التي وردت في الرواية لاستطعنا أن نأخذ عينة بحثية تنفع للدراسّة المعمقة!  فالعنوانُ يبدو أول الشيفرات التي تحتاج إلى إيضاحٍ كونه يمثل أولى العتبات التي ندخل من خلالها إلى عالم الرواية الفسيح. هذا النوعُ من السّرد لا تستطيع أن تُلمَ بالقصةِ فهو مستمرٌ بديناميكية لا تنقطع. طبيعة هذا السرد أنّه يُحافظُ على تجدده لمدة طويلة , فهو ليس قصة من القصص التي لها بداية معروفة ونهاية معلومة, فهو ينفتحُ على قراءاتٍ متعددة, والنوعُ مرهقٌ جدًّا للقارئ العادي, كونه يُحاكي القارئ النوعيّ , الذي تستهويه لُعبةِ السّرد وينجذب للصعب المستصعب.

تأخذنا رواية لبابة السر للروائي العراقي غزير الانتاج شوقي كريم الصادرة عن دار الشؤون الثقافية في  بغداد بطبعتها الأولى في سنة 2020 إلى رحلةٍ ماضويةٍ أو عبر استدعاء الماضي وتوظيفه التوظيف الفنّي الذي يُقرّبه إلى المتلقي. لعلَّ عنوان المقالة في شقهِ الأولى الذي نقصد بهِ, هو الاستمرارية في سرعة منسوب السرد الذي لا يتوقف, وأنت واجدٌ في كل فصلٍ من الرواية, أنّ الراوي العليم لا يكاد أن يلتقط أنفاسّه, هذه الاستمرارية بمستوى هذا السّرد لن يتمكن منها إلا المبدع المميز, لأنّ صعوبةَ أن تواصلَ السرد دون أن تعيا أو يقل منسوب التدفق السردي لهو الشيء الذي لا يتمكن منه إلا الخبير في السرد, العالم بأسرارهِ ومتاهاتهِ, فالديناميكية تستدعي شروطًا لا بدَّ من توفرها حتى تُحافظ على فنّيةِ العملِ الأدبي, ولضمان استمراريةِ بقاءه متحدّيًا الزمن الذي يأكل ويلفظ كلّ ما لا يواكب الحياة الجديدة , المواكبة التي تُسايرها في كل حالاتها وتقلباتها, فالشروطُ التي نقررها في ديناميكية العمل الأدبي, نستطيع أن نلخصها بالآتي:

الأول: ألا تُحشر أشياء تُبعد الرواية عن فنّيتها وفكرتها الرئيسة, أي ألا نضمن الرواية أشياء لا تقدم لتطورها أي تطور ولا تعطي لها ما يزيدها ألقًا فنّيًا.

هذا الشرطُ من أهميتهِ يجب أن يكونَ في مخيلةِ المبدع, وما نجده في رواية لبابة السر, أن الكاتب قد حافظَ على هذا الشرط بصورةٍ واضحةٍ, فأنت لا تجد السرد الثانوي غير المفيد لتطور حبكة الرواية , فالكاتبُ لم يسرد لأجل السرد فحسب, بل كان يواصل سرده بفنّية عالية واحتراف متمكن, وهذا يبدأ من لحظة تدوين الرقيم الأوّل حتى آخر الرواية, تجد المنسوب السردي يُفصح عن شخصية المبدع, فهو لا يعرف السكون في هذه الرواية, لذا, تجد الرواية بالإمكان أن تقرأ غير مرّة, دون أن تشعرَ بأنّك مللت أو أنّك قتلت أحداثًا وقتلت عنصر التشويق والاثارة فيها.

الثاني: الحفاظ على عنصر التشويق

نعم, عنصر التشويق هو الأهم في جعل العمل الفنّي مقبولًا, القبول الذي يجعل من المتلقي يوفر ساعات كثيرة ليقرأ, وهذه من مشاكل ما بعد الحداثة, فالحياةُ صارت تريد الفائدة والاختصار , لكن الأعمال الكبيرة كيف يمكن قراءتها دون أن يُصاب المتلقي بضياعِ الفكرة الرئيسة ومن ثم يأتي الملل والنفور الذي يكون السبب في ترك مواصلة القارئ, فرواية لبابة السرد من الروايات الكبيرة , إذ تبلغ عدد صفحاتها 464 صفحة, فتبدأ الرواية من لحظةٍ بدايتها تعجبية عبر التساؤل ( ولمَ خلت المدينةُ المشعولةُ التوسلات من عطر وجودهِ العابق عبر قرون الامتداد, كنا نراهُ أينما اتجهت تراتيلُ ألسنتنا , نهمسُ لحضورهِ فتُملأُ المعابد بشذا الصندل والآس وتعتمرُ قلوب الكهنةِ بنداءات التكبير لاستلهامِ, نصبره أملاً…) من هذه اللحظة الأولية ينفتح السؤال عن هذه الشخصية التي يبدأ الحكّاء المبدع بوصفها , هذه الشخصية التي يهيمن عليها خطاب وشخصية الراوي العالم بكل أسرار روايته. ميزةُ التشويق هي التي تعطي الحافز والدافع لقراءة العمل الفنّي, فالحكايةُ إذا جرّدتها من هذا العنصر أصبحت كلامًا وليس كلّ الكلام يُدعى أدبًا !

الثالث: هو التنوعُ في الأسلوبِ من حيث البناء الفنّي, فهذا صفةٌ مميزةٌ يجب أن تتوافر في الرواية مثل هذا النوع, لأنّ الأسلوبَ الواحد يكاد أن يقتلَ الديناميكية التي نقصدها والتي هي ميزة أسلوبية تقنية في هذه الرواية التي نقرأها القراءة النقدّيّة, اشتغلت هذه الرواية على تقنياتٍ كثيرةٍ وهي تفتح المجال على قراءاتٍ متنوعة كل قراءة تأخذ المثال من العينة ذاتها, وهذه ميزة الأعمال التي تريد أن تُقاومَ الزمن وتثبت حضورها النوعيّ في الأدبِ, وتناوب أكثر من أسلوب وتقنية في الرواية, فالأسلوبُ التتابعي هو الذي يهيمن حينما يسرد الروائيّ قصة بأحداثها العامة والخاصة ولكن الأسلوبَ التناوبي هو الأسلوب الخارجي أي الذي يكون بين حكايتين اثنين, فالتأرجح بين الحكايتين عبر تقنية أسلوب التناوب, مكّن الروائي أن يتلاعب بالزمن السردي التلاعب الفنّي, وهذه صفةٌ واضحة في هذه السردية.

نقولُ في ديناميكية السرد, أنها الحركية الفاعلة التي لا تعرف التوقف أو الاستراحة المؤقتة حتّى, فالخزينُ التخييلي الواسع, أمدَ الكاتب بهذه الديناميكية المستمرة حتى بلوغ أقصى نقطة في الحبكة بل حتّى حلّها الحلّ شبه النهائيّ, ونقول شبه النهائي, لأنّ الحبكة تنفتح أيضًا على قراءاتٍ تأويلية متعددة. الحركةُ المستمرةُ في التكنيك والتلاعب في الزمن السردي وتناوب أسلوبي هو الذي نعني به ديناميكيًا, المتلقي سيستمر مع المبدع, يأخذه ذات اليمين وذات اليسار ويُقدمه هنا ويؤخره هناك, هذا التنوع هو حركية مستمرة لا تكاد أن تشغل المتلقي الروتين السردي وتجعلهُ لا يفكر بالاستراحة والتقاط الأنفاس, بل تجعله دائب التساؤل عن حفريات السارد وأسئلتهِ غير النمطية, لأنّ الروائي يغوص بنا إلى الوراء كثيرًّا حتى لتشعر بأنّك في أوّلِ الحضارة , هذا الاستدعاء والرجوع إلى الماضي وبثّ الحياة والروح فيه, لم يكن بالأمرِّ الهيّن المقدور عليه, بل أنت لا بدَّ أن تعدَ العُدةَ اللازمةَ لتأخذَ بتصوّرِ تلكَ الحياةَ, وتصوّر الإنسّان في ذلك الزمان, لتعيد الصياغة بأسلوب سردي جديد. أخذنا السّرد في سياحةٍ تاريخيةٍ في أقصّى التاريخ العراقيّ, هناك حيث البدايات الأولى لبلدٍ يكون عنوانًا حضاريًا. المرجعياتُ الثقافيةُ هي عُدةُ الكاتب في سرديتهِ هذه, فهو المعبأ بصورةٍ جيّدةٍ فيما يكتبه, وهنا تكمن سر هي الديناميكية فهي لا تقوم على أرض  خوة من الوعي والثقافة, لأنّ أساسَ استمراريتها هو أن تمدها بكثير من التخييل ولمّا كان التخييل يعود بك إلى تاريخٍ قديمٍ, وجبَ أن ترجعَ إليه بقراءةٍ معمقةٍ وموّسعةٍ, فالديناميكيةُ لا تريد الاستراحات ولا تعترف بها. تلاعب الكاتب بالمتلقي ذات اليمين ومارسَ معه لعبة فنّية, جعلت القارئ يرغب بهذه المخاتلة والتلاعب بتقنياتٍ فنّيةٍ تُعيد له رغبته في قراءة الأعمال الأدبية التي لا تُستهلك قراءتها, هذه الصفةُ لا توجد في الرواية كونها تحاول أن تُجاري الزمن وتواكب ذوق الناس لمدةٍ زمنيةٍ قد تطول أو تقصر إلا أنّها مستمرّةٌ في حفاظها على هيكلها البنائيّ.

ونأتي إلى الجزء الثاني من العنوان المقالي هذا, والذي وردَ بكثرةٍ تدعو إلى الوقوفِ عنده, جاءَ النقدُ مبطنًا, أكثر ما توجه نقد السارد إلى الآلهة  التي تتخذ العديد من الأشكال لتهيمن وتسيطر على العامة من الناس, مارسَ الكاتب نقده بالأسلوبِ الروائيّ ذاته وليس بأسلوبِ الناقد وهذه ميزةٌ إيجابيةٌ في تقنيتهِ السردية, أنّه جعلَ الخيال الروائي يقدمُ مادته دون أن يُنظرَ نقديًا , لأنّ النقدَ ليس مجاله السرد , به له طريقته ولغته وأسلوبه الخاص, وهذه الصفةُ جعلت الروايةَ تأخذ الطابع الفنّي محافظة على شكلها العام وقالبها الروائيّ بقي هو القالبُ الرسميّ لها.

جاءَ الخطابُ الناقدُ بصورتهِ الضمنية, عبر توجيهِ إشاراتٍ رمزيةٍ إلى الآلهة, وهنا يتضح أنّ نقمةَ الراوي العليم ليس على كل آلهة أو أنّه ناقمٌ منها لعملها ولطريقتها , بل نقده جاء نتيجة الأثر السلوكي الذي تُحدثهُ, وما ترسله بين الناس, ولعلّ خطابَ الكراهية هو الأكثر حضورًا في ذهن السارد, إذ يقول في الصفحة 11: ( فجأةً, اخترقَ بابلَ ليلُ الكراهية, فكرهت وجودها رغم اعتقادها الأزلي من أنها مدينةُ الربِّ التي لا يمكن أن تطالها خيول الرعونةِ وكراهيات المعابد وزمنٌ تكرهُ مدينةٌ مثلها ذلك الحضور الأبهى, تحترقُ السماءُ رويدًا.. رويدًا يجثو عرش مردوك عندَ قدمي الرذيلة.) هذا النصُ يكشف فكرة المبدع ورؤيته في عمل الآلهة, واختارَ مدينة بابل, المدينة المتصالحةُ مع نفسها والمنسجمة مع باقي ألوان الطيف, الكراهيةُ خطابٌ غريبٌ على هذه المدينة, هي مدنيةٌ بروحها, ودلالة مفردة ( اخترق, ليلُ, فجأةً) هذه الكلمات تشير إلى أن المدينة وادعة , ساكنة ومستقرّة, ودلالة المفردات الثلاث, إشارةٌ إلى أن هذا ليس من طبيعة المدينة! وهي أمورٌ طارئةٌ جاءت بليلٍ بهيمٍ وبصورةٍ مفاجئةٍ غير معروفةٍ.

ميزةُ النقد الضمني في الروايةِ موضع القراءة, هو أنّه لا يضع الأشياء بموضعها الصحيح ويكشف النقاب عن المركزية الأسطورية التي خلقتها الآلهة لتحجب نفسها عن الناس, وهذا الاحتجابُ هو فرض حضورُ سلطوي ولكي ينظر العامة إليها على أنّها مُسوّرةٌ ومحميةٌ من الربِّ وأنّها اتحادٌ معه في أحيانٍ كثيرةٍ, كشفَ الروائي إلى هشاشةِ هذه السلطة غير الروحية كونها خُلقت أو جاءت لاستغلال الناس والسيطرة على عقولهم, وفرقٌ كبيرٌ بين السيطرة واستغلال العامة وبين أن تهذبَ أخلاقهم وتوجههم الوجهة الصحيحة الاخلاقية المستقيمة!

شاهد أيضاً

شعبان قدم التعازي بوفاة السعدي في مخيم عين الحلوة

قدّم الأمين العام لحركة التوحيد الإسلامي الشيخ بلال سعيد شعبان، التعازي بوفاة مسؤول عصبة الأنصار …